عن القدس العربي
في تجربة صباغية جديدة جديرة بالمتابعة والاهتمام، قدَّم التشكيلي المغربي عبد الهادي مريد قبل أيام مجموعة من قماشاته، في معرض فردي بعنوان «أطياف راقصة» Spectres dansants أقامه في الرواق الفني لمؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للتربية والتكوين في الرباط، طيلة الفترة الممتدة بين 05 و29 تموز/ يوليو 2022.
في هذه المناسبة، صدر كاتالوغ تضمَّن صور أعمال الفنان وسيرته الفنية، إلى جانب نصَّين تقديميين باللغة العربية تمَّت ترجمتهما إلى اللغة الفرنسية للناقدين عبد الله الشيخ وإبراهيم الحَيْسن، جاء فيهما:
نافذة جديدة على الحياة
عبد الهادي مريد من الذين اختاروا المسلك التلقائي منهجهم التشكيلي، مستنبطين باللون الحركي أطيافهم المجنحة، على طريقة الخيميائيين في حلمهم، أو الدراويش المتأهبين لخوض رحلة وجدهم. كان يصغي إلى سرائره الباطنية، وكان يحلق مع تداعيات أخيلته في عالم هلامي وسمه الناقد الفني إبراهيم الحَيْسن عام 2016 بـ»مدارات لونية». يمثل كل مدار بؤرة تمركز الطاقة في الجسد على نحو يذكرنا بنظام الشاكرات في التراث الهندي. أليس كل لون نورا في أصباغه المختلفة؟ أليس كل لون حالة روحية ونفسية في الآن ذاته؟ أليس كل لون مظهرا من مظاهر الوجود وتفسيرا أوليا لها؟ أليس كل لون، أيضا، سحر الحياة الدائم؟ نحن بصدد أطياف تفكيكية وتركيبية معا تحيلنا على هيئات الأشعة الملونة الشفافة التي اشتغل عليها نيوتن، معتبرا إياها عناصر النور. من الصعوبة بمكان معرفة أين ينبجس اللون الواحد، وأين يتجلى اللون الثاني؟
في أقانيم تجربة عبد الهادي مريد بكل إحالاتها الرمزية، نستقرئ أهمية الإدراك اللوني بكل مظاهره الفيزيائية والسيكو- فسيولوجية. يا لها من أطياف مرئية! يا لها من كوريغرافيا متسامية! إنها بمثابة موجات ضوئية وحركية تستميل العين الرائية، وتعزز ثقافة انتمائها الوجودي إلى هذا الكيان الآدمي المشترك المسكون بثنائيات الحياة والموت، النور والظلام، الامتلاء والفراغ، الحضور والغياب، المطلق والنسبي، الثابت والمتحول، القدسي والدنيوي.
كلما أمعنا التأمل في عوالم عبد الهادي مريد، نستشف تلك الهيئة متعددة التمظهرات اللونية التي تخترق الأسطقسات الطبيعية الأربعة للكون (جاء في لسان العرب: اللون هيئة كالسواد والحمرة) متماهية مع الأجواء البصرية العامة للمشاهد الإيحائية التي تجدد شطحاتها ومدارجها من لوحة إلى أخرى، فهي معادل رمزي للرقص الجامح، ولطقس العبور من انطباع خيالي إلى آخر. نحن في إطار تبادل سرمدي بين الأعلى/الارتقاء والأسفل/ الانتكاس وفق ما تستلزمه دورة التجدد الدائمة: عبور ربيعي من الموت إلى الحياة، وعبور خريفي من الحياة إلى الموت. أليست الاستعارة التخييلية ذاكرة المستقبل وأفقه؟
في مشاهد عبد الهادي مريد المائجة، يغيب كل إيحاء رمزي جنائزي مقترن باللون البنفسجي، فهو يخترق كل حداد رامبوي، ويعبره نحو الحياة في انسيابية آسرة تصالح بين السماء والأرض والروح والجسد. مشاهد تنم عن همس الحدس من داخل الذات لا من خارجها.
يرى عبد الهادي مريد العمل الفني كتحليق طليق مثل الهواء والماء. تتدفق الأشكال الإيحائية كأطياف عائمة تتراوح بين التعبير الجواني والتجريد الخالص بعيدا عن كل إلزامية شكلانية أو أسلوبية ابتداعية، الأمر شبيه بهيولا الخيال الخلاق، تبدأ من حيث تنتهي. بطلاقة ومرونة، يرسم الفنان على سجيته رشاقة الأشكال المنتشية والمتشبعة لونا وبنية وتلميحا. يشي كل عمل فني برغبة جامحة في الإنصات لصوته الباطني، أقصد للهيبه الداخلي المتأجج الذي يضفي عليه حركية وتلقائية. إنه نافذة جديدة على الحياة، لا مجرد انفعال أسلوبي أو انبهار تقني. أليس الفن بتعبير آنغر هو الحياة بكل صورها التي تتغير وتتلون ولا تنتهي؟
لا يرسم عبد الهادي مريد قلق الوجود ولا قلق الحقيقة. يبتهج، فقط، لجنون الإبداع البصري، وقد استوفى شروط أحواله ومقاماته اللونية الطبيعية. كل لوحة مرآة مرايا نابضة بالمعنى الباطني للكلمة. مرايا تعكس اللامرئي والمتخيل، والشذري والمجهول. مقامات بوحية صامتة ومتوارية معا تحكي عوالم قوس قزحية.
انطباعات طيفية تجتذب الإنسان بصيغة لا تقاوم على غرار اللهب اللوني الذي تحدث عنه بإسهاب كاندينسكي. يصبح التناغم اللوني، عبر سحر صوره التشكيلية الفاتنة، معادلا بصريا للتناغم الموسيقي (أتذكر المنهج الكروماتي لدى مارك شاغال). لا غرابة، إذن، أن يفضي الانشغال بالتلوين إلى الانشغال بالحركة. كل عمل فني ينفرد بدينامية بليغة وبحيوية إنجازية خارج منطق «رسم الرسم» أو «تصوير التصوير» ذي الوثوقية الحداثية. أسره اللون، وتملّكه إلى الأبد، فهما معا كيان واحد (أستحضر ما كتبه بول كلي في مذكرات زيارته لمدينة القيروان).
السياق البصري تحليق وانزياح وجنوح. فهو لا يقف عند تخوم التجربة وحدودها. تراه لا يكتفي بذاته. دائم الترحال في ملكوتي اللون والشكل كمسافر زاده الحس المغامر والتعبير الفياض في خضم رحلة البحث عن مفاوز مغايرة للإبداع الذاتي.
يعيش عبد الهادي مريد ويرسم على إيقاعين: إيقاع العين الخيميائية التي سبرت أغوار التجريد اللوني الغنائي، وإيقاع الذاكرة بكل أحلامها المرئية واللامرئية. تفوق في نسج تآلف المتنافر، فاتحا التصور الجمالي على مجاهيل الحقيقة والوجود، جاعلا من المتلقي شريكا في ارتياد مغامرة المسالك الغابوية للفكر بتعبير هايدغر التي نجهل مآلها.
يشكل الميسم الأصلي لهذه التجربة نسغها وعنفوانها، ففي ضوئها نعيش دهشة الأسئلة دون الاكتراث بالأجوبة. إنها بلا ريب أسئلة أفق مغاير تتطلع إليه رموز الحساسية الجديدة. هكذا أبدعت مخيلة عبد الهادي مريد كائنات لونية مجردة من هويتها الشبحية. كائنات قريبة من الحياة بقدر ما هي قريبة من الوجود لا العدم. كائنات على خلاف نظيراتها قادرة على رؤية العالم من خلال الألوان. لا تعكس واقعا تسجيليا، بل تحكي استيهاما مخياليا، وتقدم تمثلا رؤيويا لعالم هيولاني وبوليفوني يعز عن الوصف والتأويل.
اللون لباسُ الأثر
سبق أن أبرزت في نص تقديمي سابق أن التشكيلي عبد الهادي مريد يختبر مشاعره من خلال اشتغاله على حوارية اللمسة واللون بصيغ ذاتية، أصيلة لا تستجيب إلاَّ للمواجيد والأحاسيس الداخلية. إنه نوع من التعبير الخالص عن التوليف بين الموجات اللونية داخل تراكيب وتكوينات موسومة بألوان متوهجة تحتل مساحات معيَّنة داخل فضاء اللوحة، مقابل أخرى خافتة ومنطفئة، لكنَّها حرَّة غير خاضعة لسُلطة اللون والسند. وأضفت في النص ذاته بأن اللوحات التي أبدعها في تجربة فنية سابقة، تخبرنا بأنه يبحث عن المتقاطع بين الصورة والتصوُّر، بين اللون وطراوته بواسطة لغة إشارية Indicielle ترسم المعنى قبل أن ترسله نحو اتجاهات مفتوحة ممتدة لصمت الفنان ولهدوئه الذي يكسره بابتسامات آسرة تعكس خجله ورهافة حسّه.
والآن، وبعد مرور ست سنوات على تلك التجربة، مضى الفنان مواصلاً اشتغاله في صمت، ودون ضجيج أو لفت الانتباه لدرجة يُخَيَّلُ للمرء بأنه اختفى وتوارى عن الأنظار، لكنه سرعان ما يكون بيننا في الموعد ممتلئاً بالحماس والإرادة والمتعة في العطاء والإنتاج، ففي كلِّ مرَّة أزوره في المرسم أجده يتأمَّل لوحاته بنظراته الخاصة باحثاً عن الأسرار التي تلفُّها في الشكل والمحتوى والأسلوب. أحياناً يرسم مسارات اللون، وأحياناً أخرى يترك الأصباغ تتمازج تلقائيّاً مع السند، وفي الحالتين معاً تبرز من عمقها أطياف لونية تتراقص على إيقاع رغبة الفنان ومقاصده.
وخلال جلسة رمضانية، كشف الفنان عن ولعه بالفن الصوفي وبرقصة المولوية لشاعر الفرس الكبير جلال الدين الرُّومي. هذه الرقصة التي يؤدِّيها الدراويش على نطاق طقوسي واسع، أمست مركز اهتمامه صباغيّاً، لكن بتجريدات لونية إيحائية ورامزة تذوب في أصولها الأولى، لتتفجَّر من عمقها آثار متنوِّعة تغطي مساحة السند، مع وجود فراغات يتركها الفنان لخلق التوازن البصري الممكن. فليس الفراغ في لوحاته، الجديدة كما القديمة، سوى معادل للامتلاء.. الفراغ الذي يتمُّ شغله بإشارات تصويرية تظهر العلاقة الملتبسة بين المرئي واللامرئي، الكائن والعابر، الشكل واللاشكل.. إلى غير ذلك من الثنائيات التي تشكل رؤية الفنان.. فكيف يرسم هذه الفراغات؟ ومن أين يأتي بألوانه؟ من أين يغترفها؟ وما الذي ينوي صنعه بواسطتها؟
في العديد من المرَّات، يبدو أن مريد لا يختار ألوانه صدفة، بل إنه يربط استخدامها وفقاً لنظرته التعبيرية والجمالية التي ترسم السمات العامة لاشتغاله الصباغي القائم على التجريد واللاشكل، الذي يفتح مساحات بصرية متنوعة ينصهر فيها اللون والأثر ويلبس الأول الثاني ويمسي كساءً له.. ويذوب الثاني في لجَّة الأول على نحو مندمج ومنسجم.
اللون/الأثر هو لعبة الفنان ورهانه الفني، الذي يحقق بواسطته توازنه مع ذاته ومع العالم، يشتغل عليه باحثاً عن انتشاره وامتداداته على السند دون كلل، تيمُّناً بقول الفنان فاسيلي كاندينسكي: «الألوان هي القوة الوحيدة التي يمكنها التأثير مباشرة في الروح». إنه، بهذا الأسلوب التجريدي العلائقي، يربط لوحاته بما يُمليه عليه ذهنه.. اللون والأثر هما أساس لوحاته.. ألوان مبتهجة تعيش اللحظة.. وآثار تحيا داخل آثار أخرى تنبعث مع كلِّ لوحة جديدة.
ناقدان تشكيليان من المغرب