-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

الغروب الأخير : زهرة أحمد


 إنه كتابها، ليس كأي كتاب آخر!!!!

يتدفق بالحكايات.
تلك التي توارت في الغروب، حتى المشرقة منها، تعتم كل صباحاته بالدموع.

كل يوم يقرأ فصلًا من سيرة الألم.
تلك التي كتبها على نغمات دافئة من ضحكات جانا، نسج حروفه، فصول روايته، من طفولة معطرة بالأحلام.
يحضن كتابه، ما تبقى من زلة الفرح في حياته.
لم يجد الكتاب مكانًا له كما أي كتاب آخر في مكتبته أو على طاولته، كان حضنه مملكة الكتاب، هكذا أراد لكتابه، لا يتركه إلا ليحضنه بكل شوق.
الكتاب الذي لم يكتبه وحده، بل الكتاب هو الذي كتبه مع جانا، ليحفظ بين طياته أكسير الحياة.
حروفها، تلك التي حفظها عن ظهر حب، يتلوها لنفسه على نفسه وفي كل غروب.

إنها سيرتها، سيرة جانا اللامتناهية بفصولها.
تعكس في غروبها، غروبًا على حياته.
أنى لها أن تشرق!

جانا، حبيبة أبيها، بطلة روايته...!
كفراشة تحوم حول الضوء وتنثر رذاذ السعادة في عالمه.
هكذا كانت تبسط على الحياة أشرعة من الحب.
تتعثر الرياح بابتسامتها، ويقدم لها الصباح اعتذارًا لندى إشراقتها، كما كانت جدائلها امتدادا لذهب خيوط الشمس في الشروق.
والأب، لا يتوانى في ترجمة طفولتها بأبجدية من الفرح، فكانت أبجديته، يكتب عنها ولها.
كما ينسج من رسومها الملونة قصائده.
روايته الثالثة عشرة في تقويم نتاجاته الأدبية، أراد أن تكون هدية ميلاد جانا الثالث عشر وتحمل الجانب المندى من سيرتها كفراشة لروحه.

لم يبق من الرواية سوى الفصل الأخير ولوحة الغلاف.
كل فصل كان يعبق بمرحلة عمرية من ربيع جانا، من سنوات عمرها.
اثنا عشر فصلًا نسجه مع جانا، منذ اليوم الأول من ولادتها وحتى اليوم، يقرأ لها، يعيد لها ذكرياتها، ينسج حروفه على صدى ابتسامتها فتعبق بالروح.
حملت فصوله عناوين حقيقية من سيرة جانا: ولادة الروح، أولى خطوات جانا، بابا أولى كلمات جانا، حتى الفصل الثاني عشر، الذي عنون بجانا فراشة الروح، كان ينتظر ميلادها الثالث عشر ليضيف للرواية فصلها الأخير.

كبيرة كانت فرحتها عندما سجلها والدها في معهد لتعليم الرسم، تعشق الرسم كعشق والدها لأبجديته.
وعدت أن تصبح فنانة تشكيلية مشهورة.
وعدها أن يضع اللوحة الأولى التي ترسمها في المعهد غلافًا لكتابه، لروايته التي تنتظر الفصل الأخير.

كان ذلك في شهر تشرين الثاني، مع أول هطول مطري معلنًا نهاية الخريف، لتبدأ ملامح الشتاء بالنضوج في مدينة الحب قامشلو " قامشلي".

كان صباحًا مطريًا، تنهدت الأرض وعبقت برائحة المطر في بداية مبهجة للشتاء.
كان الشارع مبللًا وهادئًا، تلمع قطراته شوقًا بعد غياب ثلاثي الفصول.
خرجت جانا من معهد الرسم، وبيدها لوحتها ويدها الأخرى تحمل حزمة من الألوان.
بفرحة كبيرة تسابق الزمن، تلاشى التقويم أمامها، ليرى والدها أولى لوحاتها.
شعور ما كان يغمر قلبها بالفرح، بالثقة، بأن اللوحة ستعجب والدها، وأنه سيضعها غلافًا لكتابه.
لذلك كانت خطواتها مسرعة، تحير الريح في بهاء لا يليق إلا بها، وابتسامتها كالعادة لا تفارق وجهها.
تشق صدر الهواء بالفرح، فيرسم احمراره على وجنتيها.
قبل أن تصل إلى البيت، ابتلعها دوي ولهيب انفجار إرهابي هز قامشلو، من موضع خطواتها، حيث شارع الوحدة، موضع النبض لمدينة الحب قامشلو، حيث ضحكات جانا وصديقاتها كانت تملأ الشارع ألوانًا زاهية، حيث ألحان الحياة تعزف يومها الجديد، ليحصد أرواحًا وابتسامات وألحانًا.
تناثرت ألوانها في الشارع بجانب جثتها وابتسامتها لا تزال مشرقة، تنديها قطرات المطر الناعمة.

لونت دماؤها ما لم تلون من لوحتها، فكانت أكثر اندلاعًا لحريق الأحزان.
بدا كل شيء أحمر، حتى المطر كان أحمر في هطوله.
لا شيء سوى أمواج الدماء، وألوان جانا.
الأب الذي كان ينتظر عودة جانا مع لوحتها، يعلو صراخه، كما صدى أنينه، إنها صرخة روحه وقطيعتها في مسالك الحياة.
تائه كالذي يركض وراء آفاق بعيدة، لا يراه سواه، وفي النهاية لا يصل أبدًا، هكذا بدا الأب، لتبدأ آلاف الينابيع تتدفق من قلبه وعبر عينيه.
تلاشت الاتجاهات باتجاه الألم.

أي مشهد هذا!!!!!
غروب يفضي إلى غروب في غروبها الأبدي.
يكاد ألا يصدق عينيه!!!!
مشهد دام بأجزائه، بأشلائه المتناثرة، بالرماد الذي لون تفاصيل المكان.
مشهد يولد نسلًا من حبال الألم تشده بقوة إلى قاع الفجيعة
إنها فجيعة كبرى في روحه!!!
جانا!!!!!
لم تحزم للنهاية بعد!!
لم تكن تعلم بأن اختيارها لمنظر الغروب سيعلن غروبها الأبدي..!!
لا يعلم من أين استمد كل تلك القوة التي حمل بها ابنته بين يديه بعد ساعات منهكة من الصراخ، بدت كسنوات طويلة بآلامها، عميقة بظلامها، في يدها لوحتها، وجدائلها الذهبية تمطر دمًا على الأرض هي أيضا تلونت بالأحمر.
اختلطت دموعه مع دمائها مع المطر مع ألوانها في لوحة عصية على التعبير، لا توحي سوى بالغروب.
الأقلام التي سقطت من بين أناملها، ترسم غروبًا آخر، لتعبر الألوان من لوحة إلى أخرى في الأماكن التي تبحث عنها، في شمال القلب عابرًا إلى جهات ممزقة بالانتظار.
بعد سنة انتهى من كتابة الفصل الأخير، كلما يكتب حرفًا يحضر ذلك المشهد في روحه غروبًا.
أنى له أن يخفي أنينه، حنينه المجروح بين السطور.
وعلى تلك الصفحات الطافحة بالألم، مطلقًا العنان بأنينه في فصله الأخير.
كل يوم يفتح الكتاب على مصراعين من الألم والألم، في المساء المتواصل حزنًا بعد آخر.

أسير الحزن يكاد يلتقط أنفاسه، يتعلق عيناه بحبل من السماء كلما اقتربت الشمس من المغيب، حيث تنثر ألوان جانا، عبق أنفاسها، يحس بروحها وهي تدفئ روحه.

أي عالم سيتسع لحزنه، وأية جدائل ستدفئ روحه في الشتاء الطويل.
حضنها الدافئ كان يذكرها دائما بحضن أمه، الآن يفتقد حضن جانا كما افتقد حضن أمه منذ أن كان صغيرًا.

ما أقسى أن تفقد روحك وأنت على قيد الحياة!!!
كانت حلمًا وأصبحت حلمًا.
يرددها الأب هكذا لنفسه مع كل أنة، ليختم الألم على بوابة قلبه "ممنوع الفرح".
أصبحت لوحتها غلافًا لروايته، وهي كانت الفصل الأخير لرواية تلونت نهايتها بالغروب.

لا يزال يحضن كتابه، الغروب الأخير...!!!!

(قامشلي) 

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا