زرت يوم الخميس 17 ديسمبر الماضي مركز المعارض بالمركز التجاري العالمي بدبي في اليوم الأخيرمن معرض متخصص في الأعشاب والمواد الفلاحية العضوية أو ما يطلق عليها مجازا "منتوجات البيو Bio". ولأول مرة وعلى امتداد ربع قرن من تواجدي بالدولة أجد نفسي أمام مشهد لم أكن أتوقعه أبدا: جناح لشركة اسرائيلية تعرض منتجاتها من الأعشاب وبعض الخضر والفواكه "البيو"، ومن بينها عبوات للتمر كتب عليها بخط واضح "المجدول"، وهو ليس تحريف واستنساخ لتمر "المجهول" الذي يعود أصله إلى منطقة تافيلالت بالجنوب الشرقي للمغرب، قبل أن يتم زرعه وإنتاجه بالولايات المتحدة ثم اسرائيل والأردن ودول أخرى. على بعد أمتار قليلة من الجناح الإسرائيلي كان هناك جناح فلسطيني يعرض بذورا ومنتجات فلاحية متنوعة. وبينما حرص أحد منشطي الجناح الإسرائيلي على وضع قلنسوته "الكيبا" على رأسه تأكيدا لهويته الإسرائيلية، ارتدت الفتاة الفلسطينية التي كانت داخل الجناح الفلسطيني زيا تقليديا فلسطينيا كنوع من التحدي والرد على جارها الإسرائيلي. بقيت واقفا بين الجناحين لبرهة وأنا أفكر في نسبية مفهوم "التطبيع" بين رؤية السياسيين أو المثقفين وبين رؤية بعض رجال الأعمال والتجار الذين لا يرون غضاضة في التواجد في نفس الفضاء مع "خصمهم" إذا رافق ذلك ربح وتطوير للتجارة.
هذه النسبية
في مفهوم "التطبيع" لدى البعض وهذا
الموقف الذي عشته في معرض دبي عادا بذاكرتي إلى بضع سنوات إلى الوراء، وبالضبط في
نفس المكان وخلال أحد أهم معارض دبي المتخصصة في البناء: معرض Big5، الذي يعتبر من ضمن أكبر المعارض المتخصصة
في هذا المجال على المستوى الدولي، وتكون المشاركة فيه واسعة من مختلف دول
العالم مما يجعله يحتل سنويا كل قاعات مركز المعارض، بل وتنصب له قاعات إضافية
أخرى على شكل خيم كبيرة مكيفة ومجهزة لاستيعاب العدد الكبير من جماهير الزوار
والعارضين.
كان ذلك خلال زيارتي لإحدى دورات معرض البناء،
حيث خصصت يوما كاملا للرواق الذي جمعت فيه شركات البلاط والرخام وكل أنواع الحجارة
المستعملة في أشغال البناء للتكسية الأرضية والجدارية. وخلال تجولي بين مختلف
أجنحة الشركات العارضة، استوقفتني فجأة شركة تعرض أحجارا من فلسطين، وهذا النوع من
الأحجار مستعمل بكثرة في منطقة الخليج لتكسية الجدران الخارجية للفلل، ويعد الأردن،
وفلسطين بطبيعة الحال، أكبر مزود لدول الخليج بهذه النوعية من الحجارة. في
الحقيقة، لم يكن لدي أي اهتمام مهني بهذا النوع من الحجارة لأنه يصعب تصديرها إلى
المغرب من جهة، ومن جهة أخرى تتواجد بالمغرب عدة أنواع مشابهة تفي بنفس الغرض.
لكني استسلمت لنقطة الضعف لدينا نحن المغاربة فيما يتعلق بكل ما هو فلسطيني، ودخلت
الجناح اتأمل بعض العينات وبعض الصور لمشاريع عمرانية استعملت فيها هذه الحجارة.
وكانت تتوسط الجناح صورة كبيرة للمسجد الأقصى ومسجد القبة والمناطق المحيطة بهما،
وأعتقد إذا لم تخني ذاكرتي أن اسم الشركة كان "أحجار القدس". وقفت طويلا
عند الصورة الكبيرة للمسجد الأقصى، ويبدو أن ذلك أثار انتباه المسئول عن الجناح
الذي أتى إلي وبادرني بالسلام، ثم أخد وقتا كافيا لكي يقرأ على البادج المعلق حول
عنقي اسمي ويعرف من أي بلد أتيت. بادرني بالترحيب مع ابتسامة عريضة: "مرحبا
سيد عزيز، من المغرب ما شاء الله". سلمت عليه، وبعد حديث قصير عن منتوجات
شركته، اتضح لي أنه صاحب الشركة كما اقتنع هو أيضا بصعوبة تصدير أحجاره نظرا لكلفة
النقل التي ستتجاوز ثمن الأحجار بأضعاف مضاعفة. ولكن هذا لم يمنع أن نواصل حديثنا
خصوصا وأنه كان له مساعدون بالجناح يتولون استقبال الزوار. قلت له بأني أعجبت
بالصورة الكبيرة للمسجد الأقصى ومسجد القبة، فأخبرني بأنه ممن يسمون "عرب
الداخل" أو "عرب 48"، وبأن هذه الصورة تنتقل معه إلى كل المعارض
التي يعرض بها في دول الخليج، فأجبته بأنني أكرمني الله مرتين بزيارة أول وثاني
الحرمين الشريفين، وأملي قبل انقضاء العمر أن تعود القدس إلى أهلها لتسنح الفرصة بزيارة
ثالث الحرمين ومعالم المدينة التي هي مهد الأديان. قال محدثي وهو يطلق ضحكة خفيفة:
"أتمنى لك عمرا طويلا طويلا طويلا لكي يتحقق ذلك". انتبهت إلى تكراره
"طويلا طويلا طويلا"، وكنت أود استفساره عن معنى ذلك حتى باغتني بسؤال
مفاجئ: "ما الذي يمنعك من زيارتها الآن، أقصد في القريب؟". استغربت
اقتراحه وأن يأتي ذلك من فلسطيني، فقلت له بأني لا يمكنني أن أزور القدس مت دامت
تحت الاحتلال لأن ذلك يعتبر تطبيعا مع العدو الاسرائيلي. هنا أمسكني من يدي وأخدني
إلى جلسة في جانب الجناح أعدت خصيصا للاجتماعات مع الزبائن. قدم لي مضيفي قهوة
عربية وأصحبها وبطبق عليه حلويات فلسطينية انتقيت منها واحدة، وأنا أنتظر إجابته
التي اختار لها أن نكون جالسين. قال محدثي:
"التطبيع
ياسي عزيز أصبح مثل قميص يوسف، الكل يأتي به بدم كذب، ويختبئ وراءه. بالنسبة لي
هناك نوعان من التطبيع، أولهما قد لا يشكل بالنسبة لنا كفلسطينيين إزعاجا كبيرا،
بينما ثانيهما يشكل قلقا مؤرقا لنا ونتمنى أن لا يحصل، ولو على الأقل إلى حين
إقرار حل عادل للقضية الفلسطينية. الأول هو التطبيع السياسي الرسمي بين اسرائيل
وحكومات عربية. قد تضطر ظروف وضغوطات سياسية واقتصادية بعض الأنظمة العربية إلى
تطبيع علاقاتها مع اسرائيل، وقد يتم تبادل السفراء والزيارات الرسمية، ولكن يبقى
ذلك محدودا كما هو الحال منذ سنوات بين مصر والأردن من جهة واسرائيل من جهة أخرى.
بينما التطبيع الثاني الذي يشكل قلقا كبيرا لنا هو التطبيع مع الشعوب العربية،
وهذا ما تسعى إليه إسرائيل وحلفاءها وتجند له وسائل وإمكانيات أكثر مما تفعل مع
التطبيع الرسمي السياسي. هذا الأخير يمكن أن ينمحي وينقطع إذا حصلت خلافات أو
مشاكل بين الحكومتين، بينما التطبيع الشعبي من الصعب الرجوع عنه إذا تغلغلت
إسرائيل داخل المجتمعات العربية بوسائل عديدة: الثقافة، الفن، الرياضة، التجارة،
السياحة وغير ذلك من وسائل التعامل الجماهيري. ولأجل ذلك فإن اسرائيل تعمل جاهدة
على تطوير هذا الحضور في المجتمعات العربية وذلك بإعداد جحافل من الخبراء
والباحثين الذين يتقنون اللغة العربية وعلى اطلاع واسع بالتاريخ والثقافة والتراث
والتقاليد في كل بلد عربي على حدة. ويساعدها على ذلك تواجد أعداد كبيرة من
مواطنيها الذين هم من أصول من مختلف الدول العربية"
لم ألمس
قهوتي رغم أن رشفة واحدة تأتي على كل ما في الفنجان الصغير، بل بقيت أعيد وأكرر في
نفسي ما قاله مضيفي الفلسطيني. ويبدو أنه لا حظ اهتمامي بحديثه، فأضاف:
"بربك
ياسي عزيز، هل سمعت مسئولا عربيا يتكلم اللغة العبرية؟ هل اطلعت أنت بنفسك يوما ما
على ما تكتبه الصحف الاسرائيلية؟ ماذا نعرف عن المجتمع الإسرائيلي الحالي؟ خليك من
الصور النمطية التي تروج لها بعض المنابر الفلسطينية والعربية عن تآكل مكونات هذا
المجتمع والصراع بين اليهود الغربيين واليهود الشرقيين وغير هذا من الترهات التي
لا تعدو أن تكون أوهاما يعوض بها بغض العرب عن تخاذلهم وعجزهم. ما تعرفه اسرائيل
عن المجتمعات العربية في كل دولة على حدة قد لا يعرفه حتى المتخصصون من أبنائها. كيف
يتخيل هؤلاء القادة والسياسيون العرب بأن يحاربوا عدوا يجهلون عنه كل شيء تقريبا،
ولا يريدون ذلك بدعوى مقاطعة اسرائيل، وهي التي تعرف ما يسرون وما يعلنون في
اجتماعاتهم ومراسلاتهم.
وسأسرد لك
هنا واقعة حكاها أحد من عاشوا أطوارها. في إحدى الدول العربية بالشرق الأوسط كانت
إحدى الشركات الفرنسية العملاقة تحفر شبكة أنفاق تحت الأرض في إطار مشروع
"مترو الأنفاق" بعاصمة هذه الدولة. وصادفت هذه الشركة متاعب كثيرة نظرا
لأن حفرياتها تحت الأرض كانت تصطدم في الغالب بحواجز هي عبارة عن آثار قديمة
مغمورة تحت الأرض، وبالتالي كانت تحتاج إلى خارطة طبوغرافية شاملة للعاصمة العربية
وبها معطيات عما هو مدفون تحت الأرض لتفادي تحطيمه، واختيار أسهل السبل لحفر
الأنفاق. تصور يا سي عزيز أن الأجهزة المختصة في الدولة العربية لم تكن لديها
خرائط بما يمكن أن يتواجد تحت الأرض في بعض مناطق العاصمة. وهل تعلم كيف حلت
الشركة الفرنسية هذا المشكل، واستطاعت أن تكمل شبكة الأنفاق التي ستمر منها عربات
المترو؟. لن تصدق ذلك، ولكن ما حصل أنها اضطرت إلى الاستعانة بالمعلومات المتوفرة
لدى المخابرات الإسرائيلية وبعض مراكز البحث العلمي التي تتعاون معها، والذين
أعطوها خرائط وافية عما يوجد تحت أرض العاصمة. هل تظن أن هؤلاء الذين استطاعوا أن
يعرفوا ما في باطن الأرض، سيصعب عليهم معرفة ما فوقها بل وفي عقول ومحافظ من يمشون
عليها؟.
ولو فطن
هؤلاء الذين يدعون إلى "المقاطعة" إلى سياسة إسرائيل في هذا الاتجاه،
فسيكتشفون بأنها لا تضيع وقتا في حملات دعائية لمقاطعة بضائع الدول العربية التي
تقاطعها، ويمكنك أن تتخيل لو أصدرت اسرائيل فتوى، كما هو حالنا، إلى كل يهود
العالم ومسانديهم بمقاطعة بضائع وسلع الدول العربية لكانت النتائج كارثية بالنسبة
لدول تعتمد في تجارتها الخارجية وسياحتها الداخلية ومساعداتها المالية والتجارية
على دول تتوفر فيها اسرائيل على نفوذ قوي وجماعات ضغط تؤثر في كل القرارات. ولكنها
بدل ذلك استبدلت مصطلح "المقاطعة" بآخر أظهر أنه أكثر نجاعة في تقوية
الاقتصاد الاسرائيلي. هذا المصطلح هو "المساندة" أو "الدعم".
عبر مختلف دول العالم وخصوصا الصناعي المتقدم أوجدت اسرائيل شبكات منظمة لجمع
التبرعات المالية وتنظيم حملات الدعم والمساندة للمنتوجات الاسرائيلية. ويمكنك أن
تجد في الولايات المتحدة عند أبسط مقهى أو بار صناديق صغيرة لجمع التبرعات
لاسرائيل إضافة إلى الحملات الدعائية التي ينخرط فيها نجوم السينما والفن والرياضة
والثقافة لدعم الدولة اليهودية واقتصادها.
لماذا لا
تدعو كل هذه الجمعيات الأخطبوطية المنتشرة في كل العالم العربي والتي تدعي مناهضة
التطبيع ومقاطعة البضائع الاسرائيلية إلى حملات لجمع التبرعات لدعم الشعب
الفلسطيني؟. هناك طرق أكثر نجاعة لمساندة الفلسطينيين بدلا من التجمعات والبلاغات
الجوفاء، مثلا أن يحثوا ويشجعوا الشعوب العربية على استهلاك المنتجات والبضائع
الفلسطينية سواء تلك المصنعة من شركات فلسطينية في أراضي السلطة الفلسطينية أو
داخل فلسطين؟ ألن يكون من الأجدر أن تنظم رحلات بالتعاون مع شركات فلسطينية من
الداخل لمجموعات سياحية عربية، وينزلون في فنادق يمتلكها عرب فاسطينيون، ويأكلون
في مطاعم فلسطينية ويشترون وبضائع ومقتنيات فلسطينية؟ هذه هي المساندة الحقيقة
التي نحتاجها لمواجهة الحصار الذي تفرضه سلطات الاحتلال علينا.