ها هو الليل يتجوّل كساعي البريد ، يضع رسائل الأحلام في صناديق النوملكن ! ما الرسائل التي يضعها في الصناديق التي أصحابها الملوك والأمراء و.. ؟ ربّما يضع بلدانا جديدة أو طاعة أعم وأكبر أو عروشا أوسع . لكن ! هل تلك الصناديق لهم ؟ هل لديهم صناديق ؟ أم يستعيرونها اغتصابا ؟! * يتجوّل الليل كساعي البريد ويضع رسالة هنا وهناك ... أو و كأنه فلاّح ينثر البذور ـ ، هنا وهناك ، بذور الورد والشوك . لكن ماذا يضع في صندوق السهر ؟! لا لا أظنّ بأنه يوجد صناديق سهر ولا توجد رسائل له ، لكن يأتي الليل ويمسح بكفّه على رأس السهر ـ وكأنه طفل يتيم ـ وكأنه يريد إخباره بأن أهله قد ماتوا أو إخباره بأن العالم أسود كظلام هذا الليل أو يوشوشه في أذنيه مخبرا إيّاه سِرّا ما . * أسطح البيوت والشرفات كؤوس ملئت بحليب القمر ـ : ينسكب منها الحليب من جهة وهو يسيل على جسدها مشكّلا بقعة على الأرض ومن الجهة الثانية يتدلى منها شَعر الظلام وكأن الليل امرأة : وجهها أبيض كالحليب وشَعرها أسود كالظلام . ألهذا يصبح الرجال في الليل أكثر حبا وتقربا من النساء ؟ والذي يعيش دون امرأة يكثر سهره ؟ ألهذا يسهر الشعراء ؟ ـ يستمدون الإلهام من تلك المرأة ـ الليل . ألهذا علماء الفلك في الليل يترصّدون السماء ؟ هل يتجسسون على مفاتن جسد تلك المرأة ـ الليل ؟ ألهذا معظم سارقوا المنازل و ... هم رجال ( إلاّ المسترجلات من النساء ) ؟ ـ مستغلّين ضعف المرأة وقدرتَهم عليها . ويتلاقى العشاق مع بعضهم ليلا ؟ ـ مستغلّين رقة هذه المرأة ، فيعرفون لرقتها وشفقتها أنها لن تبوح بما يفعلون وتستر لقاءاتهم . ألهذا ، لشدة جمال ومفاتن هذه المرأة ـ الليل ، يعيش المفكرون والمبدعون ـ بشكل عام ـ في حالة قلق ـ ليلا ـ ؟ ـ محاولين تعريتها أو تعرية أكثر المناطق إثارة فيها ومحاولين اكتشاف أسرارها . آه .. ما أجمل هذه المرأة ـ الليل ، وما أخطر الجلوس أمامها . * الليل والنهار نهدان في جسد امرأة : نهد يسكب الشهوة ، ونهد يُرضع طفلا ـ هذا ما قاله باطن الرجال أمّا ما قاله باطن النساء : الليل والنهار كفّا رجلٍ ، : كفُّ تبحر في أجسادهنّ لتحرّك مياه الشهوة واللذة ،وتغطس في الأعماق لتصطاد أسماك ولآلئ النشوة ، وكفٌّ كطيرٍ يحمل في منقاره أشياء ـ يضعها حول أصابعهنّ وأياديهنّ وأجسادهنّ وفي فمهنّ . باطن الشيوخ والعجائز قال بأن النهار مرآتهم ، والليل ذاكرتهم . أما باطن الأطفال فقد فصَل بين الليل والنهار : النهار أب والليل أُمّ . وهناك باطن ، الذين يسيرون في هذه الحياة كالآلات ، قال : النهار آلة والناس يديرون دولابها لتسير، والليل سرير ـ يلقون فوقه حقائب تعبهم ويفرغون فوقه حمولات أجسادهم . باطن المراهقين قال : النهار صور عصبيّة جنسيّة ، والليل عادة سرّيّة . باطن الحكماء قال : النهار عِبرة ، والليل فِكرة ؟ باطن المفكرين قال : النهار ـ ثلث طفل وثلث رجل وثلث شيخ ، والليل ثلث طفلة وثلث امرأة وثلث عجوز . باطن الفلاسفة قال : الليل والنهار مخلوق واحد له وجهان ـ وجهُ رجل و وجه امرأة ، وله صفات الذكر والأنثى معا ، وهو يتزوج نفسه ويحبل بنفسه ثمّ ـ في آن واحد ـ ينجب نفسه ويموت . باطن الشعراء قال : النهار أغنية صاخبة هوجاء ، تسقط من فم السماء ، والليل معزوفة دامعة ناسكة ، تعزفها الملائكة باطن العاطلين عن العمل قال : النهار ضوء ، والليل عتمة . وأيضا قال : النهار ليل ، والليل نهار أو هما كابوس جبار وكلاهما دمار باطن المتشرّدين قال : النهار قدم وحذاء ، والليل داء و وباء . وهنالك أقوال غريبة أيضا فهنالك وفي أنحاء العالم وخصوصا في المدن العربية من قال باطنهم : النهار قبر ودماء ، والليل بكاء . * فلتهيئ ،أيها الإنسان ، ذلك الجهاز ـ النوم ، الذي يريك ضوء الليل . * لم يأتي الليل دائما لابسا ثوبه الأسود ؟! ألا يملك غير هذا الثوب ؟! هل هو فقير مثلي ؟! . ولم هو حزين مثلي ، صامت غالبا مثلي ؟! ولم هو عازب عن الزواج مثلي ؟! هل هو أيضا لم يستطع الزواج وفي الوقت نفسه لم يجد زوجا له ؟! هل حالكِ أيتها المرأة ـ الليل مثل حالي ؟! هل سنبقى عازبين عن الزواج ـ هكذا ـ حتى ننقرض ؟! النساء يعملن خارج البيوت ، والرجال يبكون داخل البيوت . والحاكم يصطاد الشعب كالعنكبوت والنساء يرفضن أن يتزوجن من الفقراء يكرهن أن يُحملن على الورود ، ويعشقن أن يحملن على التابوت إذا كان مرصعا بالنقود ولا يهمهنّ باطنه وهو الموت يا لهذا الزمن الحوت ! الرجال ينتظرون فارسة الأحلام وفارشة الأعمال ، والنساء ينتظرن فارش الحرير وفارس القصور . أيتها المرأة ـ الليل أنت أيضا أدخلوك في مصانع الحضارة والتطور والمادّة : عرّوك بالأضواء وملئوك بالضوضاء ، حتى ذهبت أسرارك ونكهتك ولذة الجلوس أمامك حتى صار الليل ( مستنهرا ) وغابت شفافيته وأسراره وصفاؤه ، كما المرأة صارت مسترجلة وغابت شفافيتها وأسرارها وصفاؤها . وتشابه النهار والليل وتشابهت ـ الرجال والنساء . هل هنالك شيء يُسمى غشاء البكارهْ ؟! أَم محته الحضارهْ ؟! الحضارة ، التطور ، المتطلبات ، التقنيات الحديثة ، السليكون ، الموضة العصرية أخرجوا أيها المتخلفون من التقاليد ـ القبر ؟! ـ دقّة قديمة . نحن في القرن الحادي والعشرين وما زلت تستعمله ؟! ـ لكل نقطة ميتة في ضلع ميت من أضلاع جسد ميت لبشريّ ميت ، هنالك قبر وليس تحت التراب لكن على الجدران وعلى أغصان الأشجار وعلى الصخور والبحار وبين التربة وفي الأفق أيضا . ـ الشموخ ؟! ـ ثوب بالٍ ، نحن في عصر صهر الحديد و تذليل النخيل ، وما زلت تسأل عن الشموخ ! ثوب الذل هو ثوب العصر الحالي ـ والحب ؟! ـ كلمة دون معنى ، كلمة بالية . الجنس والمال والمظاهر هي المعنى والتطور والرقيّ والحضارة . ـ ألا تموت الأشجار واقفة ؟! ـ لا بل تموت طائرةً . أه ! لم يعد الورد يتنفس العطر فقد صار يتنفس ثاني أكسيد الكربون ... والطبيعة تركت صمتها وبدأت بالثرثرة ، صوتها صار خشنا كأنه عجوز تعبّ كل دقيقة سيجارا . * هل سننقرض أيها الليل ؟! وأنتِ أينك أيتها المرأة التي ستتوحد بي وتنصهر نفسها في نفْسي ، وجسدها في جسدي ، وروحها في روحي ؟ هل لن تأتي أبدا ؟! هل الأبجدية واللغة ضيّقة عليك بحيث لا تستطيع أن تحيط بك ؟ أم أنّ أحلامي واسعة بحيث لا تستطيع اللغة والأبجدية أن تلبسها أو أن تطوف بها ؟ هل أنتِ في هذا الزمن ؟ أم في زمن مضى أو لم يأت بَعْد ؟! هل أنت في رحم ما تنتظرين الولادة ؟ أم أن والديك لم يتزوّجا بَعْد ؟! يا إلهي ! ما هذا الفقد ؟ ما هذا الفقد القارص الذي يتوغل في قلبي ؟ يتها المرأة التي ستكون زوجتي أينك أينك ـ إن كنتِ حقا ستكونين زوجتي ـ إن كنتِ في هذا العالم فارفعي قلبك لكي أهتدي إليك بنبضه أيهذا الليل ! هل سننقرض ؟ تكلم أيها الليل علّي أتكلّم الصمت .. الصمت .. الصمت ! لقد فاض قلبي بالصمت حتى كاد جسدي كله يغرق فيه أما من دلو أذُنٍ يمتح هذا الصمت من قلبي وينثره في أرجاء القلب وفي أرجاء العالم ؟! أيهذا الليل هل سننقرض ؟! * ساعي البريد قد غاب ومزقت الشمس رسائله ولدت الشمس من جديد ورشّت ضوءها على وجهي قائلة لي : انهض .. انهض ْ قبل أن تنقرض .