هضت أم عبد الرحمن من فراشها مرتعشة القلب، في عينيّها يلتمع الفزع ويتضاعف، الفزع الذي اعتادته مذ كانت طفلة صغيرة محدّثة نفسها: ما الذي أيقظ عبد الرحمن فجأة من نومه رغم شدة تعبه وآلام جسده غير المحتملة!؟
مشت خطوات بلا هوادة إلى سريره، لتؤكد لنفسها بأنه لم يبت الليلة في فراشه، حيث لا توجد إلا ملابس نومه مركونة في الزاوية. إنها تحصد الأرق والقلق منذ انشقاقه، متخليّة عن حماستها السابقة للحياة. فتحت باب الدار متابعة خطوات عبد الرحمن بخفة، لا تريد أن توقظ رشا حفيدتها اليتيمة، صاحبة الخمس سنوات، حتى لا يربكها بكاؤها. كانت رائحة الخبز تملأ المكان، تعدّه فاطمة وهي أصغر أخواتها من أبيها.
فاطمة شابة بسيطة، تختزن حزنها في عينيها، شديدة الاعتناء بشقيقتها وأبنائها، هي تراهم بعيون قلبها، وتقوم على خدمتهم مع الأحفاد. فاطمة حرمت ممّن أحبّت وطال انتظارها لأكثر من خمس سنين، هي لا تعرف حبيبها إن كان حيًا أو ميتًا!
أدهشها القلق في عينيّ أختها التي لا تعرف إلا البكاء، وكأنها معتادة عليه منذ ولادتها. لكنها تركت لها ظهرها والتفتت للنيران التي تتراقص في التّنور: ما بالها أم عبد الرحمن؟ ماذا أقول أنا التي لم أحظ بزوج ولا أولاد؟ فلولا هذه الحرب اللعينة لكنت الآن في بيت زوجي، أعدّ له الفطور وحولنا يتراقص الصغار... لا أدري إن كان الموت ظلمًا أم رحمة يا الله؟!
تابعت أم عبد الرحمن سيرها ولم تلتفت نحو فاطمة على غير عادتها، مارّة بشخص يُقال عنه زوجها، هو لا يسأل عنها إلا عند شهوته، لعلها تظفر بفلذة كبدها نائمًا في رحم القش المكوّم على حافة الطريق، كما يفعل عندما كان صبيًا، متسائلة: هل تنضج الأحزان في القلوب كهذه الأرغفة التي تعدها فاطمة كل صباح لتسكت صراخ الجياع؟
سمعت صوت قلبها فلجأت إلى شجرة التوت العملاقة، حيث عبد الرحمن يرسم دائرة حول وجعه المكظوم، محتميًا بوحدته، يبكي بحرقة وتنهد. جلست قربه تحتضن وجهه بهدوء وفي قلبها ألف انكسار: أتبكي يا عبد الرحمن؟
أماه حيثما رحلت أزرع قبرًا، فكيف يمكنني أن أسامح نفسي، أهكذا تعاقب الآلهة أبناءها؟
لا تبالغ بالحزن يا بني، أنت لم تكن سببًا بموت كريم.
هل تزيدين من همي يا أمي أم تواسيني؟
قبّلته ثم مسحت دموعه براحتيها قائلة: الشدائد يا ولدي مختبر الرجال، وعليك أن لا تضعف أمامها كي لا تجرفك نحو مهاويها...كن صلبًا يا وَليدي.
عبد الرحمن ليس مع الجهة التي ينساق فيها رفاقه، إنه مع جهة المغيبين والمنفيين، فعندما زار جاره ماهر لمواساته بوفاة ابنه البكر، صادف عنده رجب ابن عم كريم، وسمع ما قاله عنه من سوء، فصوّب نحوه نظرة حادة ومحذّرة، ارتجف لها شارباه الكثان: اسمع يا رجب، النذالة والتخاذل مرض عضال عند من يدمنهما، لا أدري إن كانا يولدا مع المرء، أم يكتسبان؟ فبتخاذلك تقضم أعناق الشرفاء واتهامك بالخيانة لابن عمك كريم تفريط بدمه وعار عليك.
ضيّق رجب عينيه، وابتلع ريقه بصعوبة مهرولًا نحو الباب. كتم عبد الرحمن غيظه مناديًا إياه: اجلس أمامنا كالرجال يا رجب وكفّ عما تفعله، فحين تعرّفت إلى ابن عمك كريم عرفت من خلاله معنى الشجاعة، والنبل والإقدام، ويوم وقع الاختيار عليه لتنفيذ حكم الإعدام برفاقه قال بعدما تلألأت في مقلتيه الدموع: أن تبقى كفوفنا بيضاء هو كل ما نستطيع فعله هذه الليلة، ومن أراد ذلك عليه أن يجهّز نفسه للخروج من هذا الجحيم بعد منتصفها هذا. إنها المرة الأولى التي أملك فيها جرأة كريم، والمرة الأولى التي أرى فيها الخوف ضيقًا كخرم إبرة ولم أرتعد من أنيابه. ليلتها ونحن نسير في الوحل تحت المطر لأكثر من ساعتين، تجاوزنا كل أخطار الموت، وعُقَد الخوف والرعب، حتى وصلنا ذلك الجدار اللعين ونحن نتشبّث ببعضنا كي لا يفقد أحدنا الآخر، لم أستطع أن أنسى نظراته حين كنا نحاول تسلّق الجدار وهو يقول: سيكون لكل واحد منا ميلاد جديد في هذا الصباح إن نجونا، وستكون لنا حياة أخرى. أصرّ كريم يومها أن أتسلّق الجدار قبله ليطمئن علي، وبعد أن تأكد من نجاح محاولتي من المرة الأولى راح يحاول مرة بعد أخرى، لكن السقوط على الأرض كان حليفه، وفي المرة الأخيرة والتي لا يمكن نسيانها كاد ابن عمك كريم أن ينجح في تسلّق الجدار فابتهلت من أجله، وهمست، أسرع يا كريم، أقسم إذا وجدونا لن يخسروا سوى رصاصتين في رأسينا.
على بعد أمتار منا سمعت صوت خطوات تقترب، وسعال يتعالى.
والله رأيتهما بأم عينيّ يا سيدي يتسللان إلى هذه الجهة قالها أحدهم.
هذه المرة لم يخذل الجدار وحده ابن عمك كريم، بل الضابط المناوب، بسترته الداكنة، وعينيه الماكرتين، وبنبرة المنتشي خاطب كريم:
مرحبا كريم، ما الذي جئت تفعله هنا، أتريد الانشقاق أليس كذلك!؟ ردّ كريم ببرود وكبرياء: وهل جئت لتمنعني؛ أكيد... قل لي من جاء معك أيضًا؟
أتيتُ وحدي، قال كريم.
معقول وحدك!، وأين عبد الرحمن؟
تاه في الحرش.
جئت لأجعلك تدرك أن ما تفعله ليس بصواب، قال الضابط.
صواب ههه! الصواب ألا تعود خائبًا، وها قد ظفرت بي بعد أن مشطتّ كل هذا الحرش! الآن عليك أن تقوم بما يرضي أسيادك أيها العقائدي.
ألا تخاف الموت يا كريم!؟
أشرف لي أن أموت، من لعنة أرجم بها طوال حياتي.
وإن متّ الآن يا صديقي فهي مشيئة القدر.
القدر؟ ههه: وكيف سيكون قدرنا وأنتم صنّاعه؟!
هبّ الضابط وهو يصيح في وجه كريم: أنا لم أتساهل معك إلا لإنقاذك لأنني ما زلت أحفظ عهد صداقتنا.
استنكر كريم: لإنقاذي... وصداقتنا!!
أجابه الضابط بصوت هادئ: نعم لإنقاذك من موت مُحَتَّم.
عليك أن تنزع من بين أضلاعك ما تسمّيه شفقة وخاصة أمامي، وتعرف كريم أنه لم يأكل لحمًا مطبوخًا يومًا، ليأكل لحوم أهله نيئة، وها أنا أمامك أفعل ما شئت بي.
أطلق الضابط ضحكة مدويّة حتى سبحت عيناه بالدموع: يا غبي.
كم من مرة أكدت لك ألا تفعلها! وكم من مرة حذّرتك من شدة العاقبة.
كانت مشاعر الكراهية تنفجر في كلماته وتتدافع متصاعدة كالنار المتّقدة.
نظر إليه كريم برهة ثم تنهّد في صبر ينزّ بالهدوء: كنت أشك أن تفعلها لكن روحك مشبعة بالانحطاط مذ عرفتك. كأنه كان ينتظر هذه الكلمة من كريم ليهوي على جسده بضرب جنوني مرددًا: أيها النذل لن أتوقف عن ضربك حتى أرى جلدك مسلوخًا عن عظمك، وأسمع أنين شكواك ورأسك راكعًا عند قدمي، هيا ادعو إلهك إذن أن يخلّصك؛ أن يمدّ لك يد معونته على الأقل؛ لكن لن يسمعك.
ذهلت مما سمعت خلف ذاك الجدار، غير مصدّق ما يحصل لكريم من ضرب جنوني! يا إلهي كيف انصعت لكلامه وتركته لوحده؟ وبدل أن يسمع هذا الوغد أنينه وشكواه، سمع ضحكة استهزاء منه ومن سياطه وهي تأكل لحمه.
سترى يا ابن العاهرة...... عم تضحك كمان، سأجعل أناتك تمتد مع الريح لتصل لمسامع أمك.
استهزاء كريم زاد من ضروب بطشه، وزادني عليه خوف عظيم.
صاح الضابط بأحد المجندين: أطلق على هذا الكلب النار، ابدأ من ساقيه، أريد أن أسمع عواءه لأشفي غليلي.
يومها حاولت أن أنادي، أصرخ، أستغيث، لكني لم أستطع، خلت أن لساني أصبح كخشبة تابوت، فبكيت قهرًا حتى الثمالة، وكان عجزي يزداد بازدياد الطلقات التي يرتفع صداها خلفي ثم تتلاشى رويدًا رويدًا.
(فرنسا)
https://diffah.alaraby.co.uk/