الرباط ـ ادريس الجاي «القدس العربي»: يعتبر (مهرجان مغرب الحكايات) عرس يحج له حكواتيون وفنانون من كل فج عميق ليشهدوا لقائهم السنوي، الذي وصل سنه التاسعة عشرة. وواصل نشاطه ولم يتوقف حتى في سنوات «جائحة كورونا» وأقام محكياته عن بعد. أقيم المهرجان في الفترة ما بين 24 يونيو/حزيران، وحتى الـ 30 منه، فشرع أبوابه للحكواتين والفنانين والباحثين من كل حدب وصوب من القارة الآسيوية والأوروبية والأمريكية، وكانت الكلمة فيه للقارة الافريقية، ضيف الشرف.
من ناحية أخرى لم يكن انطلاق كرنفال مهرجان «مغرب الحكايات» من هذا الموقع الأثري (شالة) عبثا، إنه دلالة ربط الماضي بالحاضر المحكي بالمعاش، وصون للتاريخ الشفوي، حيث رفرفت فوق خشبة المكان أصداء المهرجان في حفل افتتاح رفعت فيه رايات المحبة والسلام وانطلقت من فوقها رسائل سمعية وبصرية إلى كل أرجاء العالم تعلن عن تلاقح الثقافات ورسمت فوقها لوحات فنية تظافرعلى تصفيفها فنانون من عدد من الدول بين رقص وسرد وعزف وتعبير جسدي واستحضار نماذج من شخصيات خرافية مثل الغول وجحا، أو ذات الرداء الأحمر أو بينوكيو بأنفه الطويل.
ساحات ومساحات
كانت لمدينة الرباط عيون تروي حكاية حدثها 19 سنة وعمرها آلاف الأعوام، أسطورة عايشتها سبعة فضاءات مختلفة تجمع بين الماضي والحاضر. مشاهد حاضرة كلقطات سينمائية توثق أحداث حقبة تاريخية أمام أسوار شالة وقصبة الوداية، التي أنشأها أمير الدولة المرابطية يوسف بن تاشفين (حكم من 1009 ـ 1106). امام هذه المعلمة التاريخية الأخرى، التي عرفت أحداثا ووقائع وقف الحكواتيون وعازفون للطبول يسجلون التاريخ الشفوي بمداد الحاضر، من خلال حكاياتهم وأنغامهم، كما وقف غيرهم في ساحات المدينة الأخرى مثل الخزانة الوطنية، حي يعقوب المنصور، حديقة اليوسفية وحج الرياض وتمارة. فضاءات حوت رُكحا طبيعية زرابي مبسوطة تطير بالمستمعين المتحلقين حولها جلوسا ووقوفا إلى فضاءات الخيال وحلم السياحة في عوالم أسطورية ترسمها الكلمات الملقاة والمنتقاة من طرف رواة متمرسين أفذاذ ومتدربين، تناوبوا على هذه الرُكح التلقائية الطبيعية، فضاءات تحاكي زمن الثراء الشفاهي، حيث كانت للراوي هيبة وسلطة معنوية تشد الخيال وتأسر السامع في حبائل التشويق والكلمات الحالمة. لقد عملت هذه الخشبات البسيطة في فضاءات رمزية على استحضار الماضي ومحاكاة ساحات الحكي الشهيرة في المغرب مثل، ساحة سيد عبد الواحد في وجدة، بوجلود في فاس، الهديم في مكناس، جامع الفنا في مراكش وباب الحد في الرباط وغيرهم كثير، لكن بطرق عصرية. كان الرواة فوق هذه المساحات يجسدون فنونهم كسفراء حكي مدنهم ودولهم ومجالات خيالهم من المحيط إلى الخليج، من البقاع العالية في دول الشمال إلى جنوب افريقيا. فقد اختلفت اللغات واللهجات والأزياء والتعبيرات، غير أن هذا الاختلاف شكّل ثراء منح العين والأذن ذلك البذخ في الإيقاع اللغوي والعطاء الإبداعي. ومن أئمة الحكي نذكر كمثال..
من مراكش عبد الرحيم الأزلية، محمد باريز، علال المالحي من وجدة، ومحمد صوصي العلوي من الرباط. ومن الأوطان البعيدة، مثل.. الراشدي أحمد من سلطنة عمان، أنيس جلمة من الفلبين، لتيتيا بلود من فرنسا، كيسنيا من غينيا، بوبكر مهاي من السنغال، ويسمينة جميلة من الجزائر، وغير هؤلاء بالعشرات.
كما أمدّ المهرجان جذوره إلى خلق إطار حكاية الجيل الصاعد فأبدع مجال مسابقة بجوائز مشجعة تنافس عليها التلاميذ والتلميذات في عالم الحكي وكتابة الحكاية. بحثا عن جيل جيد يحمل مشعل السير بموكب الحكي إلى التجدد والحفاظ على إحدى روافد الهوية الشفوية المغربية ثم العالمية.
البحث عن الحكاية
لم يقتصر مهرجان «مغرب الحكايات»على الكلمة العفوية والسرد التلقائي، بل أفسحت فعالياته منصة بحث ودراسة، وتأملا في حاضر ومستقبل هذا الإرث والعوالم المؤثرة في مساره سلبا وإيجابا. فقد تناوبت على منصة الندوة العلمية والحوار، التي شهدها معهد الدراسات الافريقية التابع لجامعة محمد الخامس، ثلة من الباحثين من المغرب وتونس ومصر واليمن والبحرين، حيث قدمت مداخلات حاولت أن تلامس الإشكالات الراهنة التي يواجهها فن الرواية أو الحكي الشفوي والأشكال الفرجوية غير المادية الأخرى، وكيفية تطوير أساليبها من أجل مسايرة التحولات الرقمية التي يشهدها العالم. كما قُدمت قصص للأطفال على شكل أفلام عرض من خلالها الباحثون نماذج تعانق التطورات السمعية البصرية التي غزت البيوت ومجالات الفرجة المفتوحة، كما شكلت منافسا قويا لها. لقد طرح المتخصصون والمتخصصات من البلدان العربية أسئلة واقتراحات قيمة تصب جلها في خانة البحث عن البديل العملي، من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كالعمل على إدراج فن الموروث الثقافي اللامادي في برامج الجامعات والمؤسسات التعليمية، وتسجيل هذا الموروث من خلال الصوت والصورة حتى يمكن المحافظة عليه من التلاشي والتلف.