العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية، وما يترتب عليها من عنف وعنف آخر مضاد، هو موضوع رواية الفرنسي بوريس فيان "على قبوركم" (مسكيلياني، 2019/ ترجمة وليد أحمد الفرشيشي). لكننا، مع ذلك، لن نكون أمام أحداث عنصرية، وإنما أمام ردة فعل عليها.
فما نحن بإزائه عند قراءة رواية الكاتب الفرنسي، التي تبدأ بمقتل شاب أسود على يد البيض، وتنتهي بمقتل شقيقه على يدهم أيضًا، هو قصة فجة وصادمة أساسها ردة فعل الأخير على مقتل شقيقه، التي تنهض على عنف يصل إلى حدود الفظاعة، ويتجاوزها في أحيان أخرى.
لا نعرف عن حادثة مقتل الأسود، في مطلع الرواية، سوى أنها وقعت. فالراوي أندرسون، بطل العمل وشقيق القتيل، لا يروي لنا وقائعها، وإنما تفاصيل رده عليها. ما يعني أن الرواية تروي قصة انتقامه لمقتل شقيقه، ولكن ليس من قتلته وإنما من آخرين ينتمون إلى عرقهم.
إنها لذلك تبدو، في أحد جوانبها، صراعًا بين
هويتين. وما يمنح هذا الصراع خصوصيته في الرواية، هو أن أندرسون لا يحمل لون أبناء
عرقه. إنه أبيض بينهم، وبين البيض أيضًا. لكنه بقي، رغم ذلك، متمسكًا بهويته التي
أصبح متعصبًا لها بعد مقتل شقيقه، الذي دفعته رغبته في الانتقام له إلى هجرة بلدته
باتجاه أخرى بعيدة نجح فيها، بفضل لون بشرته، في إخفاء هويته عن سكانها.
في هذه البلدة التي تعامل سكانها البيض معه
بصفته واحدًا منهم، لناحية العرق، بدأ أندرسون تنفيذ خطته الانتقامية التي اقتصرت،
في البداية، على مضاجعة فتياتها. والمضاجعة هنا ليست سوى طريقة في الانتقام. إنها
ما يضمن له، في نظره، إهانة العرق الأبيض وتدنيسه. لكنها أيضًا طريقته في دخول
بيوت البلدة، والاندماج في مجتمعها، وحضور مناسباتها الاجتماعية.
في واحدة من هذه المناسبات، يتعرف أندرسون إلى
ديكستر الذي يكشف حقيقة هويته، لكنه يخفي الأمر عن الآخرين في البداية لأسباب لا
نعرفها. بل، وأكثر من ذلك، يكوّن مع أندرسون صداقة لا يأخذها الطرفان على محمل
الجد، ولا تستمر إلا لأن لكل منهما غايته منها.
العلاقة بين ديكستر وأندرسون هي، في جوهرها،
صراع خفي بين البيض والسود. صحيح أن ديكستر لا يعرف شيئًا عن نوايا أندرسون
الانتقامية، لكنه لا يوفر رغم ذلك جهدًا لإثبات تفوقه عليه، وتفوق عرقه من خلفه
على العرق الذي ينتمي إليه.
لهذا السبب، تحديدًا، يطلب ديكستر من أندرسون
مضاجعة طفلة سوداء في الثانية عشرة من عمرها، ولكن ليس بهدف إهانته وإهانة عرقه
فقط، بل ليرى ما إذا كان قادرًا على مضاجعتها، ثم اختبار ردة فعله على هذه الإهانة
التي قابلها أندرسون بإهانة مضادة تمثلت في مضاجعة فتاة بيضاء تعرف عليها في حفل
أقامه ديكستر، الذي تجمع عائلته بعائلة الفتاة علاقة صداقة.
رأى أندرسون في قتل هذه الفتاة، وشقيقتها
الصغيرة التي لم تسمح له بمضاجعتها رغم محاولاته معها، ما يحقق رغبته في الانتقام
الذي أصبح هاجسًا تتشكل عليه، وبفعله، تصرفاته التي لا تبررها غايته منها. هكذا،
قام أولًا بقتل الفتاة الصغيرة بطريقة وحشية وشنيعة، ثم أنهى حياة شقيقتها الكبرى
برصاصة في عنفها.
بقتله لهاتين الفتاتين، انتهت قصة أندرسون الذي
قضى برصاص الشرطة، التي طاردته لساعات طويلة. ورغم مقتله: "قام أهالي البلدة
بشنقه، لا لشيء إلا لأنه أسود. وقد تعالت ضحكاتهم الساخرة من عضوه التناسلي الذي
ظل بارزًا من تحت سرواله" (ص 222).
"على قبوركم" رواية قوامها العنف،
الذي يأخذ أشكالًا مختلفة، رمزية ولفظية وجسدية مباشرة، دافعها إما الانتقام أو
إهانة الآخر والإمعان في إذلاله. لكنها أيضًا رواية فجة غريبة وقاسية تثير،
بتصرفات بطلها وأفعاله الصادمة، الرعب والاشمئزاز الذي ينزع عنه صفحة الضحية.