من خلال مواثيق ودساتير تاريخية ، نستحضر حروبا دينية أرخت لأحداث دموية في أوربا إبان العصر الحديث . بالموازاة مع ذلك ، وسعيا نحو محو الضغينة والإجهاز عليها ، ظهر في منتصف القرن السادس عشر ، ما يصطلح عليه باسم " توليرانس" أي التسامح . بما هو اعتراف مبدئي بالصراع الدائر بين قوى من أجل السلطة الدينية ، وبسط الهيمنة المطلقة على كل مخرجاتها ؛ بهدف التحكم الفعلي والمباشر في مصائر البلاد والعباد . إن الحق في الاختلاف كان من بين المنعطفات الخطيرة ، التي أسست لعهد جديد في أوروبا ، وذلك عبر سن قوانين جديدة ملزمة لكل القوى المتصارعة . وهذا ما كشف عن الدور ، الذي يلعبه الشأن الديني في استثبات الأمن والسلام بين شعوب وأمم العالم الحديث .
وغداة تأسيس الفكر الليبرالي
في أوروبا ، انبثقت مراسيمُ تثبت الحق في الاختلاف ؛ كميزة إنسانية ، تطمح إلى خلق
اعتراف حقيقي بالآخر ، ومدى أهميته في استقرار وديمومة الحياة الكريمة . وبهذا
جاءت الليبرالية لتكتسح كل المؤسسات ، التي تسوس الشأن العام من غير التفكير
بالعودة إلى سنوات العتـْمة والضلال . ومنها كان الإصلاح جار على قدم وساق بعدم فك
الارتباط ، الكلي والمطلق ، بالنصوص التشريعية القديمة ، التي تنظم الشأن الديني
في أوروبا ، بغية حفظ وصيانة الجوهر الروحي عند الإنسان ، خصوصا وأن أوروبا داخلة على ، إثر ذلك ، عهدا جديدا متمثلا في الثورة الصناعية
الحديثة ، وما يليها من هجمة على شعوب مستضعفة ؛ للظفر بثرواتها وخيراتها .
إن التسامح ، في هذا الباب كمفهوم ، يكشف عن
الاختلاف ، و يعترف به في الآن ذاته . من هذه الزاوية ، استعمل على عدة واجهات تضمن
بموجبه الاستمرارية من جهة ، وتحفظ الهوية من جهة أخرى . فما
كان للدين إلا أن يلعب دوره الكبير في ترصيص صفوف المجتمع ، لمواجهة الهدر الذي
تتعرض له الهوية الجماعية ، والذوبان الكلي والمطلق في الآخر المهيمن ، كما هو
الشأن في العالم الإسلامي .
تستطيع الحرية الدينية
والتسامح فعل الكثير ، وهما جسران نحو بسط النفوذ والسيطرة على مداخل الثروة عند
الشعوب المستضعفة . ولم يكن ، أمام هذه الأخيرة ، إلا الإذعان لأمر الواقع ،
مادامت لا تتوفر على آليات وميكانيزمات تفكك بموجبها الخطاب السائد . وعند رفع
القناع ، عن الوجه الحقيقي لليبرالية ، نجد التعصب والعنصرية المقيتة تخيط كل
المواقف والقناعات ، بغية تكريس تلك النظرة الدونية والاستعلائية ، في الآن ذاته ،
تجاه الآخر المنحط و المتخلف اجتماعيا وثقافيا وفكريا .
وفي هذا الصدد ، نجد العالم
الاسلامي يركب موجة التسامح بهدف المقاومة ، والحد من التغلغل السياسي للآخر ،
الذي يضعف الإرادة الحقيقية للتغيير . علاوة على ذلك كان للباحث المغربي الدكتور
على أومليل ، في كتابه " في شرعية الاختلاف " ، رأيٌ آخرُ بشأن التسامح
، فكان البحث عن الأصول وتعريتها من الصدأ ، الذي غلفها وغير من طبيعتها ووظيفتها
، أمرا في غاية الأهمية حسب أمليل ، وهي فرصة مواتية ليعطي للمنهج التاريخي
الموضوعي دفعة قوية في الساحة العلمية . إن الرجوع إلى كل من رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني كفيل بأن يأخذ التعصبُ مداه
الحقيقي في التأثير على القرارات الحاسمة . فحسب هذين العالمين الجليلين كان دائما
التعصب وجها مضادا للتسامح ، نظرا لحضور مفهوم الأمة في معالجتهما لمختلف القضايا
الإصلاحية الخاصة بالعالم الاسلامي . غير أن الأفغاني كان له موقفٌ آخرُ بشأن
التعصب ، فهو في نظره ليس مذموما مادام يرمي إلى وحدة الأمة ضد الأطماع الأجنبية .
لذا فمن الأجدر أن نقول إن المفاهيم المتداولة ، في الساحة الفكرية والعلمية آنذاك
، تتغير معانيها بحسب الظروف الموضوعية التي تميز عيون المرحلة .
في هذا الإطار يرى علي أمليل
أن على التيارات الإصلاحية في الإسلام أن تأخذ بجدية الفوارق الإثنية واللغوية والأخلاقية
، التي تقطع ربوع العالم الإسلامي ، وتتخذ من الحرية الدينية وسيلة فعالة للعبور
إلى الاختلاف ، بما هو تعبير عن العيش والتساكن . في طليعة ذلك ، نجد بلاد الأندلس
الرقعة الإسلامية ، التي تجسدن التعايش بأبعاده بالرغم من وجود اختلاف على المستوى
الديني والعقائدي . فكان ابن حزم قاطرة
حقيقية للتعايش رغم اختلاف الأديان ، فلولا الأرضية الثقافية والفكرية المتينة
والصلبة ، التي بسطها ابن حزم من خلال جلساته العلمية ومناظراته الفكرية ، لما نال
الشهرة التي خلدته في الأدب الأندلسي .
استطاع كتاب " طوق
الحمامة في الألفة والألآف " أن يفعل الكثير في موضوع التسامح ، من خلال
الرسائل التي تدوولت على أكبر مستوى بين المثقفين المهتمين بالشأن الأندلسي ، والتي كانت في أغلبها ، تلهج بلسان المودة
والمحبة والتقوى . وفي هذا الصدد ، حث ابن حزم على تقوية أواصر الحوار والمحبة ، والسير
قدما نحو إرساء قواعد و ثوابت الجوار ، بالرغم من الاختلاف الذي يعري المذاهب
المتساكنة في الأندلس . فكان المثال ، الذي يستشهد به ابن حزم ، في إرساء دعائم
التعايش والتسامح ، عنوانا كبيرا للانصهار والذوبان في الآخر بالرغم من الاختلاف
على جميع الأصعدة ، يقول ابن حزم في العلاقة ، التي ربطت بين هشام بن الحكم الشيعي
، وعبد الله بن زيد الفزاري " صديقان مخلصان في دكان واحد ، لم يتحارجا قط
" .
والذي دفع بالتسامح والتعايش إلى أن يبلغ مداه
، ويجلل بالطـُّهر والصَّفاء ، الحياة في الأندلس ؛ التسامر الثقافي ، ومنتديات
الشعر و الأدب . فكانت المسامرات ، التي يقيمها ملك إشبيلية ؛ المعتمد بن عباد وأبوه
المعتضد ، عنوانا كبيرا للألفة والجوار ، فكما ذكر أحمد المقري التلمساني في
" نفح الطيب " أن للمعتضد دارا لا يدخل عليه أحد فيها غير الشعراء ،
وكان يوم الاثنين من كل أسبوع " . هذه
الألفة واللمة والالتفاف حول دُرر الشعر والأخبار رسخت عادات وتقاليد التسامح ،
مبعث الطمأنينة و السكون ، والجدال من أجل الوصول إلى حقائق عامة .
ففي التسامح ، دائما ، يجيء
الدين رافضا التعصب ، الذي تـُكرَّس في أمهات مصادر الثقافة العربية . إن الجاحظ ،
في هذا الباب ، مهما حاول إخفاء وقوفه النـِّدِّي
للشعوبيين ، إلا أنه يعتز بالانتماء إلى سليل العروبة ، حيث تحتل اللغة
العربية مكانة فضلى بين سائر اللغات . وقد أظهر الجاحظ في كتابه " البيان
والتبيين " ولاءً كبيرا للعروبة ، بهدف الرقي بأمة حباها الله بالدين
الإسلامي . غير أن هذا الاعتزاز إلى حد الهوس ، قد يتحول إلى خوف من مصير مجهول ، يحول دون تحقيق أهداف الأمة ؛ من بينها
الوقوف أمام غزو حضاري وثقافي مرتقب ، يتهدد قديما ، الوجود العربي من طرف الفرس والروم .
وفي هذا يظل التسامح والتعايش صفتين أساسيتين تمكنان المجتمع من أن يعيش في وئام
وحرية. ، فأيَّا كانت الظروف ، التي تحول دون تحقيق وحدة الشعور والانتماء ، فإن
الحضور القوي للخصال الإنسانية تغير مجرى التاريخ ، وتجعل من الإنسان قريبا من
إنسانيته ، يتعايش في وئام وانسجام مع الآخر .