“رب صدفة خير من الف ميعاد”..
تلقيت رسالة من القاص المغربي عبده حقي للمشاركة في ملفّ حول دور النخب العربية، ولم تكن لي سابق معرفة به، او بالمجلة التي يحررها “مجلة اتحاد كتاب الانترنت المغاربية” ففوجئت مرتين، اولا بالتعرف الى اديب، والتعرف الى مجلة تعكس الواقع الثقافي المغاربي، الذي للأسف علاقتنا به ليست على نفس مستوى علاقتنا مع أدب المشرق العربي. بعد تبادل بعض الأحاديث الإنترنيتية العادية عرّفني عبده حقي بمجموعة قصصية الكترونية اصدرتها له المجلة تحمل عنوان "ماماغولا"!!.
قرأت المجموعة مرتين لأسباب عديدة، اهمها اني وجدت نفسي أمام أسلوب جديد في السرد القصصي، تغيب فيه الشخصيات الملموسة، او تتداخل مع المكان، تتصارع فيه الأفكار، اللغة تلعب دورا دراميا، ربما يصح القول ان اللغة هي البطل في الأسلوب السردي للمجموعة القصصية “ماما غولا”.
لست ناقدا بالمفاهيم النقدية الأكاديمية، انا ناقد ذوقي ولو خيرت لوصفت كتابتي بالكتابة الثقافية وليس النقدية. ما لمسته هنا هو الترابط السردي بين الأحاسيس، الانطباعات والرؤية الذاتية للكاتب من جهة، وبين رسالة يحاول ان يوصلها بأسلوب حداثي في الصياغة الى القارئ لكني اعتقد ان هذا اللون السردي يحاج الى قارئ واسع الثقافة، ممتد الخيال، ليتابع المونولوج السردي. او اللعبة اللغوية التي تداخلت فيها حركات عديدة، هو حقا مونولوج سردي تغيب منه الشخصيات المجسمة كما اعتدنا في الكتابة القصصية التقليدية.. البطل كما لمست هي اللغة اولا، وهل من قيمة لأي نص مفكك اللغة؟ البطل الثاني يتغير، مرة المكان المتداخل بالزمان بخلطة لم اجد مثلها لدى كاتب آخر، مرة الرؤية الحسية، مرة الأسطورة، مرة الفكرة التي تبحث عن تفسير او تسجل رؤية حياتية… لكنها ليست نصوصا مجردة من الانسان، رغم غياب الشخص الشكلي في معظم السرد.
ان الملامح الانسانية تنعكس بإطار فكري وليس تجسيدي. الكاتب لاعب وحيد، يضبط المكان والزمان داخل رؤية فكرية او فلسفية، ربما هي حداثة لم نعتادها بعد في نصوصنا القصصية، مما يجعل القراءة صعبة بعض الشيء لكن اللغة المتدفقة لعبدة حقي، البطل الحقيقي في نصوص المجموعة، تسهل على الكاتب ان يُبقي كل خيوط اللعبة القصصية بيديه، كأني به يعامل القارئ كما في مسرح الدمى، يملي عليه الحركات، يملي عليه الأفكار. اقرأوا مطلع اول قصة: “ضاق الدرب على الرؤية… حتى الدرب شاخ وغارت تجاعيده على الحيطان.. الزمن طعن فيه.. وهم طعنوا في السن او طعن فيهم.. فلا احد يدري من طعن في الآخر..” هذا المقطع يفسر الرؤية السردية لقصص المجموعة. البطل ليس مجسدا بشخص ربما بزمن ربما بفكرة، ربما بتفاعل تاريخي. صحيح ان ما يرتسم في الذهن هم الطاعنون في السن، لكني المس هنا نقدا اجتماعيا أيضا، نقدا عن غياب حركة التطوير.. وليفهما كل منا كما يشاء”. “ضاق الدرب عن الرؤية” و “الزمن طعن فيه وهم طعنوا في السن”…
هل هذا وصف لحالتنا الاجتماعية في العالم العربي؟ لا شيء يتغير.. لا الدرب المتهالك ولا الانسان المستسلم للعجز. هي كتابه أشبه برحلة يجلس فيها الكاتب مراقبا ومسجلا لمشاهدات ما تمليه الحياة علينا، على المكان وعلى الزمان. ولكنه ليس كاتبا حياديا، انما يقول رأيه (او نقده) بأسلوب يبتعد عن المباشرة، المباشرة قد تعيش ليوم ليومين اما النص السردي الفكري القصصي فيعيش ما دام الدرب يزداد ضيقا…
في قصة ماما غولا التي تحمل المجموعة اسمها، يصور شخصية اسطورية، هل هي شخصية بشرية، ام وحش اسطوري؟ يترك للقارئ ان يستنتج.. بمعنى آخر يحث القارئ ان يفكر. بدون تفكير لا حقيقة، بدون تفكير نبقى ضحية للأسطورة او لواقع مرعب مع شخصية كانيبالية، بشر مثلنا كما يقول في نهاية سرد مثير، لكنها وحش آدمي كما يفترض ان نستنتج من النص. ماما غولا قصة آسرة.. عبده حقي يثبت هنا ان الفن القصصي يحتاج الى قارئ مفكر وليس قارئ نصف نائم.
هذه القصص أعادتني الى مقال نشرته قبل فترة تحت عنوان “القصة كمادة فكرية” قلت فيه عن مثل هذا اللون القصصي المتمثل بطرح فكرة فلسفية او رؤية فلسفية، كجوهر للقصة، انها نصوص تخاطب قارئاً من نوع جديد، قارئاً بمستوى ثقافي ومعرفي ما فوق المتوسط على الأقل، يقرأ القصة بذهن يقظ كما يقرأ، الى حد ما… موضوعاً فكرياً، وقلت ان السؤال الذي يشغلني بدون إجابة كاملة حتى اليوم: هل يختزل ذلك فن القصّ ام يرقى به الى مستوى جديد؟ نفس السؤال فرض نفسه بعد ان قرأت مجموعة ماما غولا!!
ليس من السهل إعطاء إجابة قاطعة. ما استطيع ان أقوله ان عبده حقي يقوم هنا بمغامرة سردية، اعرف ان القارئ ليس جاهزا لهان هذا على الأقل استنتاجي من الواقع الثقافي الذي أعيشه، من تجربتي، بنفس الوقت هناك قراء للأسف هم أقلية، تشكل القصة بالنسبة لهم عالما فكريا، وهي أكثر متعة من مجرد سرد قصصي تقليدي.
ملاحظة:
اعترف ان بعض النصوص استعصت علي وظلّت مغلقة امامي.. مثل الدرب التي تضيق عن الرؤية… ولكني لاحظت ايضا الرسالة التربوية التي تملأ عالم عبده حقي حين أشار باحدى قصصه الى كتاب “قصيدة تربوية”، للمربي السوفييتي الكبير انطوان ماكارنكو والتي قراتها قبل اربعة او خمسة عقود وأعدت قراءة الكتاب مرات عديدة عبر السنين… وأجبرت عشرات الزملاء الناشطين في السياسة والتربية والتعليم على قراءة الكتاب (صدر بثلاثة أجزاء كما أذكر) فسحرهم الكتاب والتجربة التربوية لمؤلفه…
اجل عزيزي كم يحتاج مجتمعنا الى مئات أمثال ماكارنكو… في جميع مجالات الحياة.