بعد تأخر كبير، أتيحت لي أخيرا فرصة قراءة رواية "أولاد حارتنا"، هذه الرواية الملحمية التي أسالت الكثير من المداد، ومن الدماء أيضا، للروائي المصري والعالمي الفائز بجائزة نوبل للآداب، الكاتب نجيب محفوظ.***
بداية لا بد من التأكيد على التصوير المحكم والرائع لنجيب محفوظ كعادته لأجواء هذه الرواية الصادرة بداية الستينيات، كأنما تشاهد أحد أفلام "الفتوات".. بل، كاد يجسد جزءا مهما من أحداثها بعد ذلك وحرفيا في فيلم "الجوع" (من إخراج علي بدر خان، عن سيناريو للكاتب، عن رواية أخرى).
وفي جانب آخر من مضمونها المفترض تحاكي الرواية، كذلك جزءا مهما من التاريخ، سيتناوله بعدها وقائع فيلم "الرسالة" (للمخرج العالمي مصطفى العقاد) والتي أثثت ذاكرتنا بمشاهد وأحداث مرئية وسلسة وتكاد تكون حقيقية ومسالمة في نهاية المطاف، تختزلها ذاكرة الجماهير الشعبية، قبل صعود ظاهرة التقتيل الجديدة، التي تعرف بعض الضمور حاليا، وذهب ضحيتها –أيضا- هذا المخرج المتميز في عملية تفجير طالت الفندق الذي كان يقيم فيه!..
***
إيمان وتدين نجيب محفوظ وعلاقته بالرواية لا يمكن مناقشته هنا، كما أنه قد حسم أمره بنفسه، وليس موضوعنا، ولا يحق لنا ذلك.
***
تتناول الرواية في جوهرها، خصوصا في ختامها، ثنائية العلم والدين عند تأويل مضمونها، ومن خلالها محاولة دراسة إمكانية تلازمهما أو توازيهما والاستفادة من تراكم محاولات إسعاد البشرية، التي ظلت تكتسي ملحاحيه كبرى في مراحل معينة من تاريخ البشرية ولا تزال.
***
أما بخصوص تحويل الكاتب لمركز تعاقب الديانات الشرقية المومأ إليها ضمنا حد الوضوح المفرط في الرواية إلى بلده مصر (من آسيا إلى إفريقيا) يفضي إلى أن لكل ارتباطه ببلده ودرجة استشعار معتقداته فيه تكون أقوى، كأنها موجهة إليه ولأهله مباشرة..
***
نجيب محفوظ الروائي الذي يصور بالكلمات وينقش المشاهد بالفقرات والصفحات، أبدع كذلك جماليا في رواية "أولاد حارتنا"، ووجد نفسه أمام عاصفة من الهجوم بلغت حد الشروع في ذبحه!
ربما لو أعيدت الفرصة له لكتابة هذه الرواية، من خلال حجم الاعتذار المبطن والتأويل العصي الذي قام به للأحداث والشخصيات والاحتمالات الناتجة عن الرموز التي حفلت بها الرواية، ربما لن يكتبها أو على الأقل لن ينشرها إن ضاق بها صدره وكتبت..
***
لا يمكن لأحد أن يتجاوز تحت مبرر معين إحالة بعض أجزاء الرواية على أحداث وتاريخ حرفي تقريبا لما تناولته الكتب والسير والأحاديث والأفلام والمسلسلات التاريخية، كأنه استعادة حرفية، حتى وإن تم اللجوء لعدم الدقة في تناول الوقائع إلا أنها تمثل الزخم المتأصل في الذاكرة الجمعية. غير أنها حرصت على التفاعل الإيجابي مع الوقائع والشخوص المخولين لرفع الظلم عن سكان الحارة/ البشرية في كل مرحلة معينة من مراحل التاريخ التي غاصت فيها الرواية، باحترام كبير وتعاطف تام.
***
قراءة بسيطة لهذه الرواية توضح أنها استطاعت إحداث نوع من الرجة والتفاعل والقبول والرفض وأحدثت ضجة كبرى، في فترة وظروف صدورها -لم يعد لها نفس الوقع تقريبا الآن- وكادت تودي بحياة صاحبها، علما أن منفذ محاولة اغتياله ومجموعته والذين أعدم بعضهم إثر ذلك وقضى آخرون منهم عقوبات حبسية لعدة سنوات، اعتذر خلالها بعضهم للكاتب وقبل اعتذارهم، على ما قاموا به اتجاهه، رغم عدم قراءتهم للرواية ومؤلفات الكاتب.
***
إن رواية "أولاد حارتنا" تنهل من زخم المقدس لتعيد التذكير بدور الأديان في النهوض بالعدل والمساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية في طفرات شهدتها حقب متواترة من التاريخ الإنساني العام، وحملت الأمل في إنصاف المظلومين، ورفعت من قيمة الهبات الاجتماعية المبنية على الأفكار الخلاقة التي تدفع بأصحابها إلى حمل أعباء تحقيق أهداف تستحق التضحية من أجل سعادة الناس (البسطاء) عموما !
***
كما نبهت الرواية إلى إشكالية أن يتحول العلم والأفكار النبيلة (أي معتقد) إلى رهينة في يد التسلط وأعداء الإنسان، كما عرجت على ما يمكن وصفه باعتبار العلم -بشكل ما- أحد أحفاد الدين!
كما ظلت صورة "الجبلاوي" الأب/ الجد الأكبر في هذا النص الملحمي حاضرة وغائبة ومبهمة إذ حملتها الرواية سرمديا، إلى أن قرر الكاتب موته في عملية سطو طارئة، سطعت إثرها عدة أسئلة آنية (زمن القراءة) تبحث عن إجابات لها، مع استمرار وجوده في الذاكرة الجماعية لأهله، ورمزيا من خلال تمازج قيمه العادلة بالعلم (المرموز له ب "السحر" في الرواية) وامتداد السعي لتحقيق مبتغاه، المتجلي في رضاه، وطموح وجوهر الإنسان نفسه!