مثلت الكاتبة والمناضلة فتحية العسال حالة استثنائية خاصة بين أبناء جيلها، فهي الفتاة الصغيرة الأمية، التي تحدت المستحيل، وغيّرت مسار حياتها من النقيض إلى النقيض، فمن مجرد فتاة ساذجة انقادت إلى الزواج من رجل يكبرها بعدة سنوات، إلى كاتبة مرموقة تحتفي بها الأقلام النقدية، وتتباهى بها الحركة النسائية في الأوساط الثقافية.
لم تنل الكاتبة القدر الكافي من التعليم، وربما ذلك ما خلق في داخلها نزعة المقاومة والنضال، ودفع بها إلى تبني القضايا النسائية والدفاع عن حقوق ومُكتسبات المرأة المصرية، التي عانت كثيراً من سياسات التمييز المجتمعي، التي انعكست في فترة ما على واقعها، فوضعتها في خانة محدودة وقوضت حريتها إلى الحد الذي شعرت معه بصعوبة التكيف والنفي خارج مدارات التقدم والنهوض.
من واقع إحساسها بمأساة جيلها من الفتيات والنساء، ومن خلال تجربة حية خاضتها فتحية العسال، جاءت معظم كتاباتها معبرة عن القضايا النسائية وهموم المرأة، في مختلف مستوياتها وانعطافاتها السياسية والاجتماعية والثقافية، فلم تكتفِ الكاتبة التي بدأت مشوارها الإبداعي عام 1957 بدورها كمبدعة في مجال الأدب والمسرح والدراما التلفزيونية، لكنها انخرطت في العمل الحزبي مبكراً، وجعلت همها الأساسي هو حل مشكلات الفتيات والنساء اللائي يتعرضن للقهر المجتمعي، وفي ضوء اهتمامها حاولت أن توازي بين أنشطتها الإبداعية ودورها السياسي فكتبت أهم أعمالها المسرحية، «نساء بلا أقنعة»، «الباسبور»، «البين بين»، وعرجت في الإطار ذاته على الدراما التلفزيونية، فكتبت ما يربو على الخمسين مسلسلاً، ومعظمها دارت أحداثها حول مشكلات الزواج والطلاق والتفاصيل المتعلقة بالشأن الأسري والعائلي. ومن بين أعمالها المتميزة التي عُرضت على الشاشة الصغيرة في مراحل مختلفة، «رمانة الميزان» و«شمس منتصف الليل» و«بدر البدور» و«سجن النساء» و«هي والمستحيل»، والعنوان الأخير على وجه التحديد كانت له صله مباشرة بسيرتها الذاتية، فقد كانت هي بذاتها محور الأحداث، الفتاة الطموحة المتمردة على واقعها، التي جسدت دورها صفاء أبو السعود بمهارة وجدارة متناهيتين، في ما جسد محمود الحديني دور الزوج الحقيقي لفتحيه العسال الكاتب عبد الله الطوخي، والد الفنانة صفاء الطوخي التي ورثت الموهبة الإبداعية عن أبويها، لكنها اتجهت للتمثيل ونجحت في مجالها بقدر مقبول، لاسيما أنها تنتقي الأدوار وتحرص على اختيار الأفضل دائماً.
وبالقياس على قاعدة التميز التي اتبعتها الكاتبة الراحلة طوال مشوارها، التي تحل ذكراها السابعة هذه الأيام، يأتي ذكر مسلسل «لحظة صدق» الذي عبر عن جُل التجربة الإنسانية الثرية والصادقة لصاحبة الرصيد الفني الوفير، الذي نالت عنه عدة جوائز وإشادات من النقاد والمتخصصين، كان آخرها عام 1975، ثم التكريم الخاص من المركز الوطني في صيدا في مهرجان المسرح عام 2009.
ولم تُهمل فتحية العسال أمام نجاحاتها الفنية والأدبية قضيتها النضالية من أجل حرية المرأة وحقوقها، وإنما ظلت على عهدها في الدفاع والدعم والوقوف إلى جانب الحقوق المشروعة، وقد دفعت ثمن ذلك باهظاً في فترة من حياتها، حيث تم اعتقالها ثلاث مرات، ولم يثنها الاعتقال والسجن عن قناعاتها الأصيلة بضرورة المناهضة والتصدي لأوجه الظلم والتعنت. وخرجت من تجربة السجن بعمل إبداعي كبير ومهم بعنوان سجن النساء تمت معالجته عبر السيناريو الذي كتبته مريم ناعوم بحرفيه عالية، وقُدم في مسلسل بالاسم نفسه قامت ببطولته نيللي كريم وحقق نجاحاً جماهيرياً منقطع النظير.
ومن مؤلفات الكاتبة أيضاً كتاب «حُضن العمر» الذي سجلت بين دفتيه وقائع من سيرتها الذاتية، وسطرت عبر صفحاته مواقف من حياتها الشقية والصعبة والمليئة بالتفاصيل الدقيقة، عن رحلة الكتابة والتثقيف والمشوار المثير والعسير، الذي قطعته على مدار سنوات، وخاضت خلاله العديد من المعارك على جبهات العمل العام، فقد تولت العسال مسؤوليات كثيرة كان من بينها مسؤولية أمانة الاتحاد النسائي التقدمي في حزب التجمع، لأكثر من دورة، ثم رئاسة جمعية الكاتبات المصريات، بالإضافة إلى عضوية مجلس إدارة اتحاد كُتاب مصر وكلها مهام تنطوي على أدوار واختصاصات، وتبلور الدور الريادي والقيادي للكاتبة، التي نذرت حياتها لقضية المرأة، ومضت في دربها النضالي محاولة تحقيق ما يمكن تحقيقه من مُكتسبات وأهداف، إلى أن توفيت في عام 2014 وأسدل الستار على المشهد الثقافي والسياسي الخاص بها، لتبقى سيرتها وأعمالها كمنجزات لرحلة الكفاح التي بلغت نحو نصف قرن أو يزيد.
كاتب مصري