-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

حوار خاص مع الإعلامي التونسي الصافي سعيد حاوره عبده حقي


ـــ الملكية في المغرب دائما وكما يقول عبد الله العروي هي ملكية ذكية بيدها المبادرة . ـــ المغرب ينتج ملوكا جبابرة وصوامع عظيمة ولكن ليس هذا هو المغرب فقط. المغرب ينتج كذلك نخبا أكثرعقلانية مما نراه في بلدان أخرى هو ركن أساسي في هذه الأمة العربية وهو شعب ناشط وحركي وديناميكي. ـــ أنا مطمئن للمغرب لأن لديه تجربة سياسية وتراث سياسي أفضل من جميع البلدان العربية . تقديم :   كيف إستطاع الصحافي التونسي الصافي سعيد أن ينحث لشخصيته كاريزما إعلامية متفردة ونادرة جدا لاترضى إلا بالتحليق بأجنحة المغامرة والحوم عاليا حول مراكزالقرارالعربي . وحين فكرنا في تشريح جسد الأمة العربية ومايعتمل فيه من ثورات وعصيان مدني بدءا من سيدي بوزيد إلى مجزرة الحولة وحكم المؤبد على حسني مبارك لم نجد صحافيا أقرب إلى نيران المدافع وصخب الشوارع وأدرى بتفجيرالأجوبة العميقة والمقنعة غيرالصافي سعيد . خاض العديد من المعارك الصحفية في أشهرالمنابرالإعلامية العالمية وهوالآن رئيس تحريرمجلة (عرابيا) الورقية والإلكترونية ومجلة (عربيا جيوبوليتيكا) . وأهم من هذا وذاك هوصديق للعديد من الرؤساء العرب منهم من رحلوا ومنهم من ينتظرون … صدرت للدكتورالأديب والصحفي الصافي سعيد عدة روايات منها (حدائق الله ) و(كازينو+ ) و(الإغواء الملكي) وآخرها (سنوات البروستاتا) عن هروب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي ، كما صدرت له عدة دراسات وتحاليل سياسية من أهمها (المتاهة في القرن الواحد والعشرين ) و(حوارات الثورة) و(خريف العرب البئروالصومعة والجينرال ) و(مثلث الشياطين الإستوائي) و(الحمى 42 ) و(بورقيبة سيرة شبه محرمة ) في هذا الحوارالخاص نحلق مع سندباد الصحافة في سماوات الخارطة العربية لنرى بعين المجهرمايجري على أرضها من تحولات سياسية وجيوإستراتيجية لاشك أنها سوف تعيد في المستقبل القريب ترتيب التوازنات والتحالفات جنوب وشرق المتوسط . الجزء الأوّل: س : بلا شك، ليس هناك حاكم  من الحكام العرب لم يسمع أو ربما لم يقرأ بعض كتب أو مقالات الصحفي التونسي المتألق الصافي سعيد. نوّد أن نعرف ما هو السر وراء قدرتكم على المشاكسة الصحفية والتحليل السياسي الذي تهتم به دوائر القرار العليا؟. ج : أولا لا أعتقد أن هناك كثيرا من الزعماء العرب الذين قرأوا مقالاتي أو كتبي. فهم قليلو القراءة عموما. أعرف أن الحسن الثاني كان يقول دائما “أنا أقرأ تقرير المخابرات ونشرة الأنباء الجوية” قبل أن أذهب إلى فراشي. وطبعا كملك حاكم، لا بد أن يطلّع على هذين التقريرين. تقرير المخابرات  وتقرير المناخ الجوي أي الأمن بشقيه. على أية حال، هناك بعض الزعماء الذين حاورتهم أو جلست معهم كانوا يقرأون لي. علاقتي كانت أولا وقبل كل شيء بالزعيم بن بلة. لقد حاورته وكان ذلك في شبابي وفي بعض ما تبقى له من شباب في ذلك الوقت، عندما خرج من السجن. يعني أستطيع أن أقول إني سجلت عليه مذكراته وقد نشرت في ذلك الوقت في الكثير من الصحف العربية وحتى الصحف الأجنبية، ثم خرجت ككتاب. كانت حقيقة في ذلك الوقت، تمثل سبقا صحفيا كبيرا. ثم عرفت زعماء آخرين مثل عرفات والقذافي. في الحقيقة القذافي كان قارئا جيدا. بل أعتقد أن القراءة أنهكته بمعاني كثيرة. عندما كنت ألتقي معه كان يشير لي ببعض الملاحظات. وفي إحدى المرات أراد أن يطلعني على مكتبته، كنت إلى جانبه حين كان يقودني من كتاب إلى كتاب. ثم فتح لي كتابي عن بورقيبة وأشار لي ببعض الملاحظات. ثم لامني على النقد اللاذع لوسيلة بورقيبة .وفي كتاب آخر “الحمى 42″ قال لي كيف تشبّهني مع المثقف الصادق النيهوم؟. قلت له: ربما لم تنتج الصحراء الليبية في هذا القرن- على معرفتي- إلا اثنين هما أنت كسياسي مشاكس والصادق النيهوم  كمثقف مبدع مشاكس. ضحك وقال : فعلا أنت صعلوك حقيقي. كان القذافي يسميني عادة “بالصعلوك العربي”. وكان يناديني حتى أمام الصحفيين بهذا اللقب. عرفات أيضا كان يقدّرني جدا ويحبني. وفي إحدى المرات وكان ذلك في مراكش اقترب مني عرفات وكان خارجا من اجتماع لجنة القدس أمام إدريس البصري وأمام وليّ عهد المغرب آنذاك محمد السادس أحاط بي وعانقني وحضنني أمام الصحفيين في القصرالملكي بمراكش. وقال لي :”أنت بطل الحصارين”. ثم أشار إلى إدريس البصري الذي كان آنذاك وزير الداخلية المخيف في المغرب، فقال له :”هل تعرف هذا الرجل يا ادريس؟. أنا أريدك أن تهتم به وأن تخفض عيونك عليه”. كنت وقتها أقيم في المغرب كمراسل. وفي الحقيقة خرجت في النهاية من المغرب شبه مغضوب عليه بسبب مشاكسات صحفية. ففي إحدى المرات حاولت أن أقابل وليّ العهد المطاح به محمد رضا بهلوي وليّ عهد إيران، فأخذت موعدا مع سكرتيرته التي لا زلت أذكر اسمها دنيا زاد. وفي باب الفيلا بمنطقة السويسي قبض عليّ الحرس الملكي، رميت في السجن لمدة ساعات ثم خرجت بتعهد بأني لن أعود إلى فعلتي هذه. في مرة أخرى قبض عليّ وأنا أحاول أن أتسلل إلى الرئيس أحمد أهيدجو رئيس الكامرون المطاح به وكان لاجئا سياسيا في المغرب. أردت أن أقابله لأن حبي لإفريقيا كبير جدا. لقد عرفت كثيرا من الزعماء الأفارقة سواء في جولاتي في إفريقيا أو في المغرب أيضا. عرفت سنغور، كان يأتي للحسن الثاني وكان صديقا له. وقد قابلته عدة مرات. تسألني عن الصحافة أقول: هي ولع هي نوع من المغامرة وتحقيق للذات. بل هي كتابة سيرة ذاتية أخرى على طريق الحياة الصعبة والملتوية من خلال الآخرين. قابلت أيضا بوكاسا في ساحل العاج في كوكودي في العاصمة ابيدجان. وكان من الممكن أن يحدث لي مشكلا كبيرا لولا تدخل أحد الأثرياء اللبنانيين في أبيدجان. تدخّل لصالحي فأعفي عني لكن نجحت في تحقيق حوار مع بوكاسا الذي كان لاجئا سياسيا في ساحل العاج قبل أن يذهب إلى فرنسا ثم يعود إلى إفريقيا الوسطى ثم يحاكم ثم يعدم. هذه هي الصحافة تقودنا مرات إلى أماكن لا نفكر فيها. ذهبت مرة إلى يوغسلافيا كمبعوث لجريدة “السفير” البيروتية لأغطي جنازة “تيتو”. بعد أن اكتملت مهمتي في يوغسلافيا، قلت لنفسي لماذا لا أعود عن طريق البر عبر تركيا ثم سوريا ثم لبنان. عندما وصلت إلى تركيا من بلغاريا وقع انقلاب عسكري واستطعت أن أفوز بسبق جبار على صعيد الصحافة في ذلك الوقت. في مرة أخرى عدت إلى تركيا لكي أقوم بتحقيق حول دور تركيا الجديد في الشرق الأوسط، لأنّ هذا الدور الذي نشاهده اليوم بدأ يتصاعد في الواقع منذ الثمانينات. التقيت صدفة بإحدى سكرتيرات أجاويد رئيس وزراء تركيا القديم. وقد كان الانقلاب الذي حضرته سنه 81 كان ضد أجاويد. رويت للسيد أجاويد تلك الحادثة ثم سألني: إلى أين ذهبت في تركيا؟. قلت له: لم أذهب في تركيا إلا إلى قبر أتاتورك. وهو المزار الكبير. وقلت له أنّ قبر أتاتورك بدا لي أكبر من أنقرة العاصمة التي بناها أتاتورك. ضحك ثم قال لي، سأشير لك بزيارة قبر آخر أنه أحد عظماء التاريخ- قلت من؟ قال لي :”حنبعل”، ثم أضاف ألست تونسيا؟ قلت :”نعم”. قال لي :”سأعطيك أو سأمنحك هذه الهدية لكي تزور قبر حنبعل. الذي لم يكن أحدا يعرف أين كان مدفونا. زرت المنطقة التي يقال أنها قبر حنبعل وقد كانت مجهولة على شاطئ البحر الأسود. وكتبت في هذا الموضوع. ثم تفاجأت بعد عامين بأنّ الحكومة التونسية تقدمت بطلب لاسترجاع جثمان حنبعل الزعيم العظيم الذي انهزم أمام روما وهرب إلى الريف (في المغرب الحالي) حيث اشتغل في الزراعة مع ماغون المهندس الزراعي العظيم. ثم ذهب إلى الشام كمستشار للملك ماخيوس في ذلك الوقت. وتابعته روما ولاحقته إلى أن هرب إلى أرمينيا واشتغل كمستشار لدى ملكها ثم عندما هددته روما وظلت تلاحقه اختار الإنتحار على الاهانة. بعدما زرت قبر حنبعل، قلت لنفسي:”إلى الآن لم أقم إلا بزيارة القبور. ثم فكرت أن أزور بيت علي أقجا، الذي حاول أن يغتال البابا، وكان وقتها مسجونا في روما. وما كان لأحد من الصحافة الغربية  آنذاك أن يعرف لا بيته ولا قريته ولا مدرسته ولا فراشه. وقد ذهبت من أنقرة إلى قريته إيشيل تابيه (حوالي 1200 كلم). ذهبت عبر الطائرة ثم الحافلة ثم السيارة ثم الحمار وأخيرا وصلت إلى بيته. ورأيت أمه وأخته وقد مازالتا تحتفظان بالكنش الذي كتب فيه في ذلك اليوم  جملة وداع لأمه وأخته، الذي غادر فيه بيته ولم يعد له. أمه وأخته كانتا تعدان له الفراش يوميا كما لو أنه سيعود ذات مساء. هذا العمل الصحفي جلب لي انتباها كبيرا وخاصة الصور التي أحضرتها معي. وقد كان معي مترجما كرديا لأن تلك المناطق تتكلم الكردية. وقد بيعت هذه الصور بمبالغ مالية هامة وتخاطفتها وكالات الأنباء العالمية. مثل هذه التحقيقات عندما يقرأها مسؤول أو زعيم يعتقد أن هناك عملا جديا وهناك مغامرة خاصة عاشها الكاتب أو الصحفي. دائما أريد أن أكون متميزا في أسلوبي وفي لغتي وفي دقة بحثي وفي عملي الصحفي. لم أكن أريد أن أكون كالآخرين.    س : الأكيد أنّ شرارة الثورات العربية اندلعت من مهدها في تونس ومن قرية سيدي بوزيد تحديدا. وباعتباركم صحفيا تونسيا كان قريبا من أسباب الحريق وراصدا للشأن السياسي منذ عقود، طبعا لم تكونوا تتوقعون يوما ما أن تكون تونس بداية النهاية للديكتاتوريات العربية وبهذه المفاجأة التي أذهلت الجميع!. ج : صحيح ما كنا نتوقع أبدا أن تقوم الثورة لا من تونس ولا من سيدي بوزيد بالذات. لأنه وبصراحة حتى وإن كانت مدينة قفصة التي لا تبعد عنها كثيرا معروفة كمنطقة متمردة، فإن سيدي بوزيد لم تكن متمردة في علاقتها بالسلطة طوال عقود. ما حصل في تونس شكّل بداية لهذا الربيع العربي. أستطيع أن أدعي أنني أول من كتب عن هذا الربيع العربي. أول من سمى هذا الذي يحدث بأنه بداية ربيع عربي. أنا أخرجت مانفستو سميته “المانفستو الثقافي العربي يوم السابع عشر جانفي أي بعد ثلاثة أيام من الثورة التونسية. وقد سميته الربيع العربي انطلاقا من قراءات ومن ربيعات أخرى مرت بها الشعوب، وخاصة ربيع الأمم. فمن يقرأ شيئا من تراث الماركسية ومن تراث الثورات في أوروبا، يعرف أن هناك ربيع الأمم 1848 وهناك ربيع براغ 1968 وهناك أيضا ربيع القوقاز… ثم إنني نشرت كتابا عام 2005 عنوانه “خريف العرب”. وأنهيته بفصل “في انتظار ربيع عربي” أو في انتظار عرابيا. وعرابيا ماذا تعني؟ أنها بلاد العرب. عندما تزدهر فيها العروبة والإسلام والديمقراطية يمكن أن تكوّن عرابيا. لكن مع الزمن ومع ما حصل من تونس إلى ليبيا إلى مصر إلى اليمن إلى البحرين وأخيرا سوريا، لم يعد هذا المصطلح يبدو لي مليئا بما نرجوه وبما ننتظره أو بما يحمل من انتظارات لهذه الشعوب التي عاشت طويلا تحت هذا الاستبداد الذي لا يريد أن يمضي. اليوم هذا الربيع نصفه أو ثلثاه مؤثث بالمذابح وبالضبابية وبسيناريوهات التدخل الخارجي وأيضا بعدم وضوح الرؤية. هذا الربيع يحدث داخل السيناريو الكبير، سيناريو العولمة. وما يسمى بالخيار الآخر هو خيارالتدخل الامبريالي الإنساني. وأنت تعرف أنّ هذا التعبير ليس بجديد حيث ناقشه الفيلسوف دولوز وهو رد على ما ابتدعه كوشنار وبرنار هنري ليفي الذين قالوا إذا كنا نريد حقوق الإنسان فإننا يمكن أن نتدخل عسكريا لترتيب حقوق الإنسان وترتيب الديمقراطية كما نراها وكما يراها الغرب في هذه البلدان المستبدة. رفع هذا الشعار وسمي ذلك” بامبريالية ذات مهمات إنسانية”. وقال دولوز في هذا الشأن أن هذا المبدأ لا يختلف عن مبدأ الامبريالية في أساسه ولا على مبدأ الاستعمارات الأولى في أساسها. انتشر الاستعمار في الأساس من أجل التحديث ومن أجل التمدين.  والآن أنتم تقولون يمكن أن نتدخل من أجل المدنيين ولكن في النهاية هي تدخلات من أجل مصالح إن كانت عسكرية أو إنسانية. ولا يمكن أن نحمي المدنيين بالصواريخ أو بالطيران . صحيح أن الثورة التونسية فاجأت الجميع وسبقت الجميع. الذين أرادوا أن يدقوا المسامير في عجلاتها، فاتهم القطار. كانت أسرع منهم. كانت ثورة خاطفة. فتونس تتميز بمجتمع مدني ناشط وبنظام بوليسي ثم بجيش ضعيف لا علاقة له بالسلطة ولا يمارسها.. ثم برئيس معزول. في تلك اللحظة الدكتاتور شعر أن لا أحد معه في هذه البلاد. ومن معه من رجال البوليس تفككوا في لحظة لم يكن هو يحسبها ولا غيره. لذلك هو طار أو هرب أو فرّ بسرعة، وترك البلاد. فما حدث في تونس هو انتفاضة ساعدتها استقالة أو حيادية من الجيش ثم ساعدها أيضا جبن أو عزل تام للرئيس تبعه التفكك في النواة الصلبة الأمنية. صحيح أن تونس أعطت النموذج ولكنه النموذج الخفيف، نموذج الثورة الناعمة ونموذج الثورة المفتوحة بل هو نموذج الثورة البريئة جدا جدا. عندما انتقلت الأمور إلى مناطق أخرى أصبحنا نرى الإشكاليات والتعقيدات والتدخلات والجيوش الخارجية والأحلاف الأجنبية والبيترودولار… منذ فبراير وبعد أن انطلقت الثورة الليبية أو ما يسمى بالثورة الليبية، (لأن الثورة الليبية نجحت بالكروز الأمريكي وبالحلف الأطلسي وبالفاشية الايطالية الفرنسية البريطانية). قلت أن هذه الثورات الجديدة تتبع خطا أخضر بدأ يزحف من غزة وسينتهي إلى المغرب. وقلت أن الإسلاميين قادمون لكي يحكموا هذه المنطقة. وكان في ذلك الوقت أيضا من الصعب حتى التخيل أنّ هذا ما سوف يحدث بل قلت أن كل شيء سينتقل إلى سوريا ويسكن هذا الصراع طويلا..! وهكذا سرعان ما بدأت رؤوس السلفية والرؤوس الإسلامية والإسلام السياسي تظهر وتطل وتخرج لتسيطر على الساحة. ثم رأينا في الثورة الليبية كيف أنّ الإعلام رفعت من قبل الإسلاميين وكيف أن الأبواق الإسلامية والبترودولار والقرضاوي ومن شابه ذلك هم الذين يقودون الثورة. قلت آنذاك أنّ الأمر بسيط في المغرب وهو أن الملكية في المغرب دائما وكما يقول عبد الله العروي هي ملكية ذكية بيدها المبادرة. وتنبأت بأن المغاربة سيجرون تحولا سلميا سريعا عن طريق الانتخابات ويأتون بالإسلاميين إلى المنصة الإسلامية. كما فعل الحسن الثاني مع اليساريين عندما كانت الموجة يسارية. وهذا ما فعله محمد السادس مع بنيكران. قلت أيضا في انتظار الحسم في  ليبيا تكتمل الحلقات الإسلامية  في شمال افريقيا ثم سنراها في أماكن أخرى. وفعلا رأيناها في سوريا. اليوم سوريا هي مائدة العرب، مائدة الشرق الدوارة. اليوم المعركة الكبرى ما بين الإسلام السياسي والعروبة السياسية أو الوطنية السياسية في العالم العربي أو ما تبقى منها.  لذلك نرى أن العقدة لم تعد عقدة إقليمية فقط بل هي عقدة دولية. اليوم الحرب الباردة عادت على أرض سوريا. واليوم عندما نرى روسيا والصين على جهة والغرب على جهة أخرى واللاعبون الآخرون يلعبون في الوقت الضائع نعرف أن المعركة دولية وهي معركة حرب باردة أخرى في شكل آخر. وما معنى هذا؟ معنى هذا هو أن هذا الإسلام السياسي الذي أريد له أن يعود لكي يحكم أوطانه هو الآن على محك التجربة. هناك ناس راضون عن هذه المنهجية وهناك ناس غير راضين عن هذه المنهجية. الراضون منهم في تركيا إقليميا والسعودية وقطر عربيا والأمريكان دوليا. يقول الأمريكان في أطروحتهم الجديدة: يكفي من شيطنة الإسلام. يجب أن نعيده إلى بلده ويجب أن نعطيه الحكم لكي يتلون ولكي يلين عوده ولكي يكتسب مفاهيم أخرى للنعومة ويصبح أهليا. اليوم الإسلام لا زال بريا ومهاجرا وعنيدا. لا زال سلفيا ومتخلفا ولا زال سابحا في الجبال والشعوذة. وعندما يعود إلى الحكم سيكتسب الخبرة والطمأنينة وسيكتسب العقلانية ويدخل إلى عملية الاندماج بينه وبين الغرب. واشنطن ليس لديها مشكلة مع الإسلام لأن تركيا إسلامية وتتعايش مع الغرب، بل هي عضو في الحلف الأطلسي. والسعودية إسلامية وهي أهم حليف لأمريكا منذ حوالي 60 أو 70 عاما. وماليزيا أو أندونيسيا أو نيجريا أو غيرها دول إسلامية وتتعاون براحة وبمساحة من الترحيب مع أمريكا. إذا مشكلة أمريكا ليست مع الإسلام أن يحكم أو لا يحكم. بل بالعكس. فعندما يحكم الإسلام يصبح إسلاما أهليا وقابلا للترويض وقابلا للمفاوضة وقابلا للحوار وإنما عندما نعزله ماذا نملك وماذا نكسب؟ نكسب إرهابا في أوروبا وفي أمريكا ونكسب استبدادا في الداخل وابتزازا لأن المستبدين الذين كانوا في تونس أو في مصر أو غيرها كانوا يبتزون أيضا أمريكا والغرب. أي أنه إما نحن وأما الطوفان. أي إما نحن الاستبداد وإما سيأتيكم الشيطان الإسلامي. وهذه اللعبة تفطن لها الأمريكان فقالوا اليوم: علينا أن لا نشيطن الإسلام ولا نجعل منه عدوا. وباعتقادي أن الإسلام سيحكم وسيأخذ حقبة وتجربة وسنرى وجهه الحقيقي لأنه سيكشف عن مكنوناته وخبرته ووجه الحقيقي. بعد ذلك تقرر الشعوب. وإذا قررت في مصر بنسبة كذا أو في تونس أو في ليبيا بنسبة كذا، أيضا علينا أن ننتظر لنجرب، لأن سنة أولى ديمقراطية لا تكفي. نحن جميعا بصدد تعلم الديمقراطية. الإسلاميون أنفسهم عندما قبلوا بهذا الخيار الديمقراطي، قالوا أنهم مستعدون للمشاركة لنجاح الكل. نجاح في الداخل ونجاح للخارج ونجاح أيضا للإسلام وللثقافة الأهلية لهذه الشعوب. س : إلى أي حد ساهمت بعض الفضائيات والقنوات العربية بالخصوص في اطعام نار هذه الثورات بحطب خطط برامجها السياسية والإستراتيجية؟. ج : عندما نقول الحرة أو العربية أو الجزيرة أو .BBCفهذا نمط إعلامي واحد، وهذا النمط ا لإعلامي الواحد نحن نعرف من وراءه. سواء كانت السعودية أو قطر أو أمريكا أو بريطانيا. لأن هؤلاء كلهم مندمجون في سيناريو واحد وهو سيناريو أحداث التغيير في العالم العربي “بأيادي محلية وأجنبية” برؤية إسلامية وبوجوه وطنية. من يقود هذا ؟ تقوده قطر والسعودية وتركيا في المنطقة. إذا هؤلاء الذين تحدثوا على هذه الفضائيات سواء كان ذلك صادرا عن نيتهم الطيبة أو بحثا عن فرصتهم التي لم تكن موجودة أو متاحة في تلفزيونات أخرى. فهذا شأنهم، هناك من استأثر بالمقعد وبالشاشة. هناك من خسر هذه الفرصة. وهناك من ربح. وهناك من كشف عن مطامح وطموحات، والسؤال الذي نطرحه هو أن هؤلاء سواء منصف المرزوقي الذي قدمته الجزيرة ثم عاد رئيسا إلى بلاده أو برهان غليون الذي قدمته الجزيرة أيضا والذي قد يعود رئيسا إلى بلاده لم يكونا مبرمجين على أجندا خاصة. لا أعتقد ذلك. فبالنسبة لحمدين صباحي مثلا لم تقدمه الجزيرة. وهناك مثقفون رفضوا أن تقدمهم الجزيرة، أنا رفضت عدة مرات أن أتكلم في الجزيرة. لأنهم يضعونك أمام خيارات ضيقة، أو خيارات هم يستفيدون منها. والمثقف الذي لا يمسك بزمام اللعبة السياسية يفكر قبل أن يقدم نفسه في الجزيرة. ونحن رأينا نمطين. أما أن شخصا يدافع عن نظام في الجزيرة أو شخصا يشتم نظاما في الجزيرة!. خطاب العقل كان غائبا. فإما أن تذهب لكي تشتم فلانا أو تمدح فلانا. على أية حال فقد تساءلنا عن هذا الربيع العربي من أحدثه؟. أقول قد أحدثه الإعلام على مرحلتين : هناك مرحلة الجزيرة والعربية وما شابه ذلك وهي مرحلة الفضائيات. وأنا أعتقد بأنها الآن لم يعد لها الكثير ما تقوله. والمرحلة الثانية هي مرحلة المواقع الاجتماعية الفايس بوك والتويتر واليوتوب. وهذا هو الذي لعب دورا كبيرا. بحيث لم يعد يكفي أن تكون صحفيا ولم يعد يكفي أن تتكلم في استيديو أو تسب نظاما. قد تجد أناسا معك لكن لا تجد الكثير. إنما المواقع الاجتماعية فهي التي نزلت باللعبة وبالمعركة إلى الشارع. أصبحت لعبة مواقع متحركة ولعبة ملايين. ولم يعد الإعلام هو سلاح احتكاري في يد السلطة أو في يد النخبة، وهذا يعني أن مرحلة الفضائيات انتهى دورها. أعتقد أنها لعبت دورها منذ نيكولا تشاوسيسكو إلى ما قبل سقوط بن علي. لكن دور المواقع الاجتماعية والانترنات بدأ في مرحلة أخرى. بدأ من أوروبا الشرقية ثم نزل إلى العالم العربي وبداية في تونس. هي حرب المواقع الاجتماعية وحرب الانترنت، حرب الأممية الجديدة للإعلام. وحرب الجنود المجهولين، جنود الإعلام وجنود المعلومة والكاميرا. بوسائل بسيطة، وبإمكانيات بسيطة تستطيع أن تجيّش مجموعة.. وكل مجموعة تجيش مجموعة أخرى. ثم تنطلقون في الشارع وتقلبون كل المعادلات. لذلك نقول أن هذه الثورات كانت بلا قيادات. طبعا هي بلا قيادات…لم يكن لها لا الوقت وللتفكير ولا النظرية ولا القائد ولا المناخ. هي ثورة نصفها افتراضي لذلك كانت رقابتها صعبة بسبب سرعتها في الزمن ثم التحولات الخطيرة التي قامت بها. يبقى من الطبيعي أن بلدا مثل قطر تجند وسائل إعلامها. وقد جندت حتى جيشها. وأرسلت بجيشها وبطائراتها لكي تقاتل في ليبيا. والآن لو تتاح لها الفرصة لكي تقاتل في سوريا فإنها ستقاتل في سوريا أيضا. وهذا غير مخفي على أي أحد. هذا أمر معروف لكن يجب أن لا نعتقد أن ما تقوم به قطر أو السعودية أو غيرها هي الثورات. هذا سيرتد عليهم وسيعرفون بعد ذلك ما الذي سيحدث وكيف ستصفى وكيف سنمر إلى مراحل أخرى ونبدأ في حسابات أخرى وفي أسئلة أخرى، أسئلة ما بعد الثورة. اليوم نحن في هيجان، حتى الأسئلة العقلانية ما زالت لم تطرح بعد. لا بد أن نسأل من وراء هذا الربيع.؟ من الذي استفاد بهذا الربيع؟ كيف سيحوّل هذا الربيع أو كيف حوّل لصالح ناس آخرين أصحاب أجندات أخرى. س : في نفس السياق، أليست بعض الدول العربية محركة هذه الثورات على المستوى الإعلامي والديبلوماسي في حاجة هي أيضا إلى إصلاحات سياسية؟ ج : هي في حاجة إلى إصلاحات بنيوية. إصلاحات هيكلية. إصلاحات في الهوية وفي الديمغرافيا وفي الجغرافيا. الاستقلال الأول الذي تتمتع به سوريا أو مصر أو تونس منذ نصف قرن وما يزيد عن ذلك، ما زالت لا تتمتع به هذه الدول. أنها لا تملك قرار السيادة. نحن نعرف أنه كان هناك ضغط وتدخلات في تونس وفي مصر واتفاقيات وتعهدات.. لكن مع ذلك كانت هناك نسبة من الاستقلال السيادي موجودة في هذه البلدان.  أما هذه البلدان فهي لا تتمتع حتى بسيادتها. هذه البلدان هي عبارة عن مكاتب للعلاقات العامة ومخازن للسلع ومنامات لحراس البترول. هذه البلدان تحتاج إلى الكثير. فما هي القوانين التي تحكم في قطر؟. ما هي الحقوق التي يتمتع بها العامل الوافد إلى قطر أو حتى إلى الإمارات؟. ما هي حقوق المرأة في السعودية أو في قطر؟ ما هي درجة الديمقراطية التي بلغوها؟ ما هي حقوق الأقليات في هذه البلدان؟ الأسئلة عويصة وعميقة في تلك البلدان. وبالتالي هذه مكاتب شركات دولية متعددة الجنسيات موجودة في هذه البلدان على الشواطئ. أعتقد أن معظم بلدان الخليج كانت “كنتوارات” على البحر وكان العديد منهم يشتغل في القرصنة. كذلك في التجارة وفي المبادلة مع القراصنة الآخرين الكبار. وهم لا زالوا كما لو أنهم مستمرون في هذا الدور. لا أعرف كيف تتطاول قطر على مصر أو على سوريا فهل هي أكثر حرية؟ أو أكثر سيادة؟ ما هو هذا الأمر المفارق؟ المفارقة اليوم في هذا العالم الجديد أنك تملك قليلا من المال وتأتي ببعض الخبراء التقنيين حتى لو كانوا من المريخ ثم تقوم ببعض المؤتمرات وتبني ثلاثة أو أربعة فنادق خمسة نجوم لكي تملك نخب العالم وتصبح تتحكم في عقول الكثير من الناس والشعوب، هذه هي السلطة الناعمة. صحيح أن قطر استطاعت أن تملك الإعلام في وقت لم يملكه العرب المكلسون أو الكلاسيكيون. فعندما كان “صوت القاهرة” قويا كانت مصر هي الأولى إعلاميا. كانت القاهرة تتحكم في العالم العربي. على الأقل تتحكم في مزاجه من الأغنية إلى الخطاب السياسي. واليوم عندما أصبحت قطر هي التي تملك الجزيرة، خطفت عيون العرب. وأصبحت تملك أيضا أمزجتهم وخيالهم. قطر قامت باختطاف خيال العرب للثورة. الثورة العربية ليست هكذا وما كان يجب أن تكون هكذا. ليست حفلات تنكرية من المهرجانات أو من الدماء. هي ليست صواريخ تبعث من هنا وهناك وتهديدات من الحدود. الثورات العربية يجب أن لا تكون هكذا وإلا فإننا سنكون وكأننا نعيش فصلا من بدايات القرن العشرين إبان الثورة العربية الكبرى والغدر الذي حصل للعرب من جميع الجهات. س : ننتقل إلى المنطقة المغاربية والسؤال حول المغرب، في رأيكم هل استطعنا في المغرب ترويض الثورة عن طريق الإصلاحات الدستورية والحقوقية التي أقدمت عليها  الدولة وتوافق عليها الجميع كما تعلمون؟ ج : في المغرب حصل استيعاب من نوع آخر. هو استيعاب المخزن لعالم السيبة. يعني أنه كانت هناك عملية من الذي يسبق الآخر؟ صحيح أن الشعب المغربي خرج في عديد المسيرات والمظاهرات. لم يكن يملك لا الرؤية ولا البرنامج ولا الحد الأدنى أو الحد الأقصى. هل يذهب للإطاحة بالمكلية أو يذهب لتركيز إصلاحات. التقط المخزن هذه الفرصة. فرصة لهيب المنطقة العربية.. وكعادته استعاد زمام المبادرة. ثم دخل بالبلاد كلها في إصلاحات. أن تكون هذه الإصلاحات جيدة أو سيئة أو ناقصة فهي أفضل من الجمود على أية حال. ثم أن يكون المخزن المغربي أو الملكية المغربية عادة ما تستوعب وتستعيد زمام الأمور عند كل أزمة. فهذا من شطارتها، بل هذا هو الدور الأساسي لأي سلطة. وهو أن تسمع بدبيب الثورة من بعيد فتسبق وتطلق رياحها للتغيير. ما حدث في المغرب، لا أقول أنه تغيير كبير أو صغير ليس هذا هو الوصف، لكن أقول أنه تغيير مريح لأنه هذا ما يطلبه العالم. وهذا ما يريده العالم وما تريده دول الخليج أولا. الخليج اليوم هو ممول وصاحب صوت وصاحب تدبير وفكر وصاحب رأي في هذه المنطقة. إنه يقول لجميع بلدان العرب ولجميع مسؤوليهم في الغرف المغلقة : أنتم تأتون لأموالنا لكن لماذا لا تستشيروننا كيف تحكمون بلدانكم؟ هذا ما يقوله الخليجيون. فهم ليسوا صناديق دولارات فقط إنما هم يريدون رأيا ويريدون اصطفافا ويريدون تحالفات وتسويات لأن لديهم أعداء رسميين. أعداؤهم الكبار لا يوجودون لا في تونس ولا في المغرب ولا في الجزائر  أعداؤهم يوجدون بالقرب منهم وهي إيران. وفي كل هذه العملية، وهذا الاصطفاف والاندفاع وراء الثورات العربية هو لتنظيف كل الجيوب لإصطفاف كل الشارع العربي في معركة لا زالت قادمة وسنشهدها هي معركة إيران. وعندما تهدأ الساحة السورية، سنسمع قرقعة المدافع وقد اندلعت هناك. كل هذا الربيع يبدو كمقدمة للجنون الأعظم الذي سيحصل في الخليج. المسألة هي إيران. والخليجيون يريدون أن ينسى العرب قضاياهم وينسوا إسرائيل ويتوجهون بهم جميعا إلى جبهة إيران وتلك هي المسألة.

الجزء الثاني

  س: الأدب والصحافة نادرا ما يلتقيان في نهر سردي واحد. من خلال تجربتكم متى يكون النص الابداعي الأدبي وصيفا لنص التحليل السياسي مثلا روايتكم الأخيرة “سنوات البروستاتا” كنموذج؟

ج : أحيانا ما لا نستطيع أن نكتبه في مقال صحفي أو في كتاب سياسي، قد نجعل منه رواية. والحقيقة أن الأحداث السياسية عندما تتداخل وتتشعب تصبح أشكالا روائية. الكتابة الصحفية أوالكتابة الفكرية لديها حدود وهي حدود المصدر والتوثيق الأخلاق والمعلومة الصحيحة وعدم التجنيح أو الطيران بعيدا. في الكتابة الروائية، أنت تخترق كل هذه الحدود وتصبح في طيران حر.

على أي حال الكتابة هي الكتابة. عندما أقرأ النصوص السياسية لتروتسكي أو حتى للعسكريين الألمان ، أجدها مفعمة بالأدب. عندما نقرأ مذكرات مونتغمري أو مذكرات تشرشل أو مذكرات ديغول، نجدها نصوصا مفعمة بالأدب وبالتاريخ وبالاجتماع وبالتحليل وبعلم النفس وبكل جماليات هذه الأصناف. النص السياسي في العالم العربي ظل متكلسا ومتخشبا ويكتب بلغة ثالثة هي لغة البيانات الخطابية. وهذا نابع من أمرين : أولا لأن الجمهور الذي يوجه له هو جمهور ضعيف الاستيعاب. ثانيا السياسي أو كاتب هذا النص هو أساسا يسبح في عالم قديم وفي أفكار قديمة وينقصه الخيال.

الخيال هو الأساس. فالمستقبل هو الخيال. الثورة هي الخيال ومن لا يملك الخيال لا يصنع الثورات. خلال العشر سنوات الأخيرة ،كان الناس دائما يتحدثون عن أن الرئيس بن علي مريض بالبروستاتا. نسجت حوله الكثير من الحكايات. قيل أنه يذهب إلى ألمانيا أسبوعيا وأنه يريد طفلا ذكرا وهو لا ينجب. وقيل أن ليلى حبلت بطفل أنابيب. وهكذا فيما كان المخيال الشعبي ينسج هذه الأساطير، كتبت رواية سنوات البروستاتا. حاولت أن أخترق هذا اللغز المغلق، الذي هو قصر قرطاج عن طريق الرواية.وبخيال يستند على وقائع وعلى أحاسيس وتحسسات، ظهرت وقائع الرواية بعد ذلك عندما فتح هذا اللغز وهرب الديكتاتور  كما لو أنني كنت أعيش معه داخل هذا القصر. أو كما أنني كنت واقفا أراقب بن علي وزوجته وعلاقاته الداخلية والحميمية من وراء ثقب الباب. بدا لي أن ما كتبته أيضا قد لا يرقى إلى الخيال. من هنا نقول أن الواقع أقوى دائما. وعادة ما يكون الواقع أقوى. إن الواقع في تشابكاته هو أقوى من خيال أي شخص.

رواية البروستاتا كتبتها قبل سقوط بن علي بنحو أربع سنوات، ولكني لم أتجرأ على نشرها. فكرت أن أنشرها باسم مستعار لكنني لم أتجرأ لأني خفت أن يذهب أحد إلى بيروت ويسأل عن كاتبها الحقيقي. وأنت تعرف أن هذه الأمور سرعان ما تفيض. وفي الحقيقة فهي رواية مفهومة لا يمكن أن تكون إلا عن بن علي وعن زوجته ليلى. لذلك فضلت التريث، كانت لدي نسخة أودعتها لدى ابني في الخارج. وعندما قامت الثورة أرسل لي النسخة بعد يومين فقط ونشرتها بعد أسبوعين فقط من سقوط بن علي. كنت قد فكرت في عنوان آخر هو “الإثم الجمهوري”. ولكنني رجعت إلى العنوان الأصلي “سنوات البرستاتا”.

وفعلا هي سنوات البروستاتا، هي سنوات الجدب والعقم في بلادنا.

س : تعتمد الرواية على البعد السيكولوجي والجنوسي إن لم نقل كل الثالوث المقدس الذي تقاطبت حوله الوقائع والعوامل، مما جعل من الرواية أدب أفكار أكثر منها رواية أحداث تؤرخ لزمن الإطاحة بالديكتاتورية. من هو المتلقي المفترض الذي كنتم تستهدفونه. هل هي النخب المثقفة والسياسية العربية أم العامة من القراء خصوصا وأن الثورة هي قضية كل طبقات الشعب التونسي؟.

ج : الرواية كتبت قبل الثورة.. في الحقيقة كانت نبوءة بذلك السقوط. في هذه الرواية نجد ألغاز العلاقات النسائية والرجالية وعلاقات رجال الأعمال بالسلطة وبالدين وبالمال، علاوة على هذا فهي في إحداثياتها انقلاب داخل انقلاب بن علي الذي  وصل به إلى السلطة. في هذه الرواية هناك من كان يفكر من الانقلاب عليه وهو ينام إلى جانبه. فكما يقول الحسن الثاني الخيانات تتراقص فوق أكتافك”. كان هناك في القصر من يريد أن يخلف بن علي. أولا زوجته وعائلتها. ثانيا الجنرال السرياطي رئيس حرسه. وقد ثبت بالمكشوف في 14 جانفي أن الذي قام بالانقلاب وأسرع وسرّع بخروج بن علي هو الجنرال السرياطي.

الرواية كتبت عن هذا الإنقلاب الخيالي (انقلاب افتراضي داخل الانقلاب)، لا بل رأت أن بن علي وليلى “ليلاه”، بعدما ماتا التقيا في المطهرة بين الجنة والنار وجلسا يتحدثان ويكاشفان أنفسهما. وهذا ما حصل الآن فماذا يفعلان في جدة أو في مكة الآن؟ إنهما بالقرب من الجنة أو من النار يتسامران حول الموت والحياة. إنهما يتكاشفان ويحكيان الحكايات التي لم تكن لتحكى. رواية البروستاتا ما زالت مستمرة.

س : نسأل الآن من هو المتلقي ؟

ج : بطبيعة الحال هي رواية أفكار وسيكولوجيا. تقول لي لمن؟ أقول: لك لقد قرأها الكثير من الناس من مستويات متعددة وتحدثت عنها الكثير من وسائل الاعلام. وقد التقيت بكثير من الناس الذين قرأوا الرواية وأعجبتهم وهم من مستويات متعددة. فيها أفكار وفيها أحداث وفيها جرأة وفيها جنس وفيها بورنوغرافيا.

س : لو طلب منك إعادة كتابة سنوات البروستاتا من جديد ما الذي سيختلف فيها عن النسخة الأولى بعد الأحداث المستجدة في المشهد السياسي التونسي؟. وهل فعلا يعيش راهن الأدب العربي ربيع الرواية بامتياز بعد أن كان الشعر هو ديوان العرب سؤال من شقين؟.

ج : لن أغير منها أي شيء. تلك الرواية أعتبرها سابقة. وأعتبرها، دون ادعاء، نبوءة. فكما توقعت حدث.

أما هل هو ربيع الرواية العربية حاليا بعد أن كان الشعر ديوانهم بامتياز؟ أقول: أنا لا أستطيع أن أسقط في هذه القياسات وهذه الثنائيات أوهذه الأوزان. كل الشعوب في البدايات كانت مدوناتهم الأولى هي الشعر. ماذا نقول في الإغريق أو حتى في الرومان أو حتى في الفرس. الفرس القدامى أو الهنود كان لهم شعراء كبار وملاحم شعرية كبيرة ومسرحيات وغيرها.

اليوم دخل العرب إلى عصر الرواية، لأن الرواية هي نهر الحداثة. ملحمة الرواية بدأت مع الحداثة. بدأت منذ صعود المسيحية في اسبانيا  حركة الإسترجاع. وأول رواية كما نعرف هي لدون كيشوت. ثم بدأ عصر الرواية. الرواية هي انتقلت بمراحل ومدارس وشعوب. كان الروس ذات يوم هم سادة الرواية. الفرنسيون هم أيضا تسيدوا على الرواية. الايطاليون تسيدوا على الرواية. الرواية إذا هي استمرارية، هي جزء من الكيان، هي جزء من الحياة، هي نسج الحياة، هي إطلاق للخيال، هي تركيب لحيوات أخرى محاذية فوقية تحتية خيالية. لذلك نقول أن هناك الرواية السحرية والرواية الواقعية والرواية الخيالية والرواية التاريخية والرواية السيرة الذاتية.

صحيح أننا في العصر الروائي ولكن هل لدينا روائيون كبار؟. أنا لا أعرف. ربما عندنا روائيون كبار. فأول عربي حصل على جائزة نوبل هو روائي وليس عالم كيمياء أو عالم في الطب أو في مجال آخر. سنوات البروستاتا، رواية بلا بطل عندما تقرأها لا تجد فيها بطلا. في الواقع هي مجموعة، لأن البطل انتهى في الرواية. أصبح مجموعة أبطال ولم يعد بطلا واحدا. أصبح كل الذين يتحركون على مساحة الرواية هم أبطال.

كما نشاهد اليوم في الثورات. فالثورة اليوم من هو بطلها؟ من هو قائدها؟. غير موجود. لكن مجموعة من الناس والمتدخلين والمتفاعلين والمشاركين هم كلهم أبطال هذه الثورة. الملاحم لم تعد تصنع بفرد. انتهى عصر الفرد. عصر النجومية انتهى. الرواية الحديثة أنهت عصر البطل.

الشعر كان يمثل عصر الفروسية. فالفارس هو البطل.

من هو شاعر العالم العربي في ذلك الوقت؟ هو شيخ القبيلة أو قائد القبيلة هو الفارس هو المغوار الذي لا تكتمل سلطته حتى ولو كان أميرا إلا إذا كان شاعرا. امرؤ القيس هو أمير وشاعر، أبو فراس الحمداني أمير وشاعر وهلم جرا. إذا لم تكن أنت شاعرا فيجب أن يكون إلى جانبك شاعر لكي تكتمل سلطتك. ولذلك فإن سلطة الشاعر هي سلطة ثقافية.

أستطيع أن أقول أن هذه الأمور انتهت منذ الأربعينات أي مع خروج موجة الشعر الحديث والدخول في حقبة الرواية. الشعر تفتت، ليس بمعنى أنه انتهى ولكن بمعنى أنه انساب مع الحياة. أصبح شيئا آخر وغلافا جويا آخر. لم يعد هو سيفا وسلطة وخطابا. لقد ورثته الرواية وجعلت منه سمادا للغة.

س : نواصل في نفس السياق. من بين كتبك الأكثر جدلا في تونس هو كتاب “بورقيبة سيره شبه محرمة” الذي منع من النشر. من الذي منع هذا الكتاب من أن يكون عملا روائيا، في المقابل من الذي منع روايتك سنوات البروستاتا من أن يكون سيرة ذاتية للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي؟

ج : سنوات البروستاتا هو سيرة ذاتية أخرى لبن علي بطريقة روائية. أما كتاب بورقيبة- فهو كتاب بيوغرافيا عن بورقيبة- كتاب تاريخي موثق لكنه مكتوب بطريقة روائية أو بطريقة سينمائية. كتاب بورقيبة كان ممنوعا لأن بن علي لم يكن يسمح بالحديث لا بالسيء ولا بالجيد عن بورقيبة. إذا انتقدناه قيل أن هذا الرجل الذي يحكم  الآن هو حفيده أو ابنه أو وريثه. وإذا تحدثنا عنه بشكل جيد قيل أن  بن علي لا زال هو الحاكم لماذا تتحدثون عن الميت؟. مع ذلك كان لديّ حساب خاص مع بورقيبة لأن كل كتابة في النهاية هي تصفية حساب. فكل كتاب وكل مقال وكل سطر يكتب هو تصفية حساب مع عدو مع إشكالية مع فكرة مع شخص مع تاريخ أو مع حقبة.؟

أنا كان عندي حساب مع بورقيبة. أولا أنا تألمت كثيرا في عصر بورقيبة وتضررت وهاجرت وحوكمت بالإعدام غيابيا وكنت ممنوعا من أي شي. وعندما كتب الكتاب تعرضت للهسكلة وللتعذيب النفسي. كل يوم كنت أذهب إلى الشرطة لأوقّع في دفتر الحضور. وكل يوم يسألونك ماذا تكتب ولماذا؟. وحين تشجعت ونشرته لم يكلمني أحد. أدركت آنذاك أن السلطة العربية تحكم بالتخويف. فهي لا تملك دائما أدوات الخوف أو أدوات المواجهة أو حق العقاب فهي تحكم بالتخويف. هي تخيفك ترعبك ترهبك نفسانيا لكي لا تتقدم خطوة. عندما نشرت الكتاب انتهى الإرهاب!.

س : السؤال الذي يتبادر إلى قرائك في الوطن هو أننا نعرفك صحافيا، ناشطا ومتفردا في البحث عن المعلومة كيف تظفر بها؟ أمن خبرتك وتجربتك الصحفية الطويلة والوازنة أم من ايمانك بكون الوصول إلى المعلومة حق تكفله المواثيق الدولية أم من دهاء سياسي خاص؟

ج : في العمل الصحفي يجب أن تكون لك بالأساس ثقافة عامة وشمولية وتراكمية. بعد ذلك يجب أن تكون لك زاوية رؤية. فأنت مثل المخرج السينمائي. الثقافة هي التي تشكل لك زاوية رؤية. المعلومة تسندها. بل يجب أن تكون لديك معلومات فأنت لا تستطيع أن تكتب مقالا صحفيا قائما على الإنشاء أو على الأسلوب الجميل أو العبارات الحلوة فقط.

لا بد أن تكون لديك طريقة لسرد المعلومة ولإقناع القارئ بروايتها تغليفها بالثقافة لتأصيلها. هذا ما كنت دائما أريد أن أتميّز به. استمعت إلى أساتذة كبار وأنا في بداياتي. “بأنك لا تستطيع أن تكتب أي خبر من خمسة سطور دون أن تكون تملك على الأقل في ذهنك أربعة أو خمسة معلومات أساسية”. كمثال عندما تسمع بانقلاب حدث في التشاد أو في الأرجنتين وأنت تعمل في صحيفة يومية وتريد أن تحرّر خبرا عن ذلك الانقلاب يجب أن تعرف على الأقل ثلاثة تواريخ عن الأرجنتين وتعرف ثلاثة أسماء فاعلين في الأرجنتين.

وتكون لديك على الأقل ثلاثة أو أربعة معلومات جغرافية عن الأرجنتين. آنذاك تستطيع أن تصوغ الخبر ثم تأتي زاوية الرؤية أو الاتجاه.

هذه الكيفية عند تحرير أي خبر صغير هي التي تمنحك شحنة دائمة وأبدية في أنك عندما تريد كتابة مقال أو تحقيق أو روبورتاج أو تحليل أو حوار مع شخص، يجب أن تكون مسلحا بمعلومات وبزاوية رؤية وبثقافة. بعد ذلك يأتي الأسلوب أحيانا أنت تملك معلومات مثلي مثلك لأن المعلومة في متناول الجميع في بعض ا لمرات. لكن أنت لديك أسلوب وأنا لديّ أسلوب لعرضها.

قد يكون أسلوبي أكثر مرونة وأكثر حراكا وأكثر اقناعا. إن مخاطبة العقل الوجدان هي منطقة الصحافة الناجحة. فالصحفي يسكن في المنطقة بين العقل والوجدان.

س : تعرف أن الإعلام بجميع وسائطه يمر بحرية رأي غير مسبوقة في تونس أيقظت الكثير من خلايا الأسئلة النائمة والإشكاليات الإيديولوجية الراكدة منذ الاستقلال، فما رأيكم كصحفي تونسي بما يعرفه اليوم المشهد الإعلامي من طفرة هيكلية موضوعية ملحوظة أم أنها ما زالت مسيسة بعقلية الرقيب المتعدد الأقنعة والمرجعيات السلفية؟

ج : أستطيع أن أؤكد، بمعايشتي لتونس خلال هذا العام والنصف ما بعد الثورة، أنه لا توجد أي رقابة في تونس. ولم يحدث في هذا التاريخ ولا في هذه المعمورة التي نعرفها أن وجدت حرية صحافة كما توجد اليوم في تونس إلى حد أن هناك فوضى إعلامية أو تخمة حريات بأتم معنى الكلمة.

ما ينقص الصحافة التونسية هو المعلومة الصحيحة والمصدر والتوثيق والثقافة والذهاب إلى الهدف والجرأة والكتابة والأسلوب. الصحافة التونسية لا زالت ضعيفة جدا وركيكة جدا ومراقبة بذاتها. أنا دائما كنت أقول أن الصحافي الجيد لا يخاف الرقابة لأن لا أحد يستطيع أن يراقبه لأنه هو الرقابة العليا. وهو لا يحتاج إلى جمعية أو نقابة لكي تدافع عنه لأنه هو الذي يدافع عن المجتمع. وهو الذي يدافع عن حرية الإعلام وعن الحريات العامة ككل. إذا وجدت صحافة ضعيفة في بلد ما فإنها تكثر من تأسيس النقابات والجمعيات. هذه مميزات الصحافة الضعيفة في أي بلد. فالعجز المهني غالبا ما يستبدل بنزعة الشكوى أو التشكي من الرقابات!.

لا أحد يمنعك أن كتبت عن شكسبير أو عن المسرح أو عن السينما الطلائعية أو انتقدت الصهيونية أو تحدثت عن الديمقراطية في السينغال أو انتقدت المغرب أو تصفحت كتابا عن الحسن الثاني أو عن بوتفليقة أو ترجمت هذا النص أو ذاك. لا أحد يمنعك أن تكتب اليوم عن المرزوقي أو عن راشد الغنوشي أو عن أي شيء بأي شكل. المهم أن تكتب شيئا جيدا ومفيدا أو جديدا وحديثا نستطيع أن نتمتع به.

أنا عندما قابلت المرزوقي وذهبت إليه لأجري معه حوارا قلت ما أريد قوله إذ خرجت غاضبا من القصر وعبرت عن هذا الغضب خلال المقال وقلت يبدو أن رئيسنا ضائع وأنه غير متمكن وأنه ما زال ضبابيا ومتذبذبا، وأن هذا القصر بارد. فلا يوجد فيه لا بروتوكول ولا قهوة ولا شاي ولا حراسة ولا شيء وهو نوع من الشعبويات التي لا تمت بصلة إلى الثورة. فالذي يفكر في بيع قصور الجمهورية هو بلا شك لا يعرف تاريخ الدول. ونحن لا نملك قصورا بدليل أن قصر قرطاج لا يساوي فيلا جيدة في المغرب أو في القاهرة.

أهديت للمرزوقي عندما كنت خارجا كتاب البروستاتا. ولما قرأه بعث لي برسالة شكر فقال حرفيا : “أنا استمتعت كما لم أستمتع في أي يوم بقراءة رواية سنوات البروستاتا خاصة وأنها تروي أحداثا وقعت فوق هذا الفراش الذي أنام عليه”.

س : كنت من الصحافيين الأصدقاء للعقيد معمر القذافي، فكيف كان شعورك وأنت تتابع نهايته في ذلك المشهد التراجيدي، ثم هل ترى أن ليبيا قد أضاعت بسبب القذافي أربعة عقود؟.

ج : المشهد الذي انتهى إليه معمر القذافي غير لائق بالبشرية ولا هو لائق بمعمر القذافي. لقد سئلت مرة في ليبيا كيف ترى القذافي الآن؟، وكان وقتها القذافي راجعا من الأمم المتحدة، وقد قام بخطابه المثير هناك ومزّق ميثاق الأمم المتحدة ورماه وراءه وقال أن هذا الميثاق استعماري كتبته دول استعمارية لحكم الشعوب، فقلت :” أن معمر القذافي أنهى اليوم دورته السياسية وعليه أن يبقى عاليا وبعيدا ويسلّم المسؤولية لجيل آخر”.

كان في اعتقادي وكما قال فوكوياما إن نهاية التاريخ ليست هي نهاية الدنيا أو هي القيامة .نهاية التاريخ هي نهاية الدورة. فلكل شخص دورة. وكل حقبة لها دورة. وكل دولة لها دورة. القذافي لم يفهم أن دورته انتهت بعد خطاب الأمم المتحدة. كان يمكن آنذاك عام 2008 أن يسلم الحكم ويبقى بعيدا. معمر القذافي أول واحد أرغم الاستعمار على الاعتذار للشعب الليبي. ثم يأتي من بعده ما يسمى بالمجلس الانتقالي ويقول اليوم “نعتذر لايطاليا لأنها أرغمها القذافي على الاعتذار للشعب الليبي. فعلا هذه مهزلة! إن شيطنة التاريخ تبدأ مع المهرّجين.

 عندما نجلس إلى رئيس أو إلى حاكم فهذا لا يعني أننا نستجديه أو نمدحه أو نكيل له المديح. فلديه الملايين من الذين يفعلون له ذلك. وإذا كان لأحد قليل من الذكاء فإنه لا يستطيع أن يدخل في سباق مع ملايين تكيل المديح. أنت ماذا ستحقق. لا شيء أمام هؤلاء الذين يطبلون ويمدحون ويبندرون. فعندما نجلس معه أو مع غيره نحاول أن نقول ما نفكر فيه ولو بطريقة هادئة لتبليغ فكرتنا. أنا كان دائما لديّ رأي. فقد كتبت كتاب “السنوات المدنسة في الشرق الأوسط”وقد شتمت فيه السلام ثم أهديت نسخة منه إلى عرفات.  وفي لقاء آخر قال لي “كتابك جيد وقاس جدا”.

هيكل عندما كان يجلس مع عبد الناصر لم يكن يقول له الأشياء الجيدة. روجيس دوبري عندما جلس مع ميترون فهل معنى ذلك أنه كان يتلقى أوامر من ميتران؟. غيفارا عندما يجلس إلى بن بلة أو إلى عبد الناصر أو غيره.. من هم أصدقاء كاسترو؟ ، هذا الديكتاتور حسب الغرب؟ هم اليوسا الروائي الشهير ودوبري  المثقف الشهير ماركيز الروائي الكبير.

كل أصحابه مثقفون. فإذا لم يستمع السياسي إلى المثقفين فماذا يفعل؟. ديغول كان أكبر صديق له هو مالريو. أحيانا لا يملك حزبا ولا كنيسة تحميه ولا جمعية ولا حماية دولية.

فليس لديه إلا شخصيته وجرأته. فعندما يقول ديغول عام 68 كيف تريدونني أن أسجن سارتر؟. هذه الكلمة هي مفتاح القوة عندما يدرك معناها المثقف. فهي كلمة مفتاح مهما كان السياسي ديكتاتوريا. لقد قابلت راشد الغنوشي مؤخرا أكثر من مرة فهل أجلس معه لطلب منصب أو منحة. أنا أقول للغنوشي كل ما أفكر فيه بكل أخوة وبكل محبة. وهو يتقبل ذلك بسعة صدر فهو فعلا ديمقراطي ولين ولبق.

إذن ما حدث لمعمر القذافي غير لائق. والذاكرة العربية مثقوبة. فهي لا تتذكر من معمر القذافي إلا بعض الكتائب والدبابات. لا تتذكر إنه خلال الأربعين سنة هو الذي أخرج القواعد الأمريكية وهو من حرر النفط الليبي وهو الذي حاول أن يبني تجربة حكم جديدة حتى وإن كانت وهمية. فاليسار كله وهمي من زاوية ما. وتجربة الاتحاد السوفياتي كانت وهمية في الواقع بحسابات اليوم. أيضا التجربة الاشتراكية في القرن العشرين كانت كلها وهمية وطوباوية بحسابات اليوم. فهل إذا فشل  زاباتا في المكسيك نندد به. وإذا فشل اليوم تشافيز في فنزويلا نندد به أو نجعل منه مجرما؟. وهل إذا تروسكي فشل نندد به ونقول أنه دكتاتور الجيش الأحمر. هذه المحاسبات أو هذه المحاكمات الوقتية المتلفزة، المحاكمات الهاتفية، محاكمات الجمعيات الغامضة والمتداخلة مع الكواليس والكنائس المغلقة أنا لا أحبها ولا أريدها.

س : أنت من الأصدقاء الأقرباء للمغرب، فكيف تقيّم الحراك الديمقراطي الذي تعيشه المملكة؟ على المستوى السياسي والإعلامي والثقافي؟

ج : أنا أحب المغرب. وأقول دائما أنّ المغرب ينتج ملوكا جبابرة وصوامع عظيمة ولكن ليس هذا هو المغرب فقط. المغرب ينتج كذلك نخبا أكثر عقلانية مما نراه في بلدان أخرى هو ركن أساسي في هذه الأمة العربية وهو شعب ناشط وحركي وديناميكي. شعب له إمكانياته وإبداعاته. وأنا مطمئن للمغرب لأن لديه تجربة سياسية وتراث سياسي أفضل من جميع البلدان العربية. وحسب تقديري ومعرفتي فهو أفضل حتى من مصر، لأن الحراك السياسي حتى وإن كان متعثرا إلا أنه استمر منذ الاستقلال.

تونس كان من الممكن أن تكون مثل المغرب. عندما جاء الاستقلال كان الزعيم بورقيبة يشبه الزعيم علالة الفاسي. بالنسبة لتونس انقلب بورقيبة على الملكية وأدخلنا في طاغوت ما يسمى بالجمهورية. لكن المغرب استمر رغم تعثراته وصعوباته وتعقيداته بملوكه الجبابرة خاصة في عهد الحسن الثاني، إلا أنه استطاع أن يبني مؤسسات ويبني مجتمعا مدنيا ويقيم مسافات ومقاربات أخرى جديدة. المغرب كما أراه أكثر نضجا أكثر عقلانية. وعندما أستمع الآن إلى عبد الله العروي يقول أنّ “الملكية متقدمة كثيرا عن الشارع”.

أجدها نظرة فيها الكثير من الصواب. فعندما نقول هذا فإنه ليس مديحا للملكية ولكن هو ما يجب أن تكونه كل السلطات العربية. وهو أن تأخذ المبادرة حتى لا تصبح مركونة في الركن الخلفي من البيت.

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا