في معترك الحياة ، لا يشغل بال الإنسان سوى أن يحيا سعيدا ضاحكا و معافى . فالسعادة ، هنا ، لا تزول إلا بقلق وتوتر و أرق دائم ... وجنون . غير أن الإدراك الحقيقي ، لهذه الأمور، يصبح ذا أهمية وقيمة في حالات الانشراح و الإشراق وحتى الانحباس . فمن طبيعة المرء أن يغذي طاقات داخلية بالضحك ؛ للترويح عن نفس أصابها الإعياء والكلل جراء علاقات إنسانية مبنية على الاستغلال والحرمان الدائمين . فزوال العقد اللاشعورية ، حسب المنطق الفرويدي ، له إفرازات جسدية تضمن توازنا في السلوك والتفكير والعيش السوي والسليم . من هنا ، تأتي أهمية الضحك ، والدور الذي يلعبه في النسيج الاجتماعي لحياة الإنسان .
ففي " المنجد في اللغة العربية المعاصرة
" يأتي معنى فعل ضحِك ضَحْكا وضِحْكا وضَحِكا عبـَّر عن شعور بالفرح والسرور ؛
فانبسطت أسارير وجهه ، وانفرجت شفتاه ، وبدت أسنانه ، وأطلق أصواتا متقطعة . فنقول
فلانا ضحك مِلْء شدقيه ، إذا أفرط في الضحك . وبالموازاة مع ذلك ، يتقاسم الضَّحـِك جذره الحرفي وَ أصول أخرى ،
وفي مقدمتها نجد : كلمة الضـَّحَـك ، والتي تأتي بمعنى الثغر الأبيض ، وهناك من
يلحقها بمعان أخرى جديدة كالعسل والمن والشهد وغيرها كثير ...
في
حين ارتبط فعل الضحك بالضواحك ، وهي اصطفاف الأسنان الأربع ، تحسينا لمظهر الوجه
أثناء الضحك . أما في الاستعارة والمجاز ،
فإننا نستحضر في هذا المقام ، قولَ البحتري في الشعر العربي في بيت ذائع الصيت من
الطويل ، يصف فيه فصل الربيع :
أتاك ربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما
في البيت ، ساق البحتري الضحك على سبيل الحال
والهيئة . فضلا عن الطيبة التي تسكن أشجار فصل الربيع ، وهي تهفو وتلاعب عراجينَ
ميَّادة وطرية . فمن زاوية النضارة والخضرة ، التي يضعها فصل الربيع على محيا الطبيعة
، تتدلى جدائلُ من أغصنة زاهية قد تمت
تعريتها ، من قبل ، في الخريف وطيلة فصل الشتاء . فلما بدأت عراجينُ تتفتق وتتفتح ، على صحو شمس
فصل الربيع الدافئة ، استعار البحتري الضحك للطبيعة ؛ لأنها خرجت للتـَّوّ من عبوس
وقلق .
بعيدا عن الشعر قريبا من السرد الحكائي ، وظف
نجيب محفوظ ، في مجموعته القصصية " همس الجنون " ، الضحك بمعان جديدة ؛ خصوصا
عندما يكون ـ أي الضحك ـ صادرا عن شخص أصيب بالخبول والجنون . يقول السارد في قصة
" همس الجنون " : " ... بل أحس ميلا إلى الضحك ، نادرا ما كان يفعل
، فضحك ضحكا متواصلا حتى دمعت عيناه ..." . ينتقد السارد ، في النص القصصي ، الواقع
الحرون بواسطة ضحك تعبر به الشخصية الرئيسة عن الرفض وعدم القبول . يقول السارد
على لسان البطل : " يرشون فيؤذون
تم يكنسون ... ها ها ها ! "
بالموازاة
، يكون للضحك وجه آخر ، عندما يوظف
للتعبير عن الحرية التي فقدها الإنسان المعاصر ، فضلا عن ذوبانه اللامشروط في
بوتقة الانفعال الطارئ . فما كان أمام المجنون ، الشخصية الرئيسة في النص القصصي ،
إلا أن يرفض رفضا باتا ربطة العنق ، التي يضعها المستخدمون والأجراء في الإدارات العمومية و الخاصة .
بدعوى أنها لا تضمن لهم ، كما يزعمون ، توازنا واستقرارا في العمل . يقول السارد :
" ما فائدة هذه الربطة ؟ لماذا نشق على أنفسنا في اختيار لونها وانتقاء
مادتها وما يدري إلا وهو يضحك كما ضحك
بالأمس " .
إن السعادة و الإرادة اللتين يرنو إليهما بطل
القصة لا يتحققان ، في نظره ، إلا بالضحك والقهقهة في وجه إنسان مستلب و مهضوم
الحقوق ؛ لأنه ، حسب زعمه ، لا يلبي فيه نداء الحرية . فمن هنا يأتي الضحك ، عند
نجيب محفوظ ، لتعرية هذا النظام غير المتكافئ ، حيث إن المجنون استطاع أن يحقق
ذاته و شعوره من خلال مجموعة من أفعال قام بها دون أن يكترث لأحد . يقول السارد " هأنذا أقف لغير ما سبب ،
ونظر فيما حوله في ثوان ثم تساءل أيستطيع أن يرفع يديه غير مكترث لأحد من الناس .
ثم تساءل مرة أخرى هل تواتيه الشجاعة على أن يقف على قدم واحدة ؟ " .
لم
يقف نص " همس الجنون " عند حدود تعرية الواقع الموبوء فقط ، بل كان يطمح
نحو تحقيق عدالة اجتماعية منصفة . وعلى غرار ذلك
يجيء الضحكُ ، على ما آلت إليه الأوضاع من فقر وجهل وجوع ، كإشارة ساخرة وكاشفة
عما يعتور المجتمع من أمراض . فتحقيق العدالة المنشودة ، التي أشار إليها الكاتب
في النص ، تبدأ بإطعام ، ما لذ وطاب ، جماعة من غلمان السبيل عرايا إلا من أسمال
بالية . فما كان للبطل إلا أن يقترب من طاولة في مطعم محترم ، ويأخذ دجاجة من صحن مجلس
يضم رجلا وامرأة يجلسان في تواد وسكينة ؛ ليرمي بها ـ أي الدجاجة ـ إلى غلمان جوعى
. فاسترسل بعد ذلك ضاحكا حتى دمعت عيناه ، ومتنهدا بارتياح من أعماقه ؛ لأنه شعر
بالطمأنينة و الثقة والسعادة .
و به
، كان الضحك عند نجيب محفوظ ، في " همس الجنون " ، داعيا قويا إلى إعادة
توازن ظل مفقودا داخل المجتمع ، وذلك على لسان بطل أصيب بعاهة الجنون . فمهما حاول القائمون ، بشأن الأفراد والجماعات ،
التملص من التزاماتهم تجاه المجتمع ، فإن السخرية اللاذعة ستلاحقهم ، وما الضحك
إلا جزء من هذه اللعبة التي تعيد التوازن إلى المجتمع .
أما ميلان كونديرا ، في الثقافة الأوروبية ،
فيلحق الضحك بالساسة ، الذين يزيفون الحقائق ، ويرمون بها في مزبلة التاريخ . فما
كان نصيب جون كيندي الرئيس الأمريكي إلا الاغتيال السياسي في ظروف غامضة ، مادام
عشقه الأبدي للصورة التي يستبين فيها ضحكا ملء شدقيه . فمن بين الصور البيانية ، التي
ستظهر كيندي ، وهو يضحك ، نقول " في فيه انتشر ضوء حتى انكشفت أسنانه عن
آخرها ..."
فكونديرا فطن إلى أن الضحك لا يبرز كل ملامح
الوجه ، لذلك كان جل النحاتين ، في الأدب الأوروبي ، يضعون وجوه منحوتاتهم في حالة
من الانشراح بعيدا عن التشنج . وفي ذلك ، كان مسعى النحات الإيطالي مايكل آنج في
القرن الخامس عشر أن يبدع تماثيل تضع الوجه بعيدا عن أن يكون متشنجا ، بخلاف التماثيل
الأترورية التي تجعل من الابتسامة شرطا أساسيا ، ومكونا جوهريا للإبداع . ومع
ليوناردو دافينتشي دخل الرسم منعطفا جديدا ، وفيه عرفت الابتسامة الفتور ، بل
التلاشي و الإمحاء التام من على الصورة ، كما هو الحال بالنسبة للموناليزا .
وبالرغم من ذلك ، يظل الضحك أليغوريا للتعبير
عن الفرح و الحبور ، بل قد يتحول إلى قلق وحزن و جنون . إلا أنه يبقى تعبير الوجه
الدائم النضارة ؛ فضلا على أن الأليغوريا تسبح في مياه المجاز والتحول ، سواء كان
تجاورا أو تشابها . لذلك ، فالضحك تخطى الجمال والقبح ، ومن ثم أصبح تعبيرا أسمى للفرح ، وما الوجه إلا لوحة تحمل
أسرارا ؛ قد تكون دفينة وإلى الأبد .