فتح زجاج سيارته وأشار لها بدرهمين، في حركة آلية، اعتاد القيام بها مرارا من غير أن يلتفت. اختفت هي في رمشة عين وتركت يده مبسوطة، أدار رأسه نحوها في حركة خاطفة فتبخرت وسط المارة. تزحزحت ذاكرته عن سكونها الرابض ورتابتها الجاثمة وتخلخلت مفاهيمه الراكدة. ما لمح من قوامها المنحوت وإن انحجب جله خلف ذاك الرداء الأسود يذكره بلحظة ما، لم يسعفه التذكر المستميت على استرجاعها...
وهو
ينظر شاخصا إلى فنجان قهوة الصباح أمامه من غير أن يحركه، قفزت إلى ذهنه أسماء
عديدة وتجسدت في مخيلته أجساد كثيرة لم يجد من بينها ذلك الشبح المندثر. التفت إلى
الدرهمين وبدأ يعبث بهما كأنه يستنطقهما؛ تارة يرمي بهما في السماء ثم يلتقطهما بحسرة
وطورا يدحرجهما فوق أوراقه المبعثرة على مكتبه الخشبي المستورد.
مر
من نفس المكان وفي نفس الساعة لعله يجدها، تفحص الوجوه بعينين متعبتين حمراوين من
طول السهر والتفكير المزمن فلم يهتدي إلى أي أثر. سأل عنها رفاقها في الدرب؛
فأخبروه باسمها المستعار فلم يزده إلا حيرة. سألهم عن أصولها؛ فخرج خالي الوفاض...
هي
مجهولة قدمت من مجهول لا تتحدث إلا نادرا ولا تفرج عن شيء يخصها. هكذا أخبروه.
خطا
خطواته عائدا يتجرع مرارة الخيبة فسمع صوتا خفيضا يناديه من الخلف:
-
عمي ..عمي...
التفت
نحوه بعينين حائرتين وجسد منهك.
-
أعرف مكانها...
انفرجت
أساريره ودس في يدي الصبي بعض النقود وتوجه مسرعا إلى حيث أرشده، يتذكر فجأة تتمة
الجملة:
-
.. لن تجدها قبل الساعة العاشرة ليلا...
ضرب الرصيف بقدمه ولعن حظه العاثر وتمنى أن
يتحول النهار ليلا وتمضي اللحظات سريعا، ذهب حزينا إلى غاية اصطنعها لتزجية ما
تبقى من اليوم.
تمتزج
في هذا الفضاء الغريب الذي قدم إليه بمحض إرادته، أدخنة كثيرة تكاد تحجب رؤيته
وتخنق أنفاسه. تفحصته العيون من كل اتجاه كأنه فريسة وقعت في عرين أسود جائعة. شعر
بالحركة قد توقفت من حوله وبالهواء قد نفد من المكان. كاد يقع مغشيا عليه من
الاضطراب لكنه تماسك وتشجع واستمر يتحرك فوق أرض يحسبها تموج.
لمحها
هناك، في زاوية معتمة، حاولت الانسحاب بخفة؛ فأطبق على كتفها وتجاهل العيون التي ما برحت تراقبه في صمت وتحسب عليه حركاته
وسكناته. التقت النظرات المشتاقة مع تلك المكسورة وتناسلت الأفكار وتزاحمت
الأسئلة في رأسه ولم تجد لها مخرجا تنفد منه؛ فتصادمت في رأسه وكاد يصاب بالدوار.عرفها
وهي له منكرة، طأطأت رأسها خجلا وانحنى عليها بحنان ورأفة :
-
لن أتركك ...
سحب
يدها لتغادر المكان فوجد نفسه في الشارع ملقى على ظهره وعلى رأسه يقف شابان قويان
يحذرانه من معاودة الكرة. نفض الأتربة والغبار عن ثيابه ثم لبد في ركن خلف كشك
لبيع المأكولات الخفيفة لعله يحتمي من لسعات البرد القارس ومن عيون المعتدين.
طوى
الليل خيامه وشد رحيله وأقدم الصبح بأشعته الدافئة ونفحاته الرطبة. بدت له تترنح
في كل اتجاه، تسقط ثم تستند إلى الرصيف لتنهض ثم تسقط من جديد، لا تكاد تقف على رجليها
كأنها ريشة ثعبت بها الريح في فضاء الكون الشاسع. ضمها إلى صدره بحنان فتطلعت إليه
باستحياء، ثم تلفظت بكلمات متثاقلة ومتقطعة كطلقات مدفعية حربية ورائحة الخمر
والسيجارة تفوح من ثيابها الكاشفة ومن كل جزء من جسدها:
-
أنت ثانية.. ماذا تريد؟.. يوجد مثلي الكثير.. ابحث هناك،
وأشارت إلى الحانة المجاورة...
تلمس
وجهها ببطء ووقف على عنف الزمن فوق كل رقعة من جسمها
البائس، اشتعلت في دواخله نار الشوق وخمدت نار الانتقام، عاودت الأحلام الجميلة
تراوده في حلة بهيجة، وأطلق العنان لخياله ليبني صرح
السعادة بهدوء وهو مقين أن الدنيا قد سلبت من كلاهما ما يكفي ولن تسلب المزيد، لا
بد لها أن تكفر عن خطاياها وتمنحهما من السعادة ولو قليل.
حملها
إلى منزله الفخم وحدثها في الطريق عن نفسه وعن المنصب الذي أصبح يتبوأه في البلد
وعن ممتلكاته وعلاقاته النافدة من أهل السياسة والفن والثقافة وغيرهم من كبار
الدولة والمجتمع.. كانت هي من حين إلى أخر تكسر حماسه المتواصل بنظرات تائهة تنفد
إلى قلبه كالسهم المسموم، تحمل بين خباياها هموما وكروبا من ماض مشؤوم وخوفا من
مستقبل مجهول.
وضعها على سرير أبيض، في غرفة جميلة لونها زهري
ثم خرج. حدقت بالمكان من كل جانب وتفحصت ما فيه حتى استقرت عيناها العسليتان على
صورة لهما تحت شجرة معمرة طالما التقيا تحت ظلالها الناعمة وحمتهما من أشعة الشمس
الحارقة وحجبت عنهما عيون الحساد والمتطفلين. ذرفت الدمعات الساخنة فوق الصورة قبل
أن تعيدها إلى مكانها وسافرت بها الذاكرة إلى تلك اللحظة التي تقدم لخطبتها ولم
يكن يملك من الدنيا نصيبا فرفضه أبوها وهي موقنة أنه يحبها وتزوجت مرغمة من صديقه
الغني وهي تعلم أنه عابث مستول، وتأملت حالها المشؤوم.
دخل
مزهوا فرحا رفقة أطباء كثر يحدثهم عنها ويطلب منهم علاجها من آفات الجسد والروح،
رمقته بنظرة غريبة، راعته واقشعر لها بدنه، لم يفهم سرها فلم يكترث لها.
همً
طبيب بفحصها فألقت بنفسها من النافدة وحلقت في الفضاء، في مشهد يحبس الأنفاس ويسلب
الألباب، أسرع إلى الأسفل وحملها بين ذراعيه جثة مضرجة بالدماء وتحسس وجهها الشاحب
الأصفر بلطف، وخلل شعرها الذهبي بأصابعه وسكب فوق جسدها المكدوم عبرات وعبرات، ثم
أخرج الدرهمين من جيبه ووضع أحدهما في يدها اليمنى والأخر في يدها اليسرى ورفع
رأسه مناجيا السماء ومتسائلا عن ماهية
القدر المكتوب وجوهر الاختيار مشؤوم...