رام الله ـ «القدس العربي»: طاقة كبيرة في جمع القصص وسردها لدى الأسير المحرر والكاتب والروائي الفلسطيني محمد البيروتي، تظهرها روايته الجديدة «مليحة» )2022) التي تمتد على زمن يتجاوز 25 عاما، يمكن أن نقول إن جانبا رئيسيا منها حكاية الكاتب ذاته، في حدود ما عاش من تجارب أو ما سمع من حكايا وقصص موثقة.
فالرواية الطويلة نسبيا (327 صفحة) من القطع المتوسط الصادرة عن «دار الرعاة» في مدينة رام الله، تقارب مجموعة كبيرة من الأمكنة والجغرافيات التي عاش فيها الفلسطيني أو أجبر على العيش فيها، أو هجّر إليها، وفي هذه الجغرافيات نراه ككاتب ملتزم قادم من السجون والمخيمات وقواعد التدريب، ينحاز للقضايا والإنسان الفلسطيني، وهذا الأخير أي الفلسطيني هو أبرز تجلياتها، سواء أكان فلسطينيا ولد وعاش في قرية «صميل» جنوب الخليل، أو فلسطينيا لاجئا عاش في مخيم الوحدات في الأردن، أو أسيرا قضى جانبا من سنوات حياته في سجن بئر السبع، أو مناضلا في قواعد ومعسكرات التدريب في الأردن ولبنان وسوريا.
و«مليحة» الرواية التي نبدأ الإيغال في صفحاتها عبر لوحة فنية رسمها الكاتب في فترة التسعينيات لامرأة هي في الحقيقة أمه (رضا) لكنه وضعها على رواية تتحدث وتنتصر لجدته «مليحة» بصفتها شخصية استثنائية للكاتب وللرواية، بفضل ما تجسده شخصيتها من تناقضات وهو في ضوء ذلك يقيم معها حوارا مباشرا وحادا وطويلا، بصفتها نموذجا للمرأة الفلسطينية التي نراها ونعيش معها في كل منزل وحي وقرية ومدينة فلسطينية.
أما الجلوس مع الروائي محمد البيروتي والحديث معه فهو فعل يشبه قراءة الرواية، حيث تتثبت الفكرة التي يكونها القارئ عن الكاتب، فهو متحدث ذو طاقة هائلة وقدرة على الاستطراد والتنقل بين القصص والأزمنة الفلسطينية التي عاشها، حيث يفيض متذكرا تفاصيلها لتكون بمثابة سيرة للشعب الفلسطيني، وهو يفعل ذلك أي يقتنص الجانب البطولي في القصص والأزمنة، حتى في لحظات الضعف والخذلان والاستسلام واللجوء والوداع.
ففي روايته «مليحة» (المتداخلة أدبيا بين أجناس السيرة الذاتية والتوثيق التاريخي والرواية) لا يجد المتابع فرقا بين الرواية ومن تتحدث عنه وتاريخ مؤلفها، وكذلك بين حديثه عنها، فالحديث عن الرواية وأبطالها يتحول إلى حديث عن الكاتب ليس بصفته مركزا للأحداث والأشخاص، إنما بصفته جامع الذكريات، وحاصد القصص والحكايا من أصحابها الذين ماتوا أو ما زالوا على قيد الحياة.
يؤكد الكاتب أن الرواية 100% حقيقة، ويشدد «وبكل تفاصيلها». هذه الحقيقة التي تتحول على لسان الراوي الذي يسرد بعذوبة ووعي وخبرة، تتحول إلى حالة من الامتدادات اللانهائية لحياته وما عاش بصفته فلسطينيا جاور فلسطينيين وعاش معهم، وشهد مستويات كبيرة من التجلي والحماس والإيمان، تقابلها لحظات من الشك والخوف والتفكير والتأمل، والكاتب ذاته لا يحاول إخفاء ذلك، إنه يزيل الخيط الذي يحاول كثير من الكتاب المحافظة عليه، ذلك الخيط الذي يضعه الكُتاب، عادة، ليكون فاصلا بينهم وبين مؤلفهم، بين الشخصيات الروائية وشخصية الكاتب وحياته، بين السارد أو الراوي والشخصيات التي يكتب عنها ويحركها كما يشاء ووفق رؤيته في تقديم ما يراه ويصفه البيروتي بإنها «الحقيقة الكاملة والصافية».
يستشهد الكاتب في حديثه عن «مليحة» بقصة حدثت معه تتعلق بكتابه «الشمس تولد من الجبل» حيث دعته دكتورة أمريكية من أصل يهودي للقاء بحثي، وعندما لبى دعوتها وجدها تفرد أمامه كل المؤلفات التي تتحدث عن الأسرى، بما فيها مؤلفاته الثلاثة، وقالت له إن كل ما كتبه في مؤلفاته تصدقه، رغم مقدار الألم والوحشية والبطولة فيها، لكن حادثة واحدة لا تصدقها. فرد عليها أنه في حال ثبت أن هناك حادثة واحدة في كتابه غير صحيحة فهذا يعني أن كل ما فيه غير صحيح. ودخل معها في تحدي المصداقية والحقيقة.
أخبرته الأكاديمية التي تتقن العربية، أن الرواية تضمنت حادثة اعتداء همجي نفذه السجانون الإسرائيليون على أحد موظفي الصليب الأحمر الدولي الفيتنامي الأصل (عام 1969) لكونه غضب من مدير السجن في سجن عسقلان، لفرط تعامله المتوحش مع الأسرى الفلسطينيين، ومدى الانسحاق والمعاناة التي يعيش في ظلها أسرى المؤبدات، دفعه للدخول عليه وتوبيخه والتعارك معه. وأكدت الأكاديمية اليهودية أنها ذهبت لسجلات الصليب الأحمر، ولم تجد توثيقا لما جرى للموظف الفيتنامي. ما كان من البيروتي إلا أن رد عليها بثقة، أنه لا يشك أبدا في ما رواه السجناء الفلسطينيون الذين كانوا شهداء على هذه الحادثة، وأخبرها الكثير عن دلائل تؤشر لقدرة إسرائيل وممارساتها غير القانونية عالميا، وأن هذه مؤشرات تدلل على حتمية أن الحادثة حذفت من السجلات الرسمية، ومع ذلك قرر أن يعيد التأكد من مصادره من الأسرى الذين كانوا في السجن وقت وقوع الحادثة، وأرسل لها ما يثبت ذلك عبر شهادات صوتية تؤكد ما ذكر في روايته.
وبثقة وإعجاب يسرد البيروتي هذه الحادثة التي تدلل على مقدار المصداقية في ما يكتب، وأن الرواية هي رسالة صدق وتجربة ومعاناة وتاريخ للشعب الفلسطيني. وهو بالضرورة يعتبر ذلك ميزة لصالح العمل والقضية الفلسطينية التي يؤمن بها، وما زال في تلك الطزاجة نفسها التي عاشها في شبابه، حيث لحظات الإيمان الوطني كانت في أعلى مستوياتها، ومع إصراره على طريقته في الكتابة والتعامل مع الأدب يؤكد أن أكبر التحديات التي يواجهها الفلسطيني هي في كيفية تقديمه قصته وحكايته ضمن إطار فني وشكل أدبي يحمل قيمة فنية عالية قادرة على حمل معاناة الفلسطينيين، وهو الأمر الذي يراه المؤلف بالواجب وتعبيرا عن حالة إخلاص الكاتب للضحايا والمعذبين والمظلومين. ويرى البيروتي أن مئات القصص تحدث دون أن يوجد من يقوم بالتصدي لها والكتابة عنها بطريقة تحولها إلى أعمال أدبية عالمية مثل «بائعة الكبريت» رائعة الشاعر والأديب الدنماركي هانس كريستيان أندرسن.
تسرد «مليحة» (وهي مشروع مرحلة عمرية من حياته احتاج لثلاث سنوات كي يخرج للنور) قصة وسيرة الشعب الفلسطيني، منذ النكبة عبر تأثيثها بقصص أبطال الرواية الحقيقيين والملحميين والشجعان، الذين يواجهون الموت والخذلان.
فالنكبة قلبت حياة الجدة الجميلة «مليحة» مرة واحدة، تلك الجدة التي هامت، أسوة بغيرها، في بقاع الدنيا دون أن تأخذ معها إلا المفتاح و»الكواشين» (أوراق الطابو) ظلت على الأمل بالعودة التي لا تأتي، ورغم كل محاولات الكاتب أو الشخصية الرئيسية للعمل على محاكمة الفلسطينيين على خروجهم من بلادهم عبر طرق سؤال: «لماذا خرجتم من البلاد؟» نجده في النهاية يتسامح ويتصالح مع هذه المسألة، فيقول إنه «أقنع نفسه أن مليحة على حق في هروبها، وهو على خطأ، في ظل أنه ما كان للفلسطيني البسيط الصمود أمام القوى العالمية التي قررت احتلال فلسطين ومنحها لليهود».
مليحة هي حكاية جيل ما بعد النكبة والنكسة، جيل ما بعد هزيمة عام 1967، جيل نشأ على المخاطر وأشكال الموت أينما ذهب وارتحل، في أزقة مخيم الوحدات الذي يحتل مساحة جيدة من جسم الرواية، إلى جبال جرش وعجلون وغور الأردن، إلى لبنان وجنوبه، وسوريا ومخيماتها، وهي الطريق الذي قاد «مراد» (الشخصية التي تقابل «مليحة») إلى سجن بئر السبع، حيث أمضى أجمل سنوات حياته وعاش هناك تجربة ملهمة يطرحها ويجلبها الكاتب اليوم لتكون بمثابة رؤيته للمستقبل، لفلسطين الديمقراطية الموحدة، في المقاومة، والمضي على طريق النضال. فهذا السجن تحوَّل إلى دولة داخل دولة في فترة سجنه فيه.
أما مصدر إيمانه الثاني فهو في المخيم الذي ما زال يؤمن بثوريته وبمركزيته، رغم كم التحولات التي طرأت عليه (مخيم الوحدات في حالة الرواية) ذلك المخيم الذي تركه بعد أحداث أيلول/سبتمبر (1970) في عمان، وعاد إليه في منتصف الثمانينيات، لتعرض الرواية وصفا لكم التحولات الهائل الذي تعرض له، لكن ذلك لا يجعله إلا بؤرة تنتظر الانفجار، يقول: «عدت للمخيم عام 1986 حيث كانت التحولات قد اكتملت، لكن المخيم لم يفقد بؤرته الثورية، ما تغير هو الظروف والأحوال، أما الفلسطيني فهو متمسك بفلسطينيته. الانتماء للمخيم وفلسطين بقي موجودا». وحسب الكاتب عيسى قراقع فإن الكاتب جعل من مليحة الراوي والرواية، والوثيقة والشهادة التي ترد دَينا إلى الأموات الذين ماتوا، وإلى الأحياء الذين لم يدركهم الموت، فهي في النهاية تنقل معرفة وطنية إلى أجيال قادمة، تحتاج إلى ذاكرة وخريطة كي لا تضيع في منتصف الطريق.
ذلك الاستنتاج الأصيل الذي وضع قراقع يده عليه، نابع من قناعات المؤلف نفسه الذي يردد دوما: «ما دام العود موجود اللحم بعود» «وجودنا كاف لهزيمة إسرائيل» «لم نهزم في كل معاركنا مع الاحتلال الإسرائيلي» «الهزيمة أن نرفع أيدينا مستسلمين» كل هذه المقولات تحمل ما يمكننا من فهم الرواية وما تضمنته من حكايا تزرع الوعي وتعيد التذكير بتاريخ عريق وكبير من البطولة والهزائم، على أمل الاستفادة منها والبناء عليها، فالمواجهة مستمرة و»تحرير فلسطين ليس شعارا» فيما الفلسطينيون يستندون في مشوار نضالهم على قناعة دينية بحتمية الانتصار، وهذا أولا، أما ثانيا فهي «التناحة» أو «الجكر» حسب البيروتي، وهذه أمور تحتاج إلى الذاكرة الجمعية للبناء عليها.
بقي أن نقول إن الكاتب والروائي والأسير المحرر محمد البيروتي من قرية تُدْعَى صُميل جنوب الخليل، حيث هجر منها في 1948، واعتقل في 1974 وحكم بمؤبدين وعشرة أعوام، قضى منها أحد عشر عاماً وخرج في صفقة تبادل للأسرى 1985، وأنه عمِلَ في الدفاع المدني وفي التعبئة والتنظيم والأمن الوطني، وصدرت له حتى اللحظة أربعة مؤلفات: «نصب تذكاري 1 و2» (مشترك مع حافظ أبو عبابة) وفي كل جزء يتحدث عما يقرب من 50 من الشخصيات التي ينحاز إليها المؤلف ساردا مآثرها في مرحلة الثورة الفلسطينية، أما رواية «الشمس تولد من الجبل» فهي حكاية عريف في جيش التحرير الفلسطيني، فيما كتاب «رجالات الصف الرابع» (مجموعة مقالات) وفيه يقدم مقارنة بين أنماط تفكير القيادة الفلسطينية في فترة القيادي هاني الحسن ما بين عامي 2002 ـ 2009 وفيها تقييم لطريقة التفكير والنهج ما قبل رحيل أبو عمار وما بعد رحيله.