في غدو المساء ، حيث يلف غبش معتم أزقة ودروبا ضيقة . من بعيد تبدو ردهات صاعدة ونازلة ، وأضواء المدينة الهامسة ، البائحة ، المخفية ، لم تملأ ، بعد ، شقوقا وثلما ضائعة . هكذا كانت تنظر من الباب المطل على هذا السكون الممتد ، وبين تلابيبها طفلها الصغير يلملم أغراضه في همة الكبار ، ينقل خطوه خببا بين البيت والبيت . وبين صعود وهبوط كان يثب ، كعصفور من الشرق ، أدراجا تآكلت بفعل رطوبة مالحة ، ومنفلتة إلى هذا المنزل الصغير .
هذا
الخط الفاصل ما بين مدينة وبحر ، يعرف حركة دؤوبا ، كنت أنظر إلى توهيمات وخيالات
تؤوب في غسق ، تتهادى كعروس فوق هودج ، وتستقبل رذاذا وهديرا يأكله صمت ووحل .
قصب البامبو السامق لا يسمع له صوت ، إلا وهو يلاعب
الهواء المشمول بقطيرات الماء المالح ، صحت :
ـ سمك ... سمك ... سمك ...
كان هذا اللغط يأتيني بعيدا ملفوفا بالغموض
الطفولي ...
ـ سمك ... وغسق ... وعتمة ... كانت تعرفني .
من أين تأتي البصيرة ؟
لازلت أتذكر سفري الأول مع شلة من الصغار ، يدبدبون على شفاههم أغان تشبه ندى
المطر . وكان المعلم الأول قد أصر على رحيل في غسق قبيل الفجر الوضئ ...
على
رمال ذهبية مبلولة ، تسير أقدامنا الصغيرة ومصحوبة بهدير أمواج رغواءَ ، تقذف زبدا أبيض .
تصل إليه أقدامنا الصغيرة ، فيبعث فينا دهشة اللقاء الأول . كانت هذه الرحلة
استكشافية لثغور إسبانية منسية على ضفاف هذا السكون المترامي في كل صوب ... سرنا
حتى انقشع ضوء النهار ، فعن على وجيهاتنا الغابشة رذاذ مالح ...
كان
المبنى يهيم وسط أمواج البحر، ومن الأعلى يظهر حراس من الإسمنت المسلح ، يحملون
بنادقهم العملاقة ، يشقون بها عنان السماء ، وينفخ الريح في بنودها الكبيرة . كانوا
يربطون اليابسة باليابسة بحبال عملاقة ، تمر فوق المدينة الصغيرة الهادئة . أسهب
معلمنا بفم أثرم بالشرح والتفسير لما كان يفعله جنود الإسبان في هذا الثغر المنسي
. ولأول مرة سمعت بخوان خيمينيط العسكري ، الذي كان يشتري ، بثمن بخس ، رخويات من عرق
جبين بؤساء معدومين ، ويطير بها في حاويات كهربائية فوق هذه الأسلاك ، والحبال
الممتدة على طول المحيط الهادر.
خيمينيط حفرته الأقدار في أذهاننا الصغيرة ، ونُحت له تمثال من البرونز على
مشارف المدينة زمنا طويلا ، إلى أن جرفته ، ذات شتاء ، سيول عارمة بعدما جهز
المكان بوسائل ومعدات عصرية ، كنا نراقبها ، بعيون صغيرة ، وهي تنمو يوما على صدر
يوم . في ذاكرتي هذه الرحلة الجهمية ، اقترنت اقترانا دهريا بقصيدة مطولة ، لشاعر
العراق الكبير " معروف الرصافي " ، حينما طلب منا الأستاذ استظهارها
كاملة غير منقوصة الجوانب ، مشمولة بمعان خاصة في الرأفة والرحمة ، ومد يد
المساعدة لكل من يحتاج إليها . فلما فطن الأستاذ بالعياء قد أخذ منا مأخذا وبيلا ،
وأثقل كياننا الصغير من طول الرحلة على شط البحر ، أجَّل الاستظهار للأيام القادمة
... فعمَّ الحبورُ والابتهاج قلوبنا وأفئدتنا ؛ فكنا نتعانق من شدة الفرح والسعادة
.
مطلع هذه القصيدة الذائعة الصيت :
لقيتها ليتني ما كنت
ألقاها تمشي وقد أثقل الإملاقُ ممشاهـا
أثوابها رثة والرجل
حافية والدمع تذرفه في الخد عينــــاهـا
فعدنا أدراجنا كما تعود الطيور ، وتؤوب إلى أعشاشها ... وإلى بطاحها ...
ننتظر القادم السعيد ، فكانت الصورة التي ارتسمت في ذهني ماثلة في متخيل لا أدركه
... إنها المرأة التي نهشها الفقر ، ونشر غسيلها الشاعر .