تجول بنا الشاعر المغربي محمد بلمو في عوالمه الإبداعية، من خلال حوار كشف عن التباس اليومي واختلاطه مع الإبداع، كما حملنا معه في رحلة لمدة «خمسة أيام في فلسطين المحتلة» وهي التفاصيل التي وثقها في كتابه الرحلي الصادر مؤخرا عن دار نشر مقاربات.
إلى جانب الجولة التي طبعها الحنين إلى فلسطين، كان لإصداره الآخر «طعنات في ظهر الهواء» وهو كتاب شعري صادر عن دار النشر نفسها، حضور في هذا الحوار.
يختزن محمد بلمو الكثير من الألم، في مسيرة إبداعية دونت كل تفاصيل الأحزان التي مرّ فيها، لكنها لم تتمكن من توثيق تلك اللحظات السعيدة العابرة لمحيط يومياته، هو صحافي وشاعر، يحمل هم الآخر قبل همه، ويصنف في خانة «صاحب قضية» وقضيته هي الإنسان بشكل عام لأنه لا يتخندق في زاوية معينة، يحتمي بالشعر ويتزود بالكلمة، ويبقى مسافرا في أرض الإبداع الواسعة. على هذه الضفاف الرحبة والشاسعة جاء حوارنا معه..
بين «خمسة أيام في فلسطين المحتلة» و«طعنات في ظهر الهواء» مسافة أمل وألم، ترقب وتأمل، مسافة روحية قبل أن تحسب بالساعات والشهور، فهل كان زمنك الخاص ممتدا فيهما معا؟
ما بين كتابة «خمسة أيام في فلسطين المحتلة» و«طعنات في ظهر الهواء» حوالي عقدين من الزمن، مسافة زمنية طويلة لم ينفك الأمل فيها يقاوم الألم، مدججا بقيم الروح التي جمعتنا بقضية فلسطين ومأساة الوجود الإنساني التي تتضاعف كل يوم بينما يخبو ذلك الأمل دون أن يستسلم. ومع أن الكتابين يختلفان من ناحية الجنس، حيث يركب الأول صهوة السرد لوقائع ومشاهدات ولقاءات زيارة ميدانية قصيرة لأرض فلسطين ومدنها وتاريخها، بنكهة صحافية اقتضتها أهداف الرحلة وبواعثها وإكراهاتها، بينما يقيم الكتاب الثاني في تخوم الشعر التي لا تعترف بالزمن، ولا تضع لإكراهاته اعتبارا، كتبت نصوصه ما بين 2013 و2019، في إطار تراكم تجربة شعرية امتدت في زمن إقامتي على الأرض، لتجعل من الكتاب رابع إصدار شعري لي. إلا أن الروح التي تتنفس في الأول نثرا هي التي تتنفس في الثاني شعرا، تربط بينهما وشائج قوية وممتدة في الزمان والمكان، تشدو بألم وأمل معا قضية فلسطين التي تشكل بالنسبة لجيلنا عنصرا تكوينيا مؤسسا، تعود بداياته إلى طفولتنا الأولى، حيث كنا دون أن ندري نرضع من ثدي الأم وثدي فلسطين، لذلك تجد حضور فلسطين قويا في الكتاب الثاني الشعري بدءا من العنوان: «طعنات في ظهر الهواء» إلى أول عتبة على شكل شذرة أحاور فيها المبدع الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، حيث تقيم فلسطين في روح مجمل النصوص التراجيدية، وتبدو جلية في قصائد: «ستفاجئهم» «لن توقفوا ناركم» و«بريد الجثث».
بين الرحلة إلى فلسطين وكتابة تفاصيلها في اليوميات وصدورها في كتاب مسافة زمنية متباعدة، هل كانت قصداً، أم مجرد صدفة حياتية بسبب مشاغل المعيش؟
كتبت يوميات «خمسة أيام في فلسطين المحتلة» خلال رحلة وفد صحافي مغربي ما بين 22 و27 آذار/ مارس 1999، بتنسيق بين السلطة الفلسطينية ومكتب مطارات المغرب، بمناسبة افتتاح مطار غزة، ومباشرة بعد عودتي نشرتها على حلقات في جريدة «الميثاق الوطني» التي كنت أعمل فيها. لكن نشرها في كتاب لم يتم إلا بعد عقدين على كتابتها اي سنة 2021، ضمن منشورات دار مقاربات في فاس. وفي الواقع لم ينتج هذا الأخير إلا عن الانشغال بمشاكل الحياة وإكرهات العمل الصحافي الذي تعرف مدى اكتساحه للجزء الأكبر من الوقت المتاح. لكن الإصرار على نشرها في كتاب بعد 22 سنة عرفت فيها القضية الفلسطينية الكثير من التطورات الدرامية، لعل أهمها انكشاف وهم المراهنة على اتفاقيات أوسلو، والانتهاك الفاضح لبنودها من طرف الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، قلت كان ذلك الإصرار على نشرها في كتاب، يعود لما يمكن أن تشكله كوثيقة حول أحوال الدولة الفلسطينية الموقوفة التنفيذ.
رحلتك إلى فلسطين أفرغت حمولتها العاطفية ومسارات الذاكرة في فترة زمنية لم تتجاوز الخمسة أيام، وبين نبض أمس واليوم تحولات كبيرة، فهل احتفظ القلب بنوستالجيا الأمس وهو يتأمل من شرفة الشاعر وبخطوات الصحافي ملامح اليوم، هل تغير الكثير، أم ما زلت وفيا للبدايات؟
رغم انشغالنا بفلسطين قضية وأفقا منذ صغرنا، ورغم أنها كانت كما تعرف موضوعا أثيرا للعشرات من كتاباتنا نثرا وشعرا، إلا أن التعامل معها سيختلف بعد زيارتها كثيرا إحساسا وتفكيرا. لقد لمست على الأرض استحالة قيام دولة فلسطينية وفق مخرجات اتفاقيات أوسلو، مثلما لمسنا درجة تغلغل المحتل في مدينة القدس وإصراره الدؤوب من أجل تفريغها من ساكنتها الفلسطينية وتعويضها باليهود المرحّلين من كل بقاع العالم، ومحاصرتها بجدار سميك من المستوطنات، لخنق روحها وهويتها الفلسطينية. وهذا ما حاولت توضيحه في الكتاب.
اليوم، وبعد أكثر من عشرين سنة على تلك الزيارة، تبدو تراجيديا القضية الفلسطينية أكثر إيلاما وعمقا، فقد انعكس التشرذم العربي على الداخل الفلسطيني صراعا مهولا بين فصائلها، وتضاعف الاتجار بالقضية والركوب عليها من طرف أنظمة عربية عسكرية مستبدة وكاذبة، ما مكن الاحتلال المزيد من الاستقواء والاختراق للمنطقة، واللعب على تناقضاتها والتغلغل الاقتصادي والمخابراتي والدبلوماسي في مفاصلها، بما يجعل هدف تحرير فلسطين بعيد المنال. لكن بالنسبة لي، ما زالت فلسطين هي فلسطين، مأساة وقضية وأفقا ونوستالجيا كذلك، لأنها جزء أساسي وعميق من كينونتي ووجودي.
إلى «طعنات في ظهر الهواء» مرورا إلى السرعة القصوى لكشف زيف اليوميات، كيف كان السير في طريق محفوف بالشوك والخديعة؟
«طعنات في ظهر الهواء» هو عبارة عن صرخة في وجه هذا النزوع المتطرف للرأسمالية المتوحشة نحو تدمير العالم وأسباب الحياة فيه، وتدمير الوجود الإنساني نفسه وقيمه النبيلة. إنها إدانة شعرية لعمليات الغدر التي يقوم بها الإنسان ضد الطبيعة وضد الإنسان نفسه في نهاية المطاف، من خلال هذا الاستغلال الكارثي للعلم في تهديد كينونة الإنسان ووجوده، من إنتاج الأسلحة النووية والكيماوية والجرثومية إلى صناعة الأدخنة والغازات إلى تسليع وتعليب كل شيء لتدمير النظام الحياتي الطبيعي للإنسان، وتحويله باستمرار إلى ما يشبه الآلة.
باختصار الطعنات وحدت بين الذات المفردة وصيغة الجمع في ذات العالم، لكن من يحمل الخنجر ومن ظهره للهواء، بؤساء الزمن، أم بؤساء الروح؟
أكيد أن الطعنات وحدت بين الذات المكلومة والجمع المنهك في ذات العالم، لكن الأمر يتعلق هنا بتراجيديا الوجود الإنساني، كون من يحمل خنجر الغدر هو نفسه من يتعرض للطعن، فإذا كان الإنسان هو الذي يصنع أسلحة الإبادة وهو من يصنع الغازات القاتلة ويصنع النفايات والتفاهات، وهو من يغدر بالهواء ويلوثه ويدمره، فإنه في العمق هو من يغدر نفسه، لأن شرط استمراره في الحياة هو الهواء الذي غدر به باستمرار، وبالتالي فإن القاتل في هذه الحالة هو المقتول، حيث لن يكون بمتسع أحد أن يفلت، سواء بؤساء الزمن أو بؤساء الروح.
لكن خصوصية الذات تظل حاضرة بقوة، فلا يمكن أن يكون الأنين إلا فردا، أما صيغة الجمع فصراخ وعويل وتعابير شتى، وهنا اسألك: لماذا غادر الشعر العربي شرفة البهجة وانزوى في دهليز الألم، ألا يوجد أمل في أنفاس الإبداع؟
من المؤكد أن خصوصية الذات بالنسبة لكل تجربة شعرية هي ما يجعل تلك التجربة تتميز، أو لنقل تختلف عن باقي التجارب، وإلا لكنا أمام عمليات استنساخ لا إبداع فيها ولا اختلاف ولا شعر، ما دامت الهموم الجماعية هي نفسها لم تتغير لسوء الحظ. فقضية فلسطين مثلا هي نفسها بالنسبة لكل شعراء فلسطين، لكن خصوصية ذات كل شاعر فلسطيني هو ما يقيم التمايز والاختلاف والفرادة في كل تجربة، فلا يكون شعر محمود درويش هو شعر سميح القاسم هو شعر توفيق زياد هو شعر معين بسيسو، إلى غيرهم من الشعراء الفلسطينيين، وقس على ذلك بالنسبة للشعر المغربي أو المصري أو الياباني أو الفرنسي أو الأمريكي إلى آخره، فالذات الشاعرة هي التي تنحت خصوصية التجربة الشعرية لكل شاعر، وتجعلها تتميز إلى هذا الحد أو ذاك عن باقي التجارب. بيد ان سؤالكم عن ارتباط الشعر بالألم، فأنا أقول لك، إن الشعر العربي لم يغادر شرفة البهجة والفرح، ولم ينزو أبدا في دهاليز الألم، بل إن الآلام هي التي هاجمته وجعلت فلول الفرح والبهجة تفر من محيطه، بسبب توالي النكسات والهزائم والإخفاقات والمحن على الوطن العربي، ومع ذلك تشبث هذا الشعر بالأمل، فتمرد وثار بدافع ذلك الأمل ومن أجل تحقيقه على الأرض، وطبعا فالتجارب تختلف في هذا المقام من شاعر لآخر، وشخصيا لم أختر الإقامة في ما تسميه دهاليز الألم، لكن الواقع لا يرتفع، فعندما تتكالب عليك المحن، لا يكون بوسعك غير مقاومتها والصمود في وجهها بكتابة الشعر، فالشعر هنا فعل مقاومة ودفاع عن الذات والجماعة والوجود، إنه فعل تشبث بالحياة وإقامة التوازن النفسي المطلوب تجاه تلك المحن، ومجموعتي الشعرية الأخيرة «طعنات في ظهر الهواء» رغم تراجيديتها، لم تفقد الأمل ولم تضيعه، وبها نص عنوانه كما تلاحظ «الأمل لا يموت». طبعا يمكنني أن اعترف لكم اليوم بأنني فشلت فشلا ذريعا في الكتابة الشعرية عن لحظات جميلة وساحرة لحظات فرح وسعادة عشتها في حياتي على قلتها، ولا أدري حتى الآن لماذا فشلت.