-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

تسامحٌ وتعايش - ذ . رشيد سكري


من خلال مواثيق ودساتير تاريخية ، نستحضر حروبا دينية أرخت لأحداث دموية في أوربا إبان العصر الحديث . بالموازاة مع ذلك ، وسعيا نحو محو الضغينة والإجهاز عليها ، ظهر في منتصف القرن السادس عشر ، ما يصطلح عليه باسم " توليرانس" أي التسامح  . بما هو اعتراف مبدئي بالصراع الدائر بين قوى من أجل السلطة الدينية ، وبسط الهيمنة المطلقة على كل مخرجاتها ؛ بهدف التحكم الفعلي والمباشر في مصائر البلاد والعباد . إن الحق في الاختلاف كان من بين المنعطفات الخطيرة ، التي أسست لعهد جديد في أوروبا ، وذلك عبر سن قوانين جديدة ملزمة لكل القوى المتصارعة . وهذا ما كشف عن الدور ، الذي يلعبه الشأن الديني في استثبات الأمن والسلام بين شعوب وأمم العالم الحديث .

 وغداة تأسيس الفكر الليبرالي في أوروبا ، انبثقت مراسيمُ تثبت الحق في الاختلاف ؛ كميزة إنسانية ، تطمح إلى خلق اعتراف حقيقي بالآخر ، ومدى أهميته في استقرار وديمومة الحياة الكريمة . وبهذا جاءت الليبرالية لتكتسح كل المؤسسات ، التي تسوس الشأن العام من غير التفكير بالعودة إلى سنوات العتـْمة والضلال . ومنها كان الإصلاح جار على قدم وساق بعدم فك الارتباط ، الكلي والمطلق ، بالنصوص التشريعية القديمة ، التي تنظم الشأن الديني في أوروبا ، بغية حفظ وصيانة الجوهر الروحي عند الإنسان ، خصوصا وأن أوروبا داخلة على ، إثر ذلك ، عهدا جديدا متمثلا في الثورة الصناعية الحديثة ، وما يليها من هجمة على شعوب مستضعفة ؛ للظفر بثرواتها وخيراتها  .

   إن التسامح ، في هذا الباب كمفهوم ، يكشف عن الاختلاف ، و يعترف به في الآن ذاته . من هذه الزاوية ، استعمل على عدة واجهات تضمن بموجبه الاستمرارية من جهة ، وتحفظ الهوية من جهة أخرى . فما كان للدين إلا أن يلعب دوره الكبير في ترصيص صفوف المجتمع ، لمواجهة الهدر الذي تتعرض له الهوية الجماعية ، والذوبان الكلي والمطلق في الآخر المهيمن ، كما هو الشأن في العالم الإسلامي .

  تستطيع الحرية الدينية والتسامح فعل الكثير ، وهما جسران نحو بسط النفوذ والسيطرة على مداخل الثروة عند الشعوب المستضعفة . ولم يكن ، أمام هذه الأخيرة ، إلا الإذعان لأمر الواقع ، مادامت لا تتوفر على آليات وميكانيزمات تفكك بموجبها الخطاب السائد . وعند رفع القناع ، عن الوجه الحقيقي لليبرالية ، نجد التعصب والعنصرية المقيتة تخيط كل المواقف والقناعات ، بغية تكريس تلك النظرة الدونية والاستعلائية ، في الآن ذاته ، تجاه الآخر المنحط و المتخلف اجتماعيا وثقافيا وفكريا .

  وفي هذا الصدد ، نجد العالم الاسلامي يركب موجة التسامح بهدف المقاومة ، والحد من التغلغل السياسي للآخر ، الذي يضعف الإرادة الحقيقية للتغيير . علاوة على ذلك كان للباحث المغربي الدكتور على أومليل ، في كتابه " في شرعية الاختلاف " ، رأيٌ آخرُ بشأن التسامح ، فكان البحث عن الأصول وتعريتها من الصدأ ، الذي غلفها وغير من طبيعتها ووظيفتها ، أمرا في غاية الأهمية حسب أمليل ، وهي فرصة مواتية ليعطي للمنهج التاريخي الموضوعي دفعة قوية في الساحة العلمية . إن الرجوع إلى كل من رفاعة الطهطاوي  وجمال الدين الأفغاني كفيل بأن يأخذ التعصبُ مداه الحقيقي في التأثير على القرارات الحاسمة . فحسب هذين العالمين الجليلين كان دائما التعصب وجها مضادا للتسامح ، نظرا لحضور مفهوم الأمة في معالجتهما لمختلف القضايا الإصلاحية الخاصة بالعالم الاسلامي . غير أن الأفغاني كان له موقفٌ آخرُ بشأن التعصب ، فهو في نظره ليس مذموما مادام يرمي إلى وحدة الأمة ضد الأطماع الأجنبية . لذا فمن الأجدر أن نقول إن المفاهيم المتداولة ، في الساحة الفكرية والعلمية آنذاك ، تتغير معانيها بحسب الظروف الموضوعية التي تميز عيون المرحلة .

  في هذا الإطار يرى علي أمليل أن على التيارات الإصلاحية في الإسلام أن تأخذ بجدية الفوارق الإثنية واللغوية والأخلاقية ، التي تقطع ربوع العالم الإسلامي ، وتتخذ من الحرية الدينية وسيلة فعالة للعبور إلى الاختلاف ، بما هو تعبير عن العيش والتساكن . في طليعة ذلك ، نجد بلاد الأندلس الرقعة الإسلامية ، التي تجسدن التعايش بأبعاده بالرغم من وجود اختلاف على المستوى الديني والعقائدي .  فكان ابن حزم قاطرة حقيقية للتعايش رغم اختلاف الأديان ، فلولا الأرضية الثقافية والفكرية المتينة والصلبة ، التي بسطها ابن حزم من خلال جلساته العلمية ومناظراته الفكرية ، لما نال الشهرة التي خلدته في الأدب الأندلسي .

    استطاع كتاب " طوق الحمامة في الألفة والألآف " أن يفعل الكثير في موضوع التسامح ، من خلال الرسائل التي تدوولت على أكبر مستوى بين المثقفين المهتمين بالشأن الأندلسي  ، والتي كانت في أغلبها ، تلهج بلسان المودة والمحبة والتقوى . وفي هذا الصدد ، حث ابن حزم على تقوية أواصر الحوار والمحبة ، والسير قدما نحو إرساء قواعد و ثوابت الجوار ، بالرغم من الاختلاف الذي يعري المذاهب المتساكنة في الأندلس . فكان المثال ، الذي يستشهد به ابن حزم ، في إرساء دعائم التعايش والتسامح ، عنوانا كبيرا للانصهار والذوبان في الآخر بالرغم من الاختلاف على جميع الأصعدة ، يقول ابن حزم في العلاقة ، التي ربطت بين هشام بن الحكم الشيعي ، وعبد الله بن زيد الفزاري " صديقان مخلصان في دكان واحد ، لم يتحارجا قط " .

   والذي دفع بالتسامح والتعايش إلى أن يبلغ مداه ، ويجلل بالطـُّهر والصَّفاء ، الحياة في الأندلس ؛ التسامر الثقافي ، ومنتديات الشعر و الأدب . فكانت المسامرات ، التي يقيمها ملك إشبيلية ؛ المعتمد بن عباد وأبوه المعتضد ، عنوانا كبيرا للألفة والجوار ، فكما ذكر أحمد المقري التلمساني في " نفح الطيب " أن للمعتضد دارا لا يدخل عليه أحد فيها غير الشعراء ، وكان يوم الاثنين من كل أسبوع " .  هذه الألفة واللمة والالتفاف حول دُرر الشعر والأخبار رسخت عادات وتقاليد التسامح ، مبعث الطمأنينة و السكون ، والجدال من أجل الوصول إلى حقائق عامة .

  ففي التسامح ، دائما ، يجيء الدين رافضا التعصب ، الذي تـُكرَّس في أمهات مصادر الثقافة العربية . إن الجاحظ ، في هذا الباب ، مهما حاول إخفاء وقوفه النـِّدِّي للشعوبيين ، إلا أنه يعتز بالانتماء إلى سليل العروبة ، حيث تحتل اللغة العربية مكانة فضلى بين سائر اللغات . وقد أظهر الجاحظ في كتابه " البيان والتبيين " ولاءً كبيرا للعروبة ، بهدف الرقي بأمة حباها الله بالدين الإسلامي . غير أن هذا الاعتزاز إلى حد الهوس ، قد يتحول إلى خوف من مصير مجهول ، يحول دون تحقيق أهداف الأمة ؛ من بينها الوقوف أمام غزو حضاري وثقافي مرتقب ، يتهدد  قديما ، الوجود العربي من طرف الفرس والروم . وفي هذا يظل التسامح والتعايش صفتين أساسيتين تمكنان المجتمع من أن يعيش في وئام وحرية. ، فأيَّا كانت الظروف ، التي تحول دون تحقيق وحدة الشعور والانتماء ، فإن الحضور القوي للخصال الإنسانية تغير مجرى التاريخ ، وتجعل من الإنسان قريبا من إنسانيته ، يتعايش في وئام وانسجام مع الآخر .

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا