"رقص السناجب" رواية جديدة؛ للروائي العراقي "عباس خلف علي"، صدرت طبعتها الأولى سنة 2020، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت/لبنان. التوزيع في الأردن: دار الفارس للنشر والتوزيع. عدد صفحاتها: 205 صفحة. عدد العتبات: 14عتبة. عدد التصديرات: 10، جاءت على رأس الصّفحات الآتية: ص 05، ص 07، ص 09، ص 40، ص 48، ص 63، ص 82، ص 119، ص 147، ص 194.
تقوم الرواية على بنية سردية مُشْبَعة
بالحمولة التاريخية، الوجدانية، الثقافية/ المعرفية. "رقص السناجب" هي
عُصارَةُ الفكر الإنْساني حين يسْتنطق تاريخ الصراعات القديمة والمُعاصِرة في
مِنْطقةٍ حسّاسةٍ، لها وزْنُها واعتبارُها في الجُغرافيا العربية، وما لحِقَها منْ
تجاوزاتٍ تاريخية؛ أنهكتِ الأرْضَ والعِباد... تسير الرواية بعناصرها الفنية؛ داخل
معالم مُتشعِّبة في مسارات الحكي؛ حيث تتلاحمُ الجزئيات لترصد فلسفة الرفض لكلّ تزويرٍ،
يَقْلبُ الحقائق التاريخية، أو يمسّ الهوية وهي في محراب القداسة، كما تؤثّث لفضاء
صوفي يرقى بالنفس إلى حيث مُبْتغاها..
سخَّرَ المُبْدع العديد من الشخصيات الخالقة
للأحداث، والمُحرِّكة لها، كما تقمّص السارد دور البطل الذي يراقب التحرّكات دون
التدخل في مساراتها. ويظلُّ السارد ذلك البطل الذي نستخلص مِنْ مُرَاقباتِه
الخارجية؛ جُلَّ المحاور البانية للفعل السردي في أقصى مظانه والتي يمكن استنتاجها
على هذا النحو:
الحمولة التاريخية:
يمكن القول: « إن ارتباط الرواية
بالتاريخ؛ يجعلها المرجع الحقيقي والأصلي الذي نستطيع من خلاله قراءة التاريخ
بشكلٍ قد لا نقرأه في كتب المؤرّخين؛ التي قد لا يحمل المؤرخ أثناء كتابتها؛ ما
يحمله الروائي من أحاسيس وانفعالات لخفايا الذاكرة، فالرواية هي تاريخ متخيلٌ؛
داخل التاريخ الموضوعي. » أمين العالم، الرواية بين زمننا وزمنها، مجلة فصول،
1993، ص 13. من هذا المنظور، يمكن مقاربة رواية "رقص السناجب" واستخلاص
ما يلي:
·
تأثّرٌ كبيرٌ بأزْمِنة الحرْب... « الله في عونك ياعراق » الرواية، ص 26، وإشارة
السارد إلى كتاب "عباس العزاوي"؛ "العراق بين احتلاليْن" في
قوله: « لا أدري بالضبط؛ أين أنا؟ هل بالفعل أسمع نداء أمِّي، أو أنّي أتناثر
كأوراق "العزاوي" في هذا البستان الذي تتكاثف حكاياه...» الرواية، ص 38.
·
إحساس عميق بسوداوية الوضع... « تَسْكُنُنا العبَرات
الثَّكْلى بالحُروب والحوَادث، والمُلمَّات والِانْكسارات والهزَائم المُتعاقبة..» نفسه، ص 11. « لا أملك الحقَّ في
تغيير تاريخ النكسات..» صص، 15، 16. « تضِيقُ الصُّدورُ بِمَرَاثي أعْمَارِنا..» ص 10. كلها دلالات تصور
تلك « المتغيّرات النفسية التي تحدث داخل الإنسان القلق بإيقاع الزمن.» نبيلة إبراهيم، نقد
الرواية من وجهة نظر الدراسات اللغوية الحديثة، مكتبة غريب، د ت ط، ص 03.
·
إدراكٌ واسعٌ لتاريخ المدينة المَحفور في وجدان السارد « ...تاريخُ مدينةٍ كُتبت
سطورُها بالدّم، ولمْ تزلْ عناقيدها تُرْمي بحجر، وفي كل مرّة تتجاوز لحظة الزمن
بقضّهِ وقَضيضِه » ص 59. « المدينة الغارقة في مُسْتنْقع الأطماع (...) آثارُ أقدامِ الغُزَاة
القُدامَى والجُدُد، أبوابُ المدينة تحْمِلُ تارِيخها..» ص 60. « ... لِذا كانت المدينة؛
تعيش الرّعبَ وتلوذ بالخرافةِ هرباً من جحيم الطغيان. » الرواية، ص 38. « كيف تحدّتْ شواخص الطف والنواويس والغاضرية ونينوى والعلقمي أسوار طاق
الزعفراني وباب المخيّم ومحلة الطّاق وباب السلالمة، ومَنْ جرّد المدينة من شرايين
أنهارها ذات المحار واللؤلؤ ورقرقاتها المتموّجة على ضفاف الأحلام....» الرواية، صص 160، 161. وبِذِكْرِ المدينة؛
سيُعرّج السّارد على المَعْلم الأثرِي المعروف بـ: "القنطرة البيْضاء"،
فيكشف تفاصيل تغيُّرِ النّظرة إلى هذا المَعْلم التاريخي الذي سيدخل فضاء الأساطير
والمرْوِيات العَجيبة؛ مما يجعله مكاناً جديداً للتّبرّك من طرف العوام من الناس؛
خاصة النساء « كانت القنطرة على
رأس المقامات؛ تشيع عنها القصص والروايات، ومن أسهب في هذا التأثير؛ هم المشايخ
الذين قرّبهم إليه؛ "الكهية" (نائب الوالي)، فكانوا يلوكون بألسنتهم
الأعاجيب والغيبيات بأسلوبٍ منمقٍ (...) سهل الانسياب إلى الأفئدة، خاصة أفئدة
النساء (...) فأخذن يروين بإسهابٍ ما شئن عن طهارة القنطرة كبقعة مباركة، بعضهنّ
يجْزِمْنَ بأنّهنّ شاهدن خيولاً مُطهّمةً بيضاء، يمتطيها شبّانٌ؛ وُجوهُهُمْ تشعُّ
نوراً كالاستبرق، تحمل مشاعلَ، فوهتها تنفخ منها النار بلا انقطاع. وأخريات رأين
القنطرة مرفوعة عن النهر؛ بأطراف الأصابع وسط التهليل والتكبير...» صص 104،105.
·
انجذابٌ باهر نحو رمز المكان « مولانا الشيخ "فضولي بغدادي" الأمير
المتربّع على عرش فقراء المدينة..» ص 37، ومحاولات هذا العالِم المتصوّف من أجل فتح أبواب الفرج أمام الناس
بالإضافة إلى دوره التاريخي في مجابهة الأحداث الضّاجّة والتوسّط بين المتنافرين (
البلوشيون، القزلباش/ الانكشارية ): «... وحين وصل إليهِ (جناب السلطان مراد) الطلبُ المختومُ بختم
"البغدادي" حول المجنّدين
الانكشار العُزّاب، وافق على مضض (الوالي أو جناب السلطان) ولكن اشترط أن يكون
الزواج بعد الشيخوخة، لأنهم مصنّفون للقتال وليس لشيء آخرَ (...) وبالمِثْلِ؛ تأتي
القزلباش (...) الذين كانوا يعانون من تفرقة الفرس (...) توسّطوا الشيخَ الهُمَامَ
في تسوية الخلاف واستتباب الأمور...» ص 37. ولأن « الرواية تميل
أكثر من غيرها إلى الاحتفال بالماضي واستدعائه لتوظيفه بنائياً عن طريق استعمال
الاستذكارات؛ التي تأتي دائماً لتلبية بواعث جمالية وفنية خالصة في النص الروائي » حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، الفضاء،
الزمن، الشخصية. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان، ط1،
السنة 2009، ص 121، فإن السارد سيلحُّ على ذكر هذا الرمز الخالد، الشاعر المتصوف،
"فضولي بغدادي"، في العديد من الوقفات وفي أحاديث الشخصيات المحرّكة
للأحداث في النص. من ذلك مثلا؛ سعْيُ "شاهبور" العطّار الهندي الوافد
إلى المدينة مع "الملا شفيق" ؛ سعْيُهُ للوقوف على قبر "فضولي
بغدادي" أو على نحتٍ شاخص له: « صفّى ما بذِمّته، وأغلق عطاريته (...) يستظلُّ بستاناً مُطِلّاً على
القنطرة البيضاء (...) وفي اليوم التالي صافح وجه المدينة؛ اطلع عليها عن كثبٍ،
مرَّ على أسواقها، ومَحارِيبِها، وكان يلقي نظره هنا وهناك؛ لعلّه يعثر على نحتٍ
شاخصٍ يدلُّ على شاعر المدينة؛ "فضوليّ" وبارق ضياء الأولياء، ترجمان
الأحاسيس والوجدان..» الرواية، ص 58.
كذلك هناك اهتمام من السارد بتواجد صورة "فضولي بغدادي" معلّقة على أحد
الجدران الأثرية؛ ظهر ذلك من خلال الحوار بين شخصيتيْن إحداها شخصية
"جمانة" المرأة المساعِدة
لمولاتها "قرة العين"، والتي أفصحتْ عن اسمٍ أو نعتٍ جديد لفضولي
بغدادي؛ كانت "قرة العين" تستعمله وهو "باباسي" . تقول
"جمانة" بعد تساؤلِ مُحاوِرِها عن معنى "باباسي": « تلميذ معرفة في النور الإلهي، يُطالع الخزائن
الدفينة في الكتب، ويرويها للناس الضعفاء... » ص 124.
الحمولة الوجدانية:
أبجديات الذات المقهورة في متاهات النكسة الإنسانية
المتفاقمة؛ حيث يتبخّرُ المَلاذ، ويموتُ الحلم بضياع المكان / تحوُّلُ
"البستان" بِخيْراتِه وقِيَمِهِ المعْنوِية ومكانته ورمْزِية أبْعادِه؛
إلى مُجرَّد حامية عسْكرية؛ يقول السارد: « كل ما أراه في البستان من خلال شق صغير في
الجدار؛ الذي أمر "ريكاردوس" أن
يكون كخطّ فاصل بين "الكرفان"
الذي نقلونا إليه، وهو بالتحديد في مقبرة السلاطين أقصى البستان (...) وبين قصر
الشاهبندر الذي أُعيد ترْميمه ليكون لائقاً لسكن جنرالات الحامية، كما كان من قبلُ
حامية للقزبلاش والانكشارية..» ص 162. يتعمق الإحساس بالوضعية الجديدة التي أصبح عليها البستان/ الرمز...فينقل
السارد المشهد في هذه المتتاليات: « وبينما أنا أطلُّ بعيني من ذلك الشّقّ، وأتابع تدريبات المجنّدين
والمجنّدات داخل البستان؛ إذا بالساحات تتحول إلى مشاهد استعراضية، كل منهم
لايستغني عن كلبه... الأوامر واضحة... لا مجال للمخالفة...» نفس الصفحة.
تفيض أبجديات الذات المقهورة عبر صفحات متفرّقات في متن
الرواية؛ يستضيفها الموقف أحيانا، ويتطلّبُها المسار السردي أحياناً أخرى. من ذلك
مثلا إفصاح السارد عن معاناته التي تنتهي باستسلامه.. يقول: « نزلتُ في هذه الدنيا؛ أضعف مما أكون.. حُرّة؛
هي عُزلتي ووحدتي ووحشتني وأوهامي كلها تقودني في استسلامٍ باذخ إلى... أين...؟ لا
يعنيني..!» ص 15.
بَذْخٌ آخرَ؛ِ للذات المقهورة؛ وهي المُحاصَرة بالأوْجاع
: « كلابٌ صنعتْ مشهد العُريِ؛ على سفح القمامة..
بتُّ مكشوفاً إلا من بعض الخِرَق.. ! كلابٌ تتلذذ بشمِّ القيح على الجسد العاري..» ص 20. « ... ضعفي، ألمي، وجعي، قلقي، كلها لوحات تعرض
رسومات ذلك الجرح الأبدي..! » ص 21. تتوالى
الدفقات الوجدانية في صورة بوْحٍ الذات: « لم يخطر ببالي أن أواجه صورتي؛ أنا الممتحن
بالنّكد والعواقب والبلايا، أنا الذي تتلاطم في بحاره أمواج الشكوى، يصنع منها تراتيل
تحكي حقيقتي التي أودُّ نسيانها ولو إلى حين...» نفس الصفحة. تفيض مشاعر السارد على شكل
اعترافات رقيقة؛ تكتسي صبغة المناجاة: « أنتَ الدِّرع.. في وجه الحيرة واليأس... تُسَلّيني بلعبة الانتظار... تُذكّرُني
بصَخْرَة سيزيف أو تمْنحُني فرْصة الإصْغاء للحُكماء، تُحلّقُ بي في فرْدَوْس الزَّاهدين،
وتمْلأ جِرابي بحَكايا النّملة في مشهَد الحِجاج بين القوّة والعجْز...! » الرواية، ص 23.
الحمولة الثقافية/ المعرفية:
باعتبار « النص بنية دلالية تُنتجها ذات فردية أو جماعية؛ ضِمن بنية نصية منتجة، وفي
إطار بنيات ثقافية واجتماعية محددة » سعيد يقطين، انفتاح النص الروائي، المركز القومي العربي، بيروت/ لبنان، ط
1989، ص 321، فإن الملموس في هذه الرواية؛ يرقى إلى توظيف المخبوء الثقافي للسارد؛
حيث يقف القارئ على محطات معرفية متنوعة، تنتقل به بين رياض الفكر والأدب والفلسفة
والفنّ التشكيلي والسياسة والاجتماعيات وأسماء لِأعلامٍ كثيرة؛ تتناثر عبر صفحات
المتن، يقول السارد: « وكأنّا في الحلم؛
نفوق أحلام أبطال الطوفان وكلكامش في عشبة الخلود، وبيْدبا في الكتابة، ودالي في
الرسم، وابن خلدون في الاجتماع، ومنعم فرات في النحت، ونشوة المنقب الأثاري هرمز
رسام، مكتشف مكتبة بانيبال، وملا عبود
الكرخي في بداهة سرعة الخاطر (...) تناسلتْ أحلامنا ضِعْف ما نبغي..» صص 12، 13. «... وهذا ما علّله كونفوشيوس بمقولته المشهورة؛ كل
شيء مغمور بالفناء، وما أكّده إخوان الصّفا، ما يجب أن نعرفه؛ هو ليس ما نمتلكه؛
وما تناقلتْه مجالس السمر، حينما تنهار السقوف؛ لا تختار الضحايا، وكتب
"راجيف شندرا سيكاران" في مذكراته: "حياة إمبراطورية في مدينة
الزمرّد" أن الأمريكان في بغداد استبدلوا أكلة البطاطا المقلية ( الفرش فرايز
بـ: الفريدوم فرايز) احتجاجاً على موقف الفرنسيين من الموسيقى الأمريكية الهيب
هوب. "جيمس ستيل" كتب في تغريدة خاصة بعد أن نشطت فرق الموت؛ بأنّ
الهايكو الياباني؛ يشبه خلّ التفاح في لوحة الإعلان، وتنبّا "جوزيف ستالين"
بانه عندما تُرْمى القمامة على قبره؛
ستُزيلُها رياح الزّمن..» الرواية، ص 14. يتكاثف المخبوء الثقافي/المعرفي في سلسلة تساؤلية
مُهَيْمِنة؛ تطفح بالمرارة: «... ما الدافع أن يحاكم أبو حيان نفسهُ ويلجأ إلى حرق كتبه ؟ (...) أم هناك
ظاهرة حرق نفائس التصانيف أو غسلها بالماء أو دفنها في باطن الارض، مثل أبي عمرو
بن العلاء الذي دفن كتبه فلم يوجد لها أثر. وداود الطائي الذي يُقال له "تاج
الامّة"؛ رمى كتبه في البحر، وقال يناجيها: نِعْم الدليل كنتِ والوقوف مع
الدليل بعد الوصول؛ عناءٌ وذهول وبلاء وخمول. وأبو سليمان الدارائي الذي جمع كتبه
في فرنٍ وأحرقها، ثم قال: والله ما أحرقتُكِ حتّى كِدْتُ أحترق بكِ (...) وما حكمة
"جمال باشا" مِنْ تَدْبيرِ تُهَمٍ مُلفّقة ضدّ المثقّفين العرب،
وإعدامهم في الساحات العمومية ؟ وما فلسفة أن يقول ابن الرومي: مَنْ لا يركض إلى
فتنة العِشْق طريقاً لا شيء فيه حيّ... ولم قال جبران خليل جبران: توقّفوا عن
الدفاع عن الله، ودافعوا عن الإنسان، كي يتمكن الآخرون من التعرف على الله..» الرواية، صص 156،157.
مقاطع بين السرد والوصف والحوار:
من المعروف؛ أنّ « النص الروائي في جملته؛ ينقسم إلى مقاطع وصفية
ومقاطع سردية، وأيْضاً إلى حِوار. إنما الثنائية الأساسية هي بين السرد والوصف..» بناء الرواية ( دراسة مقارنة لثلاثية نجيب
محفوظ، د. سيزا أحمد قاسم، الهيئة المصرية العامّة للكتاب، القاهرة، ط1، سنة 1984،
ص 82.
مما انتقتْهُ الذائقة؛ هذا المقطع السردي؛ الذي جمع بين
السارد ووالدته في لقطةٍ من الطقوس الروحية: « كنتُ أخجل من دعائها وهي على ظهري، وأطوف بها
سبعة أشواطٍ، كل مرّة؛ يسبقني عبق الحضرة كالمسكِ؛ حول الولي الصالح، وأقاوم
وهني... هي لا تغمض عينيْها من وخزات عظام العمود الفقري الناتئ من الجلد (...) أسْكُتُ
في غمْرَة المشاعر وأمْضِي مع تسبيحها... » الرواية، ص 17.
ومن المقاطع الوصفية الدقيقة؛ مقطع وصف البغال المُعينة
للعسكر وهم يصعدون الجبال، يقول السارد: « بغالٌ قوية ومعمرة، وإن كانت عقيمة. أذنها
طويلة وعُرْفها قصير، والذيْلُ عندها ذو خصلة شعر طويلة، وتمتاز بصغر حجم رأسها
ودقة قوائمها وصغر حوافرها، وتشبه أمها الفرس؛ في قوتها وضخامة جسمها (...) هذه
البغال؛ ألِفْنا صحبتها، فهي وسيلتنا نحو الالتصاق بالعالم من حولنا في هذا
العلوِّ الشاهق..» الرواية، ص 166.
ثم يصف السارد الطبيعة القاسية؛ فيقول: « نتقاسم شظف العيش على الرغم من محنة عواصف
الجبل، وتقلّبات مناخه، التي نادراً ما تهدأ...الرياح نشطة والأمطار تتكاثف عند
الظهر، وفي المغيب؛ تصحبها كتل هوائية شديدة البرودة، مع هطول الثلوج، كرات صلبة
بلّورية الشكل، بيضاء ومعتّمة أكثر مما هي شفافة، مذاقها فيه أملاح البحار
أحياناً، علماً أننا لم نلمسْ أي بحرٍ من حولنا، ولا وجود له حتى في خريطة
العراق...! ص، 167.
أما الحوار، فقد تنوع في المتن، بتنوع الشخصيات وتباين
مشاربها، من ذلك مثلاً؛ ذلك الحوار الطريف بين السارد وبين شخصية "الحوذي
جبّار" والذي يُطلَق عليه: "الهمّاشي" وهو من إفرازات الحرب
الضروس، والشريحة الأخرى للحياة السائبة على منصة الضياع.. يقول السارد، على لسان
"راهب" بعد أن أنقذه "الحوذي جبار" من مكبّ النفايات
بالمدينة، ووضعه في حُجْرة مُنْعزِلة بعد أن قطع به مسالك وَعْرة وبعد أنْ مرَّ
على أنقاض معسكراتٍ متروكة: « قال بعد أن ملأ الغرفة برائحَة المُطهّرات، وغسَلَ وَجْهي وغَطّى ِنصْفي
بالشرشف الأبْيض: أنا "الهمّاشي" ، هكذا يُسَمُّوني. بين الفينة
والاخرى، أُصادف جثث الغرباء، وأنقلها للعمّ الشيخ "جاسب" في المسجد،
حيث تخرج التصاريح للدّفن.. يا له من زمنٍ أسود! ترقص الكلاب على جثث الأبرياء...! الموت يحوم في المزبلة (...) تمتم قبل أن يخرجَ من الغرفة، خِلته يهْمس: أَترُكُه
للقضاء والقدر. » الرواية، ص 27.
يستمر الحوار بينه وبين الحوذي عند عودة هذا الأخير؛ بعد مضيّ ثلاثة أيام؛
للاطمئنان على "راهب"، يقول الحوذي صاحب عربة نقل الأموات: « هذه الغرفة؛ منفاي وجنّتي وفرْدوسي، كلما احْتجْتُ
إلى شيء يُسلّيني... مَلاذي من عيون الناس... ثم خاطبني بمكرٍ: وعيونك أحب المعاصي! وخصوصاً حين أعجز عن إرضاء نفسي، أسرقها
بالخمر، تحلّق روحي مثل الجنّ (...) هي دوائي .. بها أهزم تعاستي وأطقطق حبّات
أحلامي (...) كل المنكرات تجمّعتْ في حياتي.. لا أدري كيف فسُدتُ مع أنّي أُحِبُّ
اللهَ...!» الرواية، ص 29.
ويستمر "الهمّاشي" في التشهير
بنفسه وبعلاقاته مع الأجنبيات؛ وكأنه يلوذ بالرذيلة؛ من أجل مُجابهة حرفته؛ نقل
الأموات على عربة خشبية؛ يُنْظر الصفحة 30 من الرواية... ويجيب السارد على لسان
"راهب" بعد أن رقّ لحاله؛ « يا همّاشي..لا تقلق عليّ.. فأنا معجون بقمح الرّزايا.. يا هماشي؛ لا
تستغربْ تشاؤمي وضيقي.. ولا تستخف بعنادي وإصراري على تدوين حكايتي مع البستان
والهوية (... ) أخبرته بالصوت المبحوح كصوت غريق مستسلمٍ للأعماق السحيقة: أنتَ لا
تملك من مصادر ترسيخ هويتي سوى القمامة. قال بتأفف: في يومنا هذا؛ اختلطت
المقاييس، ولم يعد بالإمكان فهم القداسة أو تحديد الشيْطنة، الجِرابُ وَاحِد..
والفكاك عسير...» الرواية، ص 33.
قد يتخذ الحوار منحىً أسطورياً؛ فيعمد السارد إلى توظيفه
بغية مناوشة المِخيال.. تجلى ذلك في العتبة رقم 11، الموسومة بـ: "الكوابيس
في حضرة نيسابا". ص 149 من الرواية. "نيسابا"؛ آلهة سومرية، معنية
بالخصب والكتابة. "كوديا"؛ أديب سومري، ذو موهبة، إدّعى أنه وُلِد من
عملية الزواج المقدّس. كلاهما يحاور "راهب" على لسان السارد: « دنوتُ منه (...) فسألته بلطفٍ: من أنتَ ؟
أجابني بتواضع جمّ: نيسابا. ومن ذلك الشخص قرب الشجرة ؟ كوديا. (...) قلتُ له:
وماذا تفعلان هنا ؟ قال بشخصية محارب متمرّس: أنا أحرس هذه الشجرة، وكوديا يرعى
ثمارها. وبعد أن تأملني برهة وجيزة؛ أردف بشغفٍ: كنت أنتظر زيارتك، من زمان...!
– هل تعرفني ؟
- ومن لا يعرف نسله ؟
- نسلي..؟ !
- نسلك هو نسل هذه الشجرة التي أحرسها
- وما قصة هذه الشجرة التي تحرسها ؟
هذه تجمع كل النصوص التي خرجت من آهات العقل كي لا
تُشَوّهَ..
-
ولكن يا نيسابا، لم يبق شيء لا يتعرّض للتصحيف والتحريف...! الرواية، صص 152، 153.
كانت هذه جولة خفيفة بين صفحات رواية "رقص السناجب" الغنية بالأحداث والمشاهد في سياق جديد، يغترف من فنيات السرد وطرائقه؛ مبْنىً حكائياً خاصّاً؛ يُرسّخ في الأذهان صورة العراق بكل ماعاشتْه من مِحَنٍ، ذلك البلد الجميل بِتعَاقبِ حَضارَاته وبِخُصوصياته؛ يُلْهم الأقلام؛ فتُبْحر بسفينة الخيال منْ مرْسى الذاكرة المُكتظّة: « لحظة الحلم في رحيق التذكر، تتجمّع فيها الأخيلة والتصورات، وتأخذنا إلى أبْعَدَ من ذلك.. إنها ترسم أحياناً أسئلة صارخة بلون الاغتراب في خوض المجهول. » الرواية ص 48، وهو في الأصل تصدير مأخوذ من "كور بابل"، التي هي أيضاً من مؤلّفات الأستاذ "عباس خلف علي".
قراءة في رواية "رقص
السناجب" لعباس خلف علي
بقلم: شميسة غربي/ سيدي
بلعباس/ الجزائر