إهداء:
إلى أحفاد لا تساوي نياشينهم حتى أحذية الأجداد ؛إلى جنرالات المربع الأول في قصر المرادية ،الذين يقاتلون التاريخ بكراهية المغرب؛ويواجهون الجغرافية بترسانة الأسلحة ،لتدمير تضاريس لا تدمر:
كناطح صخرة يوما ليوهِنها**فلم يَضُرها وأوْهى قرنَه الوعلُ
إليكم بعضا من الحكاية التي كدتم تُنسون فيها الشعب الجزائري المحتل، إلى
اليوم ؛كما وثقها المستعمر،ذات تاريخ ،حتى قبل حرب التحرير المشتركة بيننا
وبينكم؛والتي سطوتم على نتائجها،بعد أن صفيتم أبطالها المغاربيين..
لا يمكن قتل التاريخ لأنه لم يعد حيا إلا كشاهد لايبدل شهادته ؛ولهذا فشلت
كل مناهجكم التعليمية في خلق شعب الكراهية الذي تحبون..
هاهو هذا الشعب الجزائري المحتل ،
يستنهض اليوم حراكا آخر ؛عنوانه: لا
للكراهية ،لا للأوهام،لا للتفرقة..
لا لتبذير المال العام في إنتاج
الزمن الضائع، والأوهام الكبرى.
تواطؤ بين المخزن
والأمير:
" إن العائق الأكثر جدية في سبيل الحفاظ على السلام،وربط علاقات جيدة مع
المغرب،هو تواجد عبد القادر ،ودائرته ،في الأراضي الشريفية ؛جوار الحدود الجزائرية
.
إن الأمير الذي لم يشارك
في معركة1844(اسلي) ، رأى سلطته تتقوى بفعل الهزيمة التي نالت من بريق وقوة
الإمبراطور(مولاي عبد الرحمن). لقد فهم ممثلو فرنسا جيدا أن هذا الحضور يشكل
تهديدا دائما للجزائر ،وحاولوا التصدي له.
بناء على المادة الرابعة
من معاهدة طنجة،التزم عبد الرحمن باعتبار عبد القادر خارجا عن القانون،وبملاحقته
إلى أن يذعن لسلطته ،أو يرغم على مغادرة المغرب.
لقد تمكن مفوضو فرنسا من
تضمين معاهدة للا مغنية، ما يحرم الأمير وأتباعه من حق اللجوء المخول لمواطني
الدولتين ،فوق ترابيهما(المادة7)."
تشكلت "دايرة"
الأمير عبد القادر من خيام عائلته ،وقادته العسكريين،وباقي الفلول التي انكفأت معه
إلى المغرب ،مطاردة من القوات الاستعمارية.
منذ البداية تجلت نوايا
الأمير واضحة ،في كونه تصرف على هواه ،وهو يحل بالتراب المغربي؛لم يستأذن أحدا
،ولم ينتظر من المخزن أن يحدد له مكانا ينزل فيه؛ضيفا خاضعا للسلطان.
على الأقل هذا ما يستشف
من كل الأرشيف الرسمي الاستعماري الذي اطلعت عليه ؛لكن آراء فرنسية عدة ,عسكرية
ومدنية,كانت تدفع في اتجاه تأكيد وجود تواطؤ بين المخزن والأمير .
لدواعي عسكرية إستراتيجية
اختار الأمير قبائل الجهة الغربية لنهر ملوية ؛ إذ حل بتخوم قبائل أولاد سلوت،
أولاد بني بن فاهي، الأحلاف،قلعية، و بني يزناسن؛ وهي القبائل التي كانت تجمع ،في
أغلبها، بين التمرد على السلطة المركزية ،ومناوأة الوجود الفرنسي في الجزائر ؛ وصولا
إلى التغلغل- غزوا- مرات عديدة ،الى العمق الجزائري.
وقد تسبب هذا الوضع-وهو
يرْشحُ وطنية ,وكراهية شعبية للمستعمر- في تنظيم فرنسا لحملة الجنرال
"مارتنبري"الشهيرة-1859سنة- ضد قبائل بني يزناسن ،بني بوزكو,لمهاية
،الزكارة،بني كيل، وأهل أنكاد؛وهي الحملة التي أُرغِمت هذه القبائل على تقاسم
كلفتها المالية ،في شكل "تعويضات حرب" باهضة.
في اختياره للتموقع داخل
هذا اللفيف القبلي المتمرد ،وضع الأمير نصب عينيه أمورا عديدة :
*القرب من الحدود ،وما
يتيحه من إعادة تجميع قواته الجزائرية المشتتة.
*توجيه غارات خاطفة ضد
القوات الفرنسية,والرجوع بسرعة الى قاعدته الحصينة؛غير آبه بحق المطاردة ،ولا حتى
القبائل اعترضت عليه به،ايمانا منها بقضيته.
*اثارة حماس القبائل
المضيفة لحملها على الانخراط في الجهاد ،تحت رايته .
*الحصول منها على الدعم
المادي ؛خصوصا وهي على غنى ووفرة كلأ.
*التواجد في مدخل الريف
الشرقي الذي لا يخضع إلا لسلطة شيوخه ؛خصوصا وقد تلقى دعوات من هؤلاء .
لا حقا سيسير الروكي على
هذا النهج الاستراتيجي ،لكن لم يتحقق له –دعيا فتانا- ما تحقق للأمير المجاهد.
الدايرة تصبح دولة مقاتلة ،
داخل الدولة:
انتقلت من مئات معدودة من
الخيام،والخيول وقطعان الماشية، الى الآلاف ؛لأنها أضحت مقصدا ،ورباط خيل لكل
القبائل الجزائرية ،والمغربية التواقة الى الجهاد . صار الأمير محاطا بثلاثة آلاف
إلى أربعة آلاف مهاجر منقطع للجهاد.
توالت احتجاجات الفرنسيين
على السهولة الكبيرة التي يتحرك بها الأمير , وأنصاره ؛وعلى إغماض مخزن وجدة
لعينيه وهو يرى أسواق المدينة طافحة بالمنقولات المنهوبة ،من داخل التراب
الجزائري.
كل المعلومات باتت تؤكد
أن الأمير بصدد عودة جهادية كبرى للجزائر.
فعلا في 23 دجنبر1846
هاجمت قوات الأمير فيالق الجيش الفرنسي ،يقيادة الجنرال "مونتنباك" ،وسحقتها
سحقا في سيدي إبراهيم.
وبدل العودة الى
"الدايرة"،التي تركها تحت إمرة نائبه البوحميدي، فضل عبد القادر –مزهوا
بانتصاره-التغلغل داخل التراب الجزائري ،لإنعاش جذوة الجهاد التي كادت تخبو من
بعده.
ترتب عن هذه الهزيمة شيوع
العصيان داخل قبائل المحيط الوهراني التي استضعفت العسكر الفرنسي،وهي تراه كما ترى
الأمير ،بعين أخرى:عبد القادر المغربي أصبح أقوى من عبد القادر الجزائري.
السلطان يُحَمَّل وِزرَ
الهزيمة:
لقد هيأ عبد القادر- بكل
طمأنينة- لعودته الجهادية داخل التراب المغربي ؛مدعوما ،حتى وهو يغزو التراب
"الفرنسي"
بقبائل مغربية ؛أي دليل
أقوى من هذا لإدانة السلطان؟
يقول المارشال
"بيجو" في مراسلته للحكومة الفرنسية،لحلها على الصرامة في التعامل مع
الأوضاع:
" إن معاهدتي طنجة
وللا مغنية ليستا ،في نظري،سوى ورقة شجر تتلاعب بها الرياح.كل مسلمي شمال إفريقيا
اتحدوا ضدنا."
لم يعد الاحتجاج المعهود
–وقد حصل من ممثل فرنسا بطنجة- كافيا ؛ولهذا جرى على مستوى الحكومة الفرنسية
،ومختلف الفعاليات الاستعمارية ،نقاش حول أنجع السبل للقضاء الجذري على
"دايرة" الأمير عبد القادر ؛بتعاون مع السلطان أو بدونه. كان من رأي
الدكتور " وارنيي" أن يتأسس نوع من التعاون العملي الوثيق بين فرنسا
والإمبراطور.ولضمان الصدق والشفافية أقترح أن يعين مفوض فرنسي مقتدر لدى السلطان
لينسق معه ، ومع الحاكم العام بالجزائر،جميع الإجراءات الكفيلة بكسر شوكة الأمير.
من جهته اقترح الجنرال
"لمورسيير" حلا أكثر إجرائية:
"يجب أن ننظر الى
أنفسنا على أننا لسنا في حرب مع الإمبراطور؛لكن في مواجهة مع الأعمال العدوانية
لقبائل الحدود؛ وعليه، ودون أن يكون لنا أدنى مطمع في أي قطعة من التراب المغربي
،يجب علينا –دون الأخذ باعتبار خط الحدود-أن ننقل الحديد والنار الى كل القبائل
التي تستضيف عبد القادر .لن نتوقف ،في مسعانا هذا ، إلا حينما تتحقق مصالحنا"
فعلا من خلال كل ما راج من نقاش ،في تلكم المرحلة المبكرة من الاستعمار ،لم تظهر
أية نية توسعية على حساب التراب المغربي ؛رغم الاتفاق الشامل على الضعف العام
للمخزن ،ووجود قبائل عمالة وجدة خارج تغطيته الفعلية.
لم تكن فرنسا قد
استكملت،بعد، إخضاع كل قبائل الجزائر ؛ولم تكن تجهل شدة مراس قبائل المغرب على
الشريط الحدودي ؛ولهذا لم يكن أي سياسي ولا عسكري يغامر بالتصريح بمطمع فرنسي
ترابي.
حتى حملات التأديب كانت
تؤمر بالعودة السريعة الى التراب الجزائري ،وعدم إقامة أي بناء عسكري ضمن المجال
المغربي الذي رسمته معاهدة للا مغنية.
يضاف الى هذا تتبع الرأي
الدولي ،بطنجة؛وخصوصا الانجليز كمنافسين للفرنسيين.
طبعا هذا لم يمنع من
تجميع معلومات استخباراتية ،ورسم الخرائط ،ذخرا لما يأتي من الأيام.والمتتبع لحملة
"مارتنبري" يقف على الكثير من هذا.
هل هددت الدايرة، فعلا، عرش
السلطان؟
حينما بلغ السيل الزبى
،ولم يعد بوسع الفرنسيين ضمان استقرارهم في الجزائر ،دون القضاء النهائي على
الأمير عبد القادر ؛أو إرغامه على الاستسلام ،اشتد نفير الحملة العسكرية الشاملة
،خصوصا والتعليمات القادمة من باريس تستجيب للاقتراحات القديمة للمارشال
"بيجو".
طفق المارشال يستعد
للانتقال الى وهران ،ليرتب مع الجنرالين "كافانياك"
و"لموريسيير" أمور الحملة.
اشتدت في العاصمة
الفرنسية شوكة المعارضة للحكومة ،في مساعيها العسكرية ؛خصوصا وهي لم تكمل بعد
تهدئة القبائل الجزائرية.
قدمت المعارضة تبريرات
سياسية واقتصادية قوية؛ بما فيها تعريض عرش السلطان للخطر.
يقول "جورج
ايفير":
"اتُّهِم المارشال
بيجو ,علانية، بالرغبة في الدخول بالبلد-المغرب- في مغامرة خطيرة ولا فائدة
فيها؛وزادت صحافة المعارضة من تضخيم تبعات هذه المغامرة. تقول: إن دخول القوات
الفرنسية إلى المغرب سيترتب عنه ،بكيفية سريعة، الإطاحة بعبد الرحمن لفائدة عبد
القادر.سينتفض كل المغرب ،ولتهدئته يجب غزوه كاملا ؛وهذا يتطلب ثمنا باهظا ،رجالا
ومالا....وإذا أخفقنا ستنهار الجزائر ،وسيكون علينا مغادرة هذه المحمية."
استحضارا لعدة عوامل
،دولية ,داخلية،جزائرية ،ومغربية سيستقر رأي الحكومة الفرنسية على عدم المغامرة
بتبني خطة المارشال "بيجو"؛وسيقتنع ،هو بدوره في النهاية ، بأن تهدئة
الداخل الجزائري ,والتصدي لقبائل الحدود،والتعاون مع السلطان أفضل من المغامرة في
الداخل المغربي الشديد التعقيد.
الدايرة تغادر المغرب
مطاردة:
كنتيجة للمفاوضات التي
تواصلت في طنجة ،على مدى سنتي 1946 و1947 ،اشتد عزم السلطان على وضع حد لكل
الأخطار التي تتهدد المملكة ؛جراء سياسة اليد الطويلة التي تمارسها
"الدايرة" في المغرب ؛في حضور الأمير ،أو في غيابه ؛وجراء الفوضى
الشائعة في المنطقة الشرقية ،كنتيجة لتعدد السلط:المخزنية ,القبلية و الأميرية.
سيبدأ التضييق, ثم
المطاردة , من طرف بعض الزعامات القبلية التي امتثلت لأوامر السلطان ؛ خصوصا بني
يزناسن الذين شكلوا،دائما، عصب الحياة بالنسبة للأمير ،منذ حلوله بين ظهرانيهم.
في دجنبر 1947طاردت بعض الفرق السلطانية الأمير عبد القادر ،إلى درجة أنه لم يجد
بدا من الاستسلام لفرنسا.
ومن المفارقات العجيبة أن
يكون قد عبر الى التراب الجزائري من نفس المسالك (واد كيس)التي ستعبرها
،لاحقا،قوات مارتنبري في اتجاه جبال بني يزناسن. إذا استعدنا ماجريات معركة اسلي
يمكننا القول جازمين :
إذا رأيت الأمير عبد
القادر، فتوقع أن يكون في أعقابه جنرال فرنسي.
أي درس هذا؟
في أية مدرسة , ومع من
؛مادام جنرالات الجزائر ،اليوم ، لا يقرؤون التاريخ ،ولا ينتجونه ؛كما فعل ضباط
فرنسا على الأقل.
بعد كل هذه العلاقات
الشعبية المشرقة , وكل التضحيات التي قدمها المغاربة ؛ليس كمغاربة فقط ،بل
كجزائريين حتى النخاع،بدا لي الحاضر الجزائري المغربي اليوم ؛وقد ضيقت عليه الخناق
قضية الصحراء المفتعلة؛كطفل لا يزال يتبول في أحضان أجداده،وهم يستعجلون أن يشتد
عوده ويصير رجلا ،ثم جدا بدوره .
على كل ساسة الجزائر أن
يستحيوا من مخيمات العار بتندوف ،حينما يستعيدون تاريخ "الدايرة" وما
بلغته من قوة ،وما تهدد المغرب ,جراءها ،من أخطار.
لقد سبق أن أدليت ،في
مواضيع سابقة،بكبار جماعة وجدة؛وهاأنذا أختم بأشهر أجدادها؛فهل لنا في جنرال قوي
يقرا التاريخ الحقيقي ؛ثم يغير على خيام تندوف مقتلعا ؛ليعوض المغرب ،على الأقل،
على حملة "مارتنبري"؛إن لم يكن على كل ما قدمته القبائل للدايرة؟
استثمارا ل:
GEORGE YVER
La question marocaine en
1846
Revue africaine
1909/a53.n272