توقفت السيارات الموشومة وانفتحت الابواب الاربعة، تفرقت الجموع الغفيرة واتسعت الدائرة، الشريط الاصفر يرسم حدود الممنوع، كل محقق يتعقب الحجج والادلة بحثا عن انتصار بالنبش في ثآليل الجريمة، بوليستي يسافر فوق السحنات يغرق في تفاصيل الموت، لا يرى سوى بضعة سنون توقفت عن النمو والحلم، لن تمارس حرية العشق وطقوس الحياة الصعبة في فطرة لذيذة، ولا الرقص في الافراح والبكاء في الاتراح، يلتقط رسائل مبهمة العناوين من مسرح الجريمة، كل شيئ يميل نحو ليلة عابثة عبرها الخراب والهلوسات والجنون، كاميرا تحنط كومات اللحم الباردة المنسية بدون حنجرة، تغرق في السكون الابدي، ثلاث جثث شبه عارية مرمية على عجل، فتاتين وشاب في ريعان الشباب، يوجه العدسة الى الوجه والعيون الجاحظة، عصافير الدوري تطلق الزقزقات من فوق اشجار الزيتون، اختلس نظرة عابرة للمسافات فاحصة منقبة،لا دخان يتصاعد في السماء، ينشر علامات الاستفهام على حبال صمت المقبرة المترامية الاطراف، يقتفي بريق الباحث عن ثغرة تفك طلسم الجريمة المركبة، يمتطى بوصلة التخمينات وابتلعته الاجوبة المقتحمة عن حراس الرعب الذين يسكنون الظلمات،فوق السطوح عشرات العيون تتابع الجمهرة بشغف، جرائم القتل ترسل القشعريرات في النفوس، لا شيء يبتسم على ربوات التمحيص في يوم مفعم بالخطوات المتعثرة، المحققة هنفاء تسابق الزمن لتحقيق نصر صغير كما العادة، المهمة المستعصية تسير ببطيء شديد،تنغرز النظرات الحيرى في اللحم البارد، ثمة فجوات ملغزة على مسرح متآكل في ذاكرة مكتظة بصور الدم والدود والصديد، قط يموء غير بعيد، ينط برشاقة فوق الرموس المخربة،تساوى بعضها مع الارض بفعل الدوس والامطار والاهمال، قبور اخرى غطتها الحشائش والازبال والنفايات البشرية، جراء تطارد امهم يلتصقون بالحلمات العجفاء والضامرة، تحبو على الركب تلتقط تجاعيد الحماس،هزيز ريح يشاكس خصلات الشعر المتمردة على المحيا المنقبض، ريح ليلة الامس عصفت بأوتاد الاثار، افكار كثيرة تزدحم في المخيلات، جل المحققين يتأبطون السنة مفجوعة، رفش وفأس ممدان فوق التراب تركا هناك، يحشران في كيس و يحملان بحذر شديد الى سيارة الشرطة، لفت انتباه المحققة هنفاء ان الفأس يجذب اسراب الذباب، حين امعنت النظر رمقت بقايا دماء في الرأس الحديدي الذي يشبه رمحا، الفأس اذاة الجريمة البشعة، القاتل جاء لدفن القتلى في حفرة واحدة، المقبرة بركة الأمان مخزن الاسرار،من سيقوم بنبش قبر حديث، عدل عن الفكرة واستقل السيارة مسرعا وغاص في الظلمة، شاهده راجل مر بالصدفة، باغتته اضواء سيارة، صراخ قريب ارتبك وغاص في الظلمة، الاشارات شحيحة تنعجن في تجاويف الموت وتسقط في غياهب المجهول، بالقفازات البيضاء ترفع خيوط مذهبة ملتصقة بما تبقى من حاملات النهود وبضعة شعيرات، تضع المتحصل في كيس ابيض شفاف، حركت جثث الفتيات ورأت ثقوب غائرة في الظهر، عظام العمود الفقري مهشمة، انقبض القلب وشعرت بالدوار ورغبة اكيدة في التقيؤ، القاتل او القتلة استبدت بهم لحظة جنون، خططوا للجريمة أثناء استهلاك الممنوعات، راودتهم الفكرة حين سافروا الى العوالم الفيروزية بفعل المخدرات الصلبة، خصام عادي تحول الى مشادة كلامية ثم جاء الطوفان خاليا من الحنو الملائكي،دبت عواصف جنون في الشرايين، كتم الغيظ وفي جنح الظلام اشفى الغليل بإزهاق الارواح، اعين كثيرة يتبادلون الادوار خلف كواليس الشريط الاصفر، الثقوب أحدثت بآلة حادة كسرت العظام ومزقت القفص الصدري، ثقوب صغيرة في المرافق تجيب عن طبيعة القتلى، المتعاطي للمخدرات الصلبة يحمل هذه الوخزات التي تسود مع الايام وتترك ندوبا، نفس الثقوب على جثة الشاب، جماهير غفيرة تتقاطر على المقبرة التي امتلأت عن اخرها بالقبور المنسية، اكياس سوداء تملا الجنبات التي تحولت الى مراحيض للتبول والتبرز، السكارى يستهويهم هدوء المقبرة التي لم يبق من مساحة للدفن سوى بضعة امتار لتغلق او يعاد الدفن فوق القبور القدامى، المساحات الفارغة شيدت عليها العمارات والتجمعات السكانية، عمليات الدفن مستقبلا في المدينة ستكون صعبة، اعناق تشرئب، همهمات، همسات، حوارات مقتضبة، الفرجة المجانية مضمونة، رائحة القرف تنبعث من الاجساد التي اسلمت الروح في طابور انتظار الموت المباغت، اوشام تطفو على اذرع وسيقان الفتاتين، وشوم مخلوقات غريبة، طلاء أظافر بالوان قوس قزح زخرفة في صالون التجميل، الانسان يعاني من عقدة الاخر ليثبت وجوده وذاته ويرضي الاخرين، يلاحق التقليعات، الاوشام موضة العصر، رسوم وجوه فرحة ومشوهة، تفاهات لا تحرس العمر من التلاشي، ولا التقاط الزمن الهارب، الاجساد المنسية استأصلت الحياة منهم في لحظات سهو، لا اوراق هوية،لا دليل قوي يقود الى محلات السكن، بوليستي ساهم يحتضن أزرار الاسئلة الشقية الجاثمة على القلب، يلقي نظرات متفحصة بحثا عن جواب يشفي الغليل، خمن ان الجريمة ارتكبت في مكان اخر، الدم متخثر على جنبات الجروح، التراب العالق على الملابس مختلف عن تراب المقبرة، عيناه تصطدم بالخيبات كعيني بريئ مساق الى المقصلة يراقب عقارب الساعة، ينتظر ملاك الرحمة ليخلصه من موت يتربص به، الادلة شحيحة، لاحق اثار عجلات سيارة في شكل دائري، افرغت الحمولة في رحلة السكون الليلي،بضع اثار لحذاء ذي مقاس صغير، يمتد من مكان السائق الى مؤخرة السيارة، القتلى حملوا في صندوق المركبة، القاتل او القتلة التهموا مشيمة القتلى واختفوا في جنح الظلام، المدينة الرازحة فوق الملاهي الليلية والمخدرات تنتج الجريمة،غربان الليل تمشط الشوارع بحثا عن فريسة سهلة، تزف كل مرة بشرى سفك الدماء،من يتمنطق بالسلاح الابيض يمشي بخطى ثابتة نحو الانحراف بالغوص اللذيذ في رحاب القسوة، الانسان العربي يتعايش مع العنف قبل انبلاج الحرف، ذي طبيعة حربائية لا يلبث على موقف محدد،يلبس لكل مقام وجها مغايرا، يصحو على التعبد والتقرب من الله يطلب العفو والمغفرة والحشر مع الصديقين والشهداء، في الليل ينام على اللذة بلا اسوار ولا فرامل ولا ربطات العنق.
دفعت الجثث في الاكياس السوداء،حملت في سيارة اسعاف، الله يمشي في جنبهم الى رحلة اللاعودة، حارس المقبرة لم يقدم اية مساعدة، لم يكن حاضرا طوال الليل، حضر حفل عقيقة لاحد الاقرباء، امروه بالقدوم الى المخفر لتقديم المزيد من التوضيحات، ظل متسمرا مرعوبا، الخوف يمشط الاشلاء يمزق السكون الداخلي،قطرات العرق تتلألأ فوق الجبين، يجيب باقتضاب على الاسئلة الوقحة، المقبرة تمتد على عشرات الهكتارات بدون ابواب، كلها مداخل ومخارج، مرة وجد نسوة ينبشن قبرا، لشابة دفنت صباحا، شاهدهن منهمكات في سحب ادوات الطبخ، مجمر محشو بالفحم وقصعة ودقيق لأعداد وجبة كسكس بأيدي الشابة الميتة، المقابر تستقطب الدجالين والمشعوذين، القشعريرات تجتاح المفاصل والشرايين، بهدوء انسحب واتصل بالشرطة، عشرات المرات يجد مهووسات يعلقن احجبة وكتابات مطلسمة في الاشجار لتحقيق الاماني والرغبات المستعصية، اغلقت المفكرات وتدافع المحققون نحو السيارات بملامح عبوسة.
– هؤلاء قتلوا في سكن خارج المدينة فلا وجود لقطرة دم على الارض
– اظن ذلك..
– قتلوا اثناء النوم بالفاس او الة حادة
– ممكن
نهود الحسناوات تئن من لهاث الانكماش تحت مسطرة المصابيح، الطبيب الشرعي ينقب عن اثار للضرب او الخنق،لا اغتصاب،لا وجود للسائل المنوي في مستودعات الاسرار، الدماء بها كميات عالية من الكحول والمخدرات الصلبة،جرعات الانتشاء حلقت بهم نحو السحاب،سافرت بهم عبر الزمان الى المدن الفاضلة وجزر الواقواق، رفع من الثقوب العميقة في الظهور بقايا الصدأ،اكثر ما يثير الانتباه الاوشام الغريبة على اجساد الفتاتين، راقصة عارية تحترق في نار مستعرة، فراشة بالوان براقة، ثعبان يزحف نحو الاماكن التي لا تراها الشمس، قلوب ممزقة، ظاهرة الاوشام اصبحت تقليعة العصر، من لا وشم له لا قيمة له ويعتبر من بقايا الامس السحيق.
الجرائد الوطنية خالية من صور القتلى،لا اعلانات عن الاختفاء، لا تبليغ عن الاختفاء في ظروف غامضة ولا لغو حول لازمة خرج ولم يعد، لا جديد على متن قطار تعقب المجرمين، صور القتلى ترقص في المخيلة فوق حوافر الضغط وتكبر جحافل التنهيدات، المسؤول يتعجل الحلول، الكلمات القبيحة تسيل من ربطات العنق جمرات تقتحم الاشلاء، تستصغر المجهودات والنبش في مئات القضايا بحثا عن خيط تشابه، الجواب الدقيق يتلفع بالصمت يغوص في قبضة مناجل الفشل المتربصة، يستعرض صور القتلى الواحدة تلو الاخرى، يتعقب خطوات الرعب في المشهد الاخير، كل الصور تؤدي قهرا إلى فجوات التيه،لا جواب تحت إبط الادلة، الثقوب على الظهر تكشف عن غضب المجرم الشديد، وجود الفأس والرفش في مسرح الجريمة يؤكد ان القتل ارتكب خارج المدينة في قرية او سكن ريفي، عرض الاوشام على مختصين، طاف على اكثر من دكان للوشم، الاغلبية انكرت صلتها بالاوشام، استعان بالمخبرين واعوان السلطة بحثا عن الهويات، طافت الصور الثلاث على المدينة وخارجها، مروا طيلة اسبوع بين أدغال كلمات التفتيش والتمحيص، الهويات ممهورة بعناوين ممزقة، القتلى غرباء عن المدينة والنواحي، استدعى بوليستي بعض مراسلي الجرائد الوطنية، افرش امام العيون ملفا عن القتلى وصورا التقطت في مسرح الجريمة،لم يتعدى السرد ما هو تقني، ينضح وجه هنفاء المنقبض بغبار الهزائم، بحاجة الى دليل يحلق بالعيون نحو خدود الشمس، بوليستي اشبه بناسك في محراب التعبد، يسحب عشرات الملفات من خزينة مهترئة، يعيد قراءة جرائم فوق اوراق بكماء، مزدحمة بكل الذين زلت اقدامهم في لحظات غضب شديد، يسمع صوته المدفون تحت طقطقات لوحة المفاتيح، الطابعة تقيئ عصارة الابحاث التفصيلية، الاسئلة المقتحمة تهاجم المجرم المكبل اليدين، الارتجال والمراوغة لا تفيد في شيئ، ينكمش المتهم تحت إبط الخوف من الجلد والضرب المبرح والصعق بالكهرباء، المجرمون يكذبون دائما ويقدمون روايات متناقضة، الكذب تاج الضعفاء في مواجهة القوة الغاشمة، يعترف بذبح زميله من الوريد الى الوريد، اختلفا على قطعة حشيش من النوع الجيد، ارتفعت كلمات السب والقذف، تبادلا الضرب والجرح، سحب الغريم سكينا من الحجم الكبير، سدد ضربة الى العنق، انبجس صنبور من الدم، خر الجريح راكعا، دقائق معدودة و غاص في غيبوبة، فر من مكان الحادث، القى بالسكين في بالوعة للصرف الصحي، لوحة المفاتيح ترفع اذان الاتهام، وسجل قاتلا بذنب و فساد في الارض في سجلات الافاكين، يغرس نظراته في الفراغ ليلتقط تجاعيد الضياع، تأكله الحسرات و يطحنه الندم، الوجه المجدور مخضب بحمى الهزيمة، خيوط الشمس المتسربة من الشباك تقيس خاصرة التيه، وقع على كمشة اوراق تنهد بعمق وسقط في صمت الصحاري، التوقيع يلتهم الفتوة والرجولة،انهار عالمه الواسع والشقي في لحظة تهور، يستودع في سكون مفاتن الحرية اللذيذة، في عالم اللاشيء ينجرف، اندفعت في الجمجمة اسماء بدون ملامح،مجرد طيف عابر سيزف بعد حين الى الزنزانة عريسا مضرجا بدماء الغدر.
الساعة تخترق الرابعة بعد العصر، الهاتف لا يكف عن الرنين، طقطقات لوحة المفاتيح تاتي عابسة من المكاتب القريبة الاكثر وحشة، الخوف والرعب يسكن في كل شبر، في الوطن العربي المخافر اشبه بالمجازر، لانتزاع الاعترافات يستعملون اقبح الوسائل، عشرات الابرياء يرسلون الى قعر مظلمة بدون ادلة سوى اعترافات تحت التعذيب، ابرياء دخلوا وخرجوا جثثا،اخرون خرجوا يحلمون العاهات وبدون بوصلة.
هنفاء منهمكة في تقليب اوراق رثة، مكدسة على رفوف السنوات الماضية،عبر الاثير يأتي صوت سيدة طاعنة في الحزن، تسمع الشهقات والنهنهات، ترسل بصيص ضوء من العدم ليلامس اجسادا جفت منها منابع البهجة ولاحت في المكاتب والممرات الانكسارات المتراكمة، العيون الحقودة تترصد الانزلاق نحو التلاشي، لا جدوى من النظر في المرآة المتشققة، الكلمات المقتحمة قطعة ثلج في الحوباء تورق اغصان الامل بألوان الفجر،رفعت راسا مشحونا بالعزيمة والاصرار.
– نعم كنسمعك سيدتي
– بنتي ماتت....شفت صورتها في الجريدة.
– انا لله وانا اليه راجعون.
دبت الدموع في شرايين الجمل المتقطعة، تتساقط آنات الوجع على دفعات، مشاعر الفقد لا تسقط بالموت ولا بالتقادم، تزداد رسوخا وتجدرا في المخيلات،تصبح اقرب الى التأنيب اليومي للضمير حين تحاصر الذكرى وتركض الدماء في العروق،تعيد شريط الفقيدة تشاهدها تحبو، تقف، تنمو الاسنان، تسهر الليالي حين تداهمها الحمى، تأخذها فرحة الى اول ايام المدرسة،تقضي ساعات امام الباب تثرثر مع النسوة، الزقاق لم يعد امنا في الزمن العجيف، يسرق في لحظات غفوة لذة العناق، تتعثر المحققة هنفاء في حفر الاسئلة الخرساء، وتصاب بكساح الفهم الضيق، القلم يسجل العنوان والاسم والنسب، الاهات على طرف كل لسان مفجوع.
اول خيط رفيع يقود الى فك شيفرة الجريمة المركبة،السيارة الموشومة تنهب الطريق، في يوم مثقل بالأسئلة الملغزة، المعلقة على حبال التخمينات الفجة المبعثرة على مكاتب البحث في مخافر مشهود لها بالحقد والعداء لكل مجتهد ومثابر، السماء حبلى بالغيوم المكتنزة الارداف، الريح تصفر تصفع الزجاج، الطريق شديد التعرجات والحفر، اغلب حكام الاوطان العربية وباقي الحكومات يستثمرون في الليالي الملاح ويوزعون اموال الشعوب على الراقصات ويوشحون التفاهة بدل الاستثمار في البنيات التحتية، طرقات، مستشفيات، كهرباء ماء شروب.
المحققة هنفاء متكئة على وسادة حلم متأرجح الانفعالات، تأخذها آلهة التيه إلى استنتاجات مجهولة الهوية،بوليستي يقود بحذر شديد، يرتب الافكار في المخيلة، عشرون عاما يتعقب القتلة والسفاحين والمغتصبين، عشرون عاما يسجل الاعترافات بالألة الكاتبة ثم استفاد من ثورة المعلوميات وجهزوا المخافر بالحواسيب والآلات الطابعة، لوحة المفاتيح اسهل استعمالا والحاسوب يخزن المعلومات بدقة متناهية، رائحة الدم والاستغاثات مدفونة في الظهر، يحصي في سكون الليل زفرات التوسل والانكار،لا أغنية هناك في القبو سوى الصراخ والدموع، الملتحي الغليظ والمستكرش يجلس القرفصاء، ازرار القميص على وشك الخلع، بين اليدين المكبلة يطقطق حبات السبحة، انكر في البداية جريمة الافتضاض، اللعين استدرج الطفلة القاصر من القسم الى البيت، افتض البكارة وداوم على مضاجعة اللحم الطري، الام اشتبهت في شرود الابنة،انطواء،انزواء طول الوقت والامتناع عن اللعب مع الاتراب، شكت في الامر ضغطت عليها، بكت وحكت كيف جردها الفقيه من تبانها وادخل شيئه في شيئها، احست بالألم وقطرات الدم تسيل، هددها بحفلة ضرب مبرح ان اخبرت احدا، اسرعت الام الى المستشفى، عاينها الطبيب وسطر في الوثيقة الرسمية مدة العجز مؤكدا ان الطفلة فقدت البكارة، دخلت اول مركز شرطة تولول، سردت الواقعة على الاسماع، اشتعلت الحرارة في الهواتف، سقط الملتحي تحت صهيل الخيل والسنابك، الفضيحة تجره من التفاحة الى برك الخزي والعار، الملتحي اصبح شيطانا ملعونا في المخفر.
– واش كتحس بالخجل والحقارة بحال بنادم ولا مات فيك الضمير.... طفلة بريئة خرجتي عليها دمرتي حياتها... اصغر من احفادك.
– انه الشيطان....لبسني الشيطان
-انت الشيطان....
ركله محقق ممتعض واطلق العنان لكلمات السب والشتم، بصق اخر على الملتحي، وقفت شرطية تتفرس جاحظة العيون وما لبثت ان قالت (لو كان الحكم بيدي لانتزعت عضوك التناسلي ودفعته في فمك)، علت القهقهات في المكاتب والممرات، الملتحي يقترب من العقد السابع لحية مخضبة بالحناء، يبدو مثل فار سقط في دلو ماء، ساهم يلتهم الفراغ، ربما يستحضر الاجسام البضة والبريئة التي فحش بها، الطريق التي انتعلها ذات نزوات بشعة تحترق دفعة واحدة، اللسان معقوف بخرقة الجريمة، بعد شهر من الحبس وجدوه معلقا باردا في سقف الزنزانة.
السيارة تنهب الطريق، في مدخل المدينة سأل شرطي مرور عن حي الاندلس، تشتد المسافات في كف الاسئلة، الام مكلومة موشحة بالسواد، كل شيء يسجل تحت خربشات القلم،مكنتهما من صورة المختفية وبجانبها شابة في نفس السن، وظلت تنتحب من روايات مبتورة عن الابنة المنحرفة، عرف بوليستي هويات باقي القتلى، شباب في فترة مراهقة ادمنوا المخدرات والدعارة، جرفتهم احلام متموجة بالانفعالات والربح السهل، اغلقوا في فترة انزلاق نافذة الاحتراس، واخذتهم الهة السقوط الى طريق اللاعودة، في منزل الضحية الثاني والثالث الاباء اغتالتهم النهاية المأساوية لفلذات الكبد، ظلوا يطيلون النظر في الفراغ الدامس،الاب يردد بصوت مبلل العبارات ضاربا كفا بكف (لا الاه الا الله محمد رسول الله....انا لله وانا اليه راجعون)، الام تنتحب من امواج بحر متلاطم الاشواق، الشفاه المزمومة تكلست من الادمان على الصمت، السيارة الموشومة الرابضة في الزقاق تستقطب حشد من المتفرجين، حضور الامن الى منزل اكثر شبهة، الحضور مرتبط بجريمة او البحث عن مجرم،على الوجوه تركض علامات استفهام وقطيع من الآراء والتخمينات المفترسة متشحة بحب المعرفة،الزقاق ازدحم بأقدام الباحثين عن الفرجة،الفضول دودة تفترس الانسان مند قديم الزمان، الفضول شجرة اينعت في الشرايين،تمنح للمهووس لحظات سكون دافئة او لحظات نقاش عبثي،وجوه شاردة الأذهان ورؤوس تشرئب تحمل جينات الاسلاف فوق الظهور، يطوفون بها في كل مكان، الهواء مفعم بأنفاس اللاهثين يبحثون عن سر مفترض، شاب مفتول العضلات ينثر الكلام المقزز في الجموع، نهره شيخ طاعن في الوقار، اجساد مكتنزة متدلية من النوافذ المشرعة، يزأر محرك السيارة الموشومة، تنفسا الصعداء وزفرا بقوة، لقاءات العائلات المكلومة امر شاق وصعب، القتلى خرجوا من المجهول الى المعلوم، اشواك التحقيقات الثقيلة تنتظرهما لكشف الجاني او الجناة، العائلات قدمت معطيات كثيرة، عناوين و اسماء اصدقاء الدراسة، القتلى تلاميذ قاصرين انغمسوا في احضان الادمان، وسقطوا في حبال تجار الرقيق الابيض، نهاية حزينة لكل من يلهث خلف الفقاعات والسراب، اسم تاجر ممنوعات تردد في المنازل الثلاث، بوليستي ساهم صامت يريد اشفاء الغليل من لذة الصمت والخذر في الارجل، هنفاء تعيد قراءة ما دونته في المفكرة، وتساءلت في قرارة النفس من يكون (كارلوس) الشرس الطباع والعنيف حد استعمال السلاح الابيض لترويض الاتباع، كارلوس مروج المخدرات الصلبة وحبوب الهلوسة في محيط مؤسسات التعليم و تاجر الاحواض، بحث في سجلات المطلوبين للعدالة والموقوفين والمحالين على المحاكم، كارلوس لقب مجهول ظهر فجأة من بين ثقوب الفراغ الامني في عالم الموبقات لكنه المفتاح والخيط الذي سيحرك عجلة التحقيق، لديهما ما يكفي من الاوصاف والمعلومات واماكن ممارسة الانشطة المجرمة، تم زرع عشرات المخبرين ورجالات الشرطة في محيط المدارس التي تعرف كل يوم توافد الاباء وانتظار طوال ساعات فلذات الاكباد، التلاميذ يلوكون صباح مساء الجريمة المروعة، تناسلت الشائعات من مخيلات مفتوحة الشهية، ارتفع عدد التلاميذ المختفين من ثلاثة الى عشرة، يأكل الخوف القلوب الضعيفة، يلبس الجماجم الصغيرة والكبيرة، الاحتراس الشديد من الفضاءات التي لا يصلها الضوء، والليل يخفي الملامح القاسية و الوجوه المقنعة، هناك قاتل او قتلة احرار سيرتكبون المزيد من الجرائم الفظيعة، اختفت الحلقات الصغيرة بعد مغادرة الفصول الدراسية، الشوارع والازقة بدأت تفرغ قبل الغروب، كارلوس سيحتاط ويحترس سيختفي لبضعة ايام تخمينات بوليستي صائبة، المدينة تتكلم عن الجريمة الوحشية التي ازهقت فيها ارواح قاصرين، الذنب الوحيد الذي ارتكبوه انهم ادمنوا الممنوعات في سن مبكرة، سفكت دمائهم فوق اعواد قاتل همجي احتسى جرعات مسكر نابض بالموت، الثلاثة كانوا قربانا لحفلة غدر مدبرة،لم يرتشفوا ولا لحظة من زفرات التوسل،دكت الضربات اسوار الارواح النائمة، اغلب عمليات القتل تتم بالسكاكين والشنق والخنق والاسلحة النارية والسم، لكن ليس في سجلات الامن جريمة ارتكبت بالفأس،بعض الجرائم المروعة ترتكب خارج حسابات الزمن، القتلة ولدوا بالخطأ في زمن السفالة والغدر وظلوا متعثرين في ظلال طقوس السلخ والذبح، بوليستي اكثر توترا ونرفزة، كفارس في حالة حرب خيالية،هنفاء تثرثر بدون انقطاع تبحث في تفاصيل بعض الادلة الشحيحة الملتقطة من مسرح الجريمة، تفرش امام المحققين تخمينات واراء حول القاتل المدمن،كلمات تعلن الانهزام الخفي،غيوم سوداء تسقط من البساط الواسع على الرؤوس، لكنهم لم يرفعوا الراية البيضاء، ينتظرون كما العادة بفارغ الصبر موسم القطاف، تلقوا خلال الاسبوع عشرات المكالمات لمتعاونين يعتقدون انهم يعرفون القاتل، لكنها معلومات بدون قيمة، اعتقل المشتبه فيهم واخضعوا للبحث والتحقيق، كارلوس بالنسبة لهم تاجر مخدرات يحضر بالدراجة النارية او السيارة محملا بأنواع الممنوعات، تنفد السلعة يختفي، جند مجموعة من التلاميذ للتوزيع داخل المدارس، عنيف مع الموزعين الصغار الذين يتأخرون عن دفع المستحقات اليومية، طريق الانحراف المنتعلة ذات انزلاق ارادي اكثر خطورة، طرق خفيف على الباب شرطي بزي رسمي يحمل ورقة قدم التحية، وارتفعت طقطقة الحذاء.
– جات واحد الاخبارية
– اه.......شكرا
تفرس في الوثيقة والصورة وانفرجت الاسارير المنقبضة، ذابت الآيات البينات من الغضب، تنفس الصعداء اخيرا كشف الغطاء عن هوية الملقب بكارلوس، شاب في العقد الثاني، اسمر، نحيف، شعر اسود فاحم، ملولب، منسدل على الاكتاف، ونظرات مقتحمة تتحدى غطرسة الزمن الكئيب، بوليستي اكثر حماسا على شفتيه رزمة كلمات، تكلفت هنفاء باستخراج عشرات النسخ لصورة المطلوب رقم واحد للتحقيق، تحركت سيارات المحققين في وجهات مختلفة، مخبر دلهم على منزل المبحوث عنه، اطل من نافذة ورأى سيارات الشرطة تطوق الزقاق، ارتعب كطفل داهمه الخوف، تناهت الى المسامع الاوامر بالخروج والاستسلام، نظر الى الجدران وحده يبتلع جنون الكلمات الممطرقة للدماغ بالضجيج، القى نظرة اخرى، الزقاق يمتلا بالمتفرجين، مكبر الصوت يقيئ اخر انذار، ضربات قوية على الباب الحديدي، ينخلع الباب ويسقط محدثا قعقعة عالية، رجالات مدججين بالأسلحة يقتحمون المنزل، وجدوه مكورا في ركن من حجرة مرعوبا،بال في السروال من شدة الخوف، صفدوه وحملوه الى السيارة الموشومة،الضجيج يرتفع وتصفيق حار، استدرج المبحوث عنه في المخفر الى مفرمة البوح الصريح، لا مكان للكلام الشارد و الملتوي، اللوح الابيض يرتشف مداد الكلمات المعتقة المنثورة من لوحة المفاتيح، وتكدست الاعترافات حسب الأحرف الأبجدية، خشونة النظرات الممزوجة بتلميحات الجلد والسلخ، الاسهال يصيب المتهم وتفتح الابواب على مصراعيها وتفرغ الجبة،كارلوس يلقي على مسامع المحققين اسماء المتهمين المفترضين وسط نظرات السخط العارمة،يتثاءب ملء شدقيه، يتلعثم، يبتلع اللعاب بصعوبة، تتحرك تفاحة ادم، يطلب سيجارة ليستعيد الذاكرة المخرومة، نفخ الدخان من منخريه، ارتشف من كوب الشاي، يصطدم بالنظرات الشزراء في كل زفرة، يفتح الفم على مصراعيه، تهاوت فلسفة الصمت والكتمان،تمرغ في حقل من الاسماء والعناوين، المفكرات تسجل كل كبيرة وصغيرة، يلمع في عيني بوليستي القاحلتين كالاغتراب وميض الانتصار، المعلومات القيمة تلف جسد المحققة هنفاء المضطرب الإيماءات، تصغي الى كارلوس عبر طقطقات لوحات المفاتيح ورائحة السجائر، تنهد تنهدة كبيرة ارتشف رشفات متتالية من كاس الشاي وراح في لحظات تأمل، بدأت الاشياء تصفو من حوله، الاصفاد في يديه تذكره بنضوب الافراح، المكتب فارغ الا من الحاسوب وطابعة وبضعة كراسي متهالكة، لم يسبق ان دخل مخفرا للشرطة من قبل، احجم عن استخراج بطاقة التعريف، في قرار النفس يحس انه ينتمي الى وطن اخر، جميعنا يعيش غربة داخلية، كلنا يبحث عن وطن تتكدس فيه الاحلام يزهر في القلب أشعارا ورياحين وحدائق شوق، تقطعت بنا مند الولادة المسافات طولا وعرضا،نتلاشى خلف ضباب الايام التي تحملنا مسرعة الى النهاية، نحن ضحايا مفاجآت القدر الساخرة، نرقص ابتهاجا في محافل الشامتين، هنفاء تدخل المكتب تعيد قراءة اسماء وعناوين وارقام هواتف.
– نعم..نعم هاد شي لي كنعرف قلتو ووغنقولو ماشي انا لي قتلت التلاميذ.
– غادي نشوفو
تكلمت المفاتيح الثقيلة في القفل، ادخل الى الزنزانة الفارغة الا من سكاري التقطتهم دوريات الليل، احدهم يتبول واقفا في ثقب متسخ وعفن، رائحة الغائط تكبس على المكان، الزنزانة اول الدروس في توقيع العقاب وهزم الصمود، تمدد فوق قطع كارتون لمحاليل الغسيل، قرأ تواقيع الذين مروا من الزنزانة محفورة على الجدران، شواهد قبور منسية شاهدة على العبور من المفرمة، يحتاج الى قطعة حديد لينقش اسمه في لائحة العابرين، قبل ان يرمى في الزنزانة فتشوا جيوبه، اخذوا حزام السروال وخيوط الحذاء الرياضي، في الليل بين الفينة والاخرى يأتيه صراخ احد الموقوفين، يعرف ان حفلة الجلد والسلخ بدأت، نزلاء الزنزانة يدخنون بشره، يتبولون، يتبرزون اكثر،يرتشفون خمرة اللامبالاة، عقارب الساعة لا تتوقف عن الكلام، الجميع في المكان الخطأ، امطروه في اليوم الاول بأسئلة كثيرة، عن الجريمة ومكان الاعتقال حين اخبرهم عن علاقته بجرائم القتل الثلاثة، انطفأت العيون المخضبة باللف علامة استفهام، كفت الالسن عن المناوشة والتحرش اللفظي،افردوا له مكانا يتسع لاثنين، قدموا له سجائر وبعض الطعام،الزنزانة ضيقة مكتظة عن اخرها بسحنات مكفهرة ملوثة بلعاب الشيطان، يحتاج الى هواء طري ونقي قابل للمداعبة، شاب في مثل سنه، اقتنى منه ذات ادمان قطعة حشيش، ظل يثرثر ويلقي على المسامع حكايات من نسج الخيال، ضحك في قرارة نفسه المثخنة بالتقريع والتهديد، الشاب من فصيلة الببغاوات الهجينة، كارلوس تسرب من المدرسة لكثرة الغياب، ادمن جميع الموبقات حين افلت حمامة الرزانة واللطافة، انتقل من الاستهلاك الى الترويج، اغلب افراد العائلة هاجروا الى اوربا، تكلفت به الجدة لبعض الوقت، احلامه ومطالبه اكثر من نفقات الجدة الشحيحة،ارتمى في احضان التسكع، التقطته الايادي المدربة من ابواب المدرسة، اضاءت له خرائط الالف خطوة نحو المستقبل الزاهر،لا يدق فيه الحرمان اجراس الانذار، انتعل العناد وافقده الطمع جواد التفكير، امتطى الوهم واسرج الريح، في خضم اللهفة والانتشاء فقد الاسم والنسب في خراب الكلمات،مشى فرحا مزهوا بالاسم المستعار، كارلوس سلخ عن المحيط والهوية، في رمشة عين اصبح شبحا، مجهولا، ارتشف كؤوسا من الخمرة المعتقة للامبالاة والتحدي، في الشهر الاول اقتنى دراجة نارية، تجارة المخدرات تذر ارباحا مهمة، كل مساء يدفع الحساب لمرسول كبير التجار، حين سمع بموت التلاميذ أصابه الرعب من أول شهقة سقوط، اختفى عن الانظار، اغلق الباب واصبح يخرج متخفيا ليلا، وبقي وحيدا يلتهم جنون الكلمات، عناوين الصحف تصدح ببشاعة ثورة الدم، القتلى كانوا معه في مقاعد الدراسة، اختاروا في لحظات ضعف الطريق الصعب، الغدر مزق فيهم مصارين الابتسامة، حين حاولوا التلاعب بأنفاس النار، اضاعوا كمية من الحشيش الوطني الممتاز، رجعوا بلا عائدات منكسي الرؤوس، القراص اليد اليمنى للبزناس الكبير امهلهم بعض الوقت لإعادة السلعة كاملة بدون زيادة او نقصان، لم ينفع التحذير الاول والثاني، بعد اربعة ايام اختفوا من على وجه البسيطة، يتصلب السؤال في الشفاه، يذوب الخوف في شرايين باقي الموزعين، تهبط الرياح في الافئدة، برد قاسي يفترس الروح، الارض المبلطة بالإسمنت المسلح والزليج تمتص العظام، رائحة البول و البراز تدفع للقيئ، تنطلق غازات الدمار الشامل، يختنق الهواء وتمتلا الصدور بالعفن، نزلاء الزنزانة يسدون الانوف بالأيدي، يرتفع التذمر يرقص على السحنات، ثمة ذبابات تحوم حول الثقب، ما اقذر البشر وما اوسخه، اذا اردت معرفة قيمة الانسان انظر اليه عاريا كما ولدته امه، جرده من هذه الاشياء التي عليه ربما تكون شخصيته او على الاقل نصف شخصيته صاحب هذا الكلام خبر الحياة وتجرع منها الالم والاحباط، فقد الثقة في البشر.
يكفهر وجه كارلوس، يشعر بالفراغ الداخلي، الزنزانة الفارغة من المرافق الصحية والماء، شكل من اشكال التعذيب النفسي، ثمة نزيل لا يكف عن السب والشتم وضرب الراس على الحائط، تركوه ينطح الحائط، نطحات الراس بالحائط تتردد في الفضاء الضيق، خيط من الدم يسيل على الجبهة، حين جاء شرطي المداومة محملا ببعض الاطعمة، لطم النزلاء هواء منعش ونقي، قام بعد الخرجين عن القانون، واحد اثنان ثلاثة اربعة..... نادى بأسماء، وزع الاطعمة التي خضعت لتفتيش دقيق والاحتفاظ بالأجود، قبل ان يكمل العد اخبره نزيل ان ثمة شاب يحاول الانتحار، رمقه بنظرة خاطفة، اغلق الباب الحديدي بخفة، ذابت الخطوات واصوات المفاتيح في الممر الطويل، لا أحد في الجوار سوى صقطقات الاحذية العريضة، تخترق الجدران والكوات الضيقة، حناجر من صخب تنعق بهمة منقطعة النظير بين الفينة والاخرى، الشاب لازال ينطح الحائط، الدم ينبجس اكثر من الجبهة، قطرات الدم تعانق الزليج الابيض المتسخ،المساجين في احضان ذهول، ترتفع الطرقات على الباب الحديدي الاصم.
-خليوني نموت....انا ميت
كلمات خارقة للأحاسيس الملبدة بغيوم القهر، عيون مفتوحة على الفراغ، التقطته الايدي المدربة، لم يبق منه سوى دماء على الارض والحائط، كل يوم تفرغ الزنزانة وايام الاسبوع تمتلا عن الاخر، حين ينادي الجلاد ترتعد الفرائص تعرى الرؤوس من الضجيج، كانوا يأتون بالليل وينادون على المطلوب للجلد والسلخ، لكي ينتزعوا الاعترافات لا وسيلة امامهم سوى التعذيب،ابرياء اعترفوا بجرائم لا توجد سوى في المخيلات، وقعوا المحاضر للهرب من سطوة المخافر وعسف المحققين، لم تنفع التوسلات والحلف بأغلظ الايمان،وحدها الجدران المتسخة المليئة بالخرق البالية ودماء متخثرة تحصي زفرات التعذيب، كارلوس صرخ بأعلى قوته ليتركوه، انهالت عليه الضربات والركلات، خرقة بالية مبلله اغلقت منافذ التنفس،الموت يحتك به يتأبط الاشلاء المفجوعة، السهرة لازالت في البداية، تنهال الاسئلة تباعا،صرير الرقن يعبث بالبياض يخربش رسائل مبهمة العناوين، مقدودة من وجع وخوف، عرفوا بعد جولتين من الجلد والسلخ انه بريء.
– انت بريئ من القتل والمشاركة فيه لكنك كتاجر في الممنوعات....
بوليستي يرمق بنظرات ثاقبة طابور المعتقلين المكبلين مثنى مثنى، صيد دوريات الامن الليلية، اغلبهم مطلوب للعدالة بتهم مختلفة، يتفرس بقوة في الهويات، واخرون بدون هوية، الشعوب العربية بدون هويات، الهوية لا قيمة لها امام انظمة شمولية قمعية، تتساقط الاعترافات على دفعات، اخلي سبيل بعض المشتبه فيهم، واجه كارلوس الاربعة المكبلين الجالسين القرفصاء مقطبي الجباه، حبس الانفاس الاخيرة، وزع ثمار الذاكرة المرهقة على الموقوفين، اشار بالإصبع دون وخز من تأنيب الضمير وردات الفعل،أطلق قذيفة على صاحب الندبة على الخد الايسر والجسد الرياضي، بوليستي يشعر بفرح طفولي، لأول مرة مند شهور يقبض على اول خيط لفك لغز القتلى الثلاث، استدرج مئات الساعات من البحث والتمحيص الى الذهن، هنفاء تدخل عنوة في صلب الموضوع، لا تجيد اللعب بالكلمات،لا جدوى من دغدغة المشاعر ونثر اللطافة والكياسة، هؤلاء بشر من كوكب اخر يتنفسون الجريمة،تهديدات مركزة تقصف الادمغة المتكلسة،عقارب الساعة تشد أزرار الغليان على السحنات، بسطوا امام صاحب الندبة عشرات الجرائم ومذكرات البحث،يتردد المتهم المخضب بحمى الصلابة تحت فوهات الاسئلة الحارقة التي تفقأ العيون، القراص اليد اليمنى للبزناس الكبير لم يعد يلوك قصيدة البراءة المبتورة، تركوه مكبلا في زنزانة منفردة لأكثر من يوم، جمعوا رزمة الادلة من المقسطين الصغار لحبوب الهلوسة والحشيش الوطني، زوبعة الاسهال لم تهدأ منذ تباشير المخاض الأولى في مفرمة الاعتراف، التورط في جرائم القتل يعني الرقص على حافة الموت البطيء، الاعدام يرعد الفرائص، يقض المضاجع ينتشل الفرح من الاحلام.
– القراص كيدير كل شي، هو لي كيفرق لحشيش وكيجمع لفلوس ولي ضيع السلعة كيهلكو عصا
– كيف
– الباطرون كيكلفو باي حاجة
– شكون الباطرون، اشنو اسمو، شكلو، عنوانو
– عمرنا شفناه ولا تلاقيناه
يمتص الخوف والرعب دما من اوردة الفتوة، الايدي مغلولة تحت صور المقصلة، الانشوطة تتدلى منها الاعناق،الصمت طعنات في خاصرة التمنع، الصور الملتقطة في مسرح الجريمة تميط اللثام عن شراسة القاتل،يقف القراص منهوكا خائر القوى في المشهد الاخير من ركلات الاعتراف، اسبوع كامل من العزلة والتعذيب والتهديد تاتي اكلها، هوى صاغرا امام رؤوس مدربة، لم يقتل احدا، لكنه قاد السيارة الى المقبرة لدفن القتلى، تنفس الصعداء، المحققان يراقبان الحركات والسكنات، القراص يتعرى من ثقل السر، الخوف دفعه لتذكر اصغر الجزئيات، تلتقط المفكرات الدمار المتفجر من اللسان،وشفاه تقيحت من وخز تقيؤ قائمة الجرائم، إشارات السحنات متخمة بالتذمر، تنفخ في الرئة تطالب بالمزيد ثم المزيد، كالبحر يطالب بالاستزادة من مياه الامطار، مات الرجل الفتوة الذي يسكن جسدا مفتول العضلات، قدموا له سيجارة وكاس شاي، شرب كوب ماء دفعة واحدة في جوف موغل في الظمأ، لوى اصبعه بخصلة شعر، تكلمت الاصفاد في اليد، اسراب من التنهدات تحوم في فضاء مغلق تضيق فيه الحرية، استلقى بعد ساعات من الاجابات على قارعة الانتظار الاجرب، ينتظر النتيجة النهائية مثل شاب مشترك في مباراة يعرف مسبقا ان الفشل سيكون نصيبه، المصير معلق على اعتقال الصرار شريك البزناس الكبير، تنقذف الاسماء في سرداب الجريمة، القراص يقف في منتصف الرهبة، الاسئلة تغوص في تهجئة طلقات الموت، الصرار من قتل الشباب الثلاث،تنبث اجنحة البوح تحت اللسان، من آهات المخاض يراجع اضمامة صور المبحوث عنهم وذوي السوابق في جرائم مختلفة، يضع الاصبع المتسخ على صورة الصرار، خيم صمت مطلق داخل المكتب، بريء من جريمة القتل لكنه مشارك، قاد السيارة من القرية المجاورة في الليل، اطفا الانوار عندما اقترب من مقبرة المدينة، اسكت المحرك، ظل صامتا هادئا يستطلع الاجواء المحيطة، لهيب الترقب يتصاعد، الليل يمنحه لحظات سكون دافئة، القبور تبسم في الوجه العبوس، غيوم داكنة تعبر الفضاء الواسع كأنما ستمطر، ترجل من السيارة، فتح صندوق السيارة السوداء، حمل الاجساد الباردة الواحد تلو الاخر والقى بها على الارض، سحب فاسا ورفشا، ضرب الارض بقوة، ارتطم الفأس بحجر واطلق زمجرة قوية،نبحت الكلاب الضالة التي ترعى في كومات القمامة، ارتفع النباح انطلق صفير من الظلام،خيل اليه ان ثمة حشد قادم نحوه، قفز الى السيارة ادار المحرك وانطلق بسرعة جنونية.
– حاولت ندفن القتلى، سمعت شي هدرة وتصفير وهربت.
– علاش جبتيهم من القرية لمدينة
– لقيت العساسة في المقابر لي درت عليها....
– اييه
– شكون كلفك
– الصرار
– شكون الصرار
– اليد اليمنى للباطرون
وراء كل مجرم خطير مجرم اكثر خطورة، لا فرق بين القراص والصرار الا في فظاعة الجرائم المرتكبة من ضرب وسحل وتمزيق للوجوه والاجساد بالسكاكين، حفلات الجلد غالبا ترتكب امام اعين الموزعين الصغار امعانا في الاذلال والاذعان والطاعة العمياء، ثمة مساحات كثيرة في الاعترافات معتمة، تخفي تفاصيل موغلة في الاحتراس، وضعت الخطة المحكمة لمداهمة فيلا البزناس الكبير، بوليستي في حالة تأهب قصوى، هنفاء لا تكف عن الكلام، اخرجت المسدس من الغمد اكثر من مرة، الزناد ينتظر ضغطة صغيرة لتنطلق رائحة الموت، الخرطوش يكبس على الرصاصات اللامعة، طابور السيارات تحمل رجالا مدججين بالأسلحة النارية، خيوط الشمس تطل من بعيد، المزرعة مترامية الارداف، الاشجار المثمرة تغطي مساحات كبيرة، البزناس حط الرحال بالمنطقة وبدا في شراء الاراضي الفلاحية، اطلق السماسرة والتابعين يتعقبون الورثة، يحصدون بالمناجل الحافية صدى الانفة، بالأرض التي التهمت احذية الطفولة تقاس خاصرة الوطن والانتماء، يهاجر ابناء الفلاح الى المدينة لكنهم يعودون لتوارى جثامينهم في ارض الاجداد، الارض حاضرة في الوجدان، من فرط في الارض فرط العرض، تلكم آيات القروي المتشبع برائحة التراب، الحاج يشتري الانصبة ويقوم بالتحفيظ، يقيم دعاوى قضائية لافراز الانصبة عن الشياع، لكل شيئ سعر في سوق النخاسة، الاكثرية تذعن للقوة الغاشمة لا يمكن خوض معركة مع الطوفان.
قام الحاج ببناء مسبح وفيلا فاخرة، حفر الابار وخزانات مياه، حظيرة لتربية المواشي، وسط القرية شيد مسجدا يذكر فيه اسم الله،عملية غسيل الاموال القذرة بحثا عن جادة الصواب، استقدم الايدي العاملة من المدن المجاورة،كل ما تعرفه الساكنة انه رجل ثري قادم من مدن الشمال، اخبار تناقلتها الرؤوس المتلصصة على حياة الاخرين من الثقوب، مرضى تستهويهم معرفة تفاصيل و اسرار القريب والبعيد، الخوض في اوحال الخصوصيات رياضة مستحبة، الفراغ الموبوء بالعطالة يدفع لامتطاء اهواء بعقلية الاطفال، الحاج يقدم الهدايا في الاعياد والمناسبات، انتشل عائلات من جحيم الفقر، يدفع مقابل الهكتار ضعفه مرتين، توسعت املاك الحاج في اقل من سنتين، يستقبل على طول الايام زوارا من علية القوم، سيارات فارهة نساء شبه عاريات، رائحة الشواء تضرب في الهواء، تسافر الى بيوت الطين، تتحلب الافواه ويكبر السؤال، تسمع اصداء حروف الطمع تولد في الجماجم وتذوب الكلمات تحت سخونة رائحة الشواء، وعطور النساء اللواتي يسبحن شبه عاريات في المسبح، ينشرن لحومهن البضة تحت اشعة الشمس، تجمعات هنا وهناك كل نهاية اسبوع دعوات بطول العمر والمغفرة لسيد المكان تخرج من حناجر يحركها سيف الحرمان،جموع مذهولة انتظرت سنوات ربيعا مزدهرا بلا جدوى، الحاج قادر على انتشال الحرمان من بين مخالب الزمن الحادة، يروي الشفاه العطشى والذابلة من براكين الاحلام، مواسم الخير العميم دامعة اللون تتلألأ في العيون، الحاج يتربع فوق الجماجم، يتسكع في الشرايين يزرع بذور الطمع في خيال مفتوح الشهية، تقافزت جوقة الطامعين والمخبرين والشحاتين،كل يحمل همومه تحت ابطه يطرق باب ولي النعمة الذي ظهر من العدم.
– سي الحاج... الله يرحم الوالدين انا كساب الجفاف هرسنا بغيت ندير شي غنم خصني المعاونة
– مرحبا
الامر اسهل من شربة ماء في عز الحر، البصم على وثائق لضمان سداد الدين والتصديق عليه في مؤسسات الشعب، الفقير يتشبث عنوة بأهداب الطمع،يتدحرج بين حين واخر يعبر الصعاب ممتطيا صهوة المستحيل، يذوب الظلام في بحر الضوء تختلج القلوب و وتثلج الصدور، طارت الفرحة ثم حلقت صاعدة فوق النجود و الوهاد، الرؤوس لا تكترث لمشانق الصياد، يدخلون احرارا ويخرجون مثقلين بالديون والآمال العراض، عشرات الملاكين الصغار رقابهم تتدلى من حبل المشنقة، الحاج لا يرحم ولا يتوانى في تفعيل القانون دفاعا عن مصالحه، يخرج الفلاح مكسور الخاطر، القبض اسهل من الدفع، السماء صافية وهدوء يلف القرية المتاخمة للمدينة،غير بعيد اضواء السيارات تقترب، ترتفع ظلال الاشجار في الهواء وتكبر، يرتفع عواء الكلاب، عون السلطة يرتشف شربة الماء الأخيرة، يلقي بالقنينة الفارغة في الفراغ، ظهر الوشم الاحمر والاخضر على المركبات، وشم لا تخطئه العين المتمرسة، سحب الهاتف من الجيب، ركب بضعة ارقام، ظل يثرثر بدون انقطاع، صوت المحركات يغطي على كلمات عون السلطة، رجال مدججين بالأسلحة يتفرقون في كل الجهات، يحيطون بالضيعة الفلاحية المترامية الارداف، عواء الكلاب يزداد شراسة، ديك يرتقي خما ويطلق صيحات متتالية، خوار البقر لا يكف عن افتضاض بكارة الهدوء ينتشل النيام من مخالب الشخير، فرملة السيارات وهدير المحركات يطن في الاذان، وحده عون السلطة يرصف جنون الكلمات، اضواء واجساد تنفلت من الابواب، همهمات تسري بين الجموع،الاشاعة تضرب بقوة الجماجم، الهاتف النقال ينقل الاخبار في رمشة عين عبر الاثير، الحاج ارهابي يتاجر في الاسلحة، الحاج تاجر دولي للمخدرات الصلبة، الحاج تاجر للأعضاء البشرية، الحاج مهرب للبشر على مثن قوارب الموت، طلقات وفرقعات في وجه الحيرة منسوجة من خرير الخوف، ترتفع قعقعات قوية تمزق السكون، الباب الخارجي للحديقة يسقط، يتقدم عشرات الرجال المدججين بالأسلحة يلتهمون المساحات، يسقط الباب الثاني، الفيلا فارغة حتى النواطير اختفوا، في حظيرة البهائم وجدوا قبوا، كسرت الاقفال بخفة، اندفع الرجال في دهليز طويل يفضي الى قاعة مجهزة بأحدث الاجهزة، مختبر كامل لصناعة المخدرات الصلبة، في ممر جانبي قرابة طن من الحشيش الوطني اشبه بسبائك الذهب ملفوفة بعناية في قطع بلاستيك شفاف، في غرفة مجاورة عملات اجنبية وطابعات وناسخات، جوازات سفر تحمل اختام وصور، المفاجأة لجمت السنة المحققين، بوليستي يجري اتصالات مكثفة، حضور المسؤولين الكبار ضروري، هنفاء خلعت أسمال أنوثة رثة وابانت عن علو كعب في قراءة مسارح الجريمة، في غرفة ثالثة ثمة شبان عراة حتى النطاق مكبلي الايدي والارجل بالسلاسل، لم يبق منهم سوى كمشة عظام،حين فكت عنهم القيود تهاووا على الارض المتسخة بالقاذورات انتهت على الجلود المدبوغة الاحلام الرحبة البنفسجية التقاسيم، خمن بوليستي لربما ارتكبوا حماقات خادشة لأسرار المهنة،في يوم مزدحم بالعثرات حكم عليهم بالموت البطيء.
في الخارج جماهير غفيرة تتابع فصول الاغارة على فيلا الحاج، يلوح قرص الشمس من بعيد، تساقطت عن الجماجم كل أوراق الاحترام، الغارقون في الديون اكثر انتشاء وزهوا، الذين باعوا اراضيهم بأبخس الاثمان يهدهدهم الفرح الطفولي، عون السلطة مرعوب يتبول باستمرار على جذع شجرة، من داخل الفيلا تلوح النار والشرر، سيارات الاسعاف تطلق كمشة الصفير، يزيد المكان وحشة،رهبة،هلعا، نواطير يهشون النمل البشري المستمر في التدفق، الهواء يبحث عن متنفس وسط الحشود، الشريط الاصفر يعزل المكان ويضع حدودا.
– لقاو عندو اسلحة ومتفجرات وعشرات الدبابات
– الله....مشا فيها الشيخ ولمقدم والقايد
– مزيان كانوا الاولين في زرود وتداور
مسرح الجريمة خلية نحل، بوليستي يصدر الاوامر الدقيقة، هنفاء تعد براميل مليئة بسائل ذي رائحة كريهة، اكياس من حبوب الهلوسة، الات كهربائية لخلط المواد الكيماوية، كمامات والبسة ناصعة البياض، نظارات زجاجية كبيرة الحجم، يذوب الهرج في تجاويف الخوف، لا احد في الخارج سوى رؤوس فزعة، في العيون الجاحظة يسافر السؤال، شرطي بالزي النظامي ممنطقا بالمسدس والعصا السوداء يصرخ في وجه شاب تجاوز الشريط الاصفر، يتدفق الدم في الشرايين، ينجذب الشاب من ياقة القميص بقوة ويتلقى ضربة على الراس، الشمس في كبد السماء، شاحنات ترحل محملة وتعود فارغة،العيون معلقة على الفيلا والمزرعة، كلاب مدربة تدفع الخياشيم في التراب، تتعقب الروائح شبرا شبرا،نبشت الارض تحت شجرة رمان،الكلب ظل يعوي يتمدد فوف التراب، الكلب الشرطي يستكشف باطن الارض، ينبح حين يشم رائحة مريبة، الكلب الشرطي يتعقب المجرمين والمفقودين كلما كان التدريب مفيدا، في المطارات لا حاجة لفتح الحقائب والكشف عن المحتويات المدفونة بعناية الكلاب تقوم بالمهمة بفعالية، فؤوس ورفوش تنبش الارض تسوي الربوات، تكبر الحفرة وترتفع الاهات، تشتعل النظرات والأنفاس تتوقد، دخان سيجارة رخيصة يغازل الهواء، يسرع بوليستي الى شجرة الرمان، ينسحب الحفار بخفة ورشاقة، عدسات الكاميرات تلتقط المزيد من الصور، عظام بشرية تطل من الحفرة، جماجم فاغرة المحاجر، قطع ملابس ممتلئة بالثقوب، الالاه الذي نزل من السماء لم يكن سوى زعيم عصابة دولية، بالجميل والاحسان المبطن اسر القلوب وقسم الساكنة، الدجال له السيادة في عالم الامية وفاقدي الثقة في النفس المحطمة والحالمة، الفقير يتعثر في بريق الوعود المشرئبة الاعناق، المغفل لوحة اشهارية متنقلة تزرع رعشات الطمع في المترددين وتشوش ادمغة المشككين، فقيه المسجد يقف مشدوها بين الجموع، يمضمض كلاما مبهما، شفتاه السفلى ترتعش ولا يكف عن اللعق يتلو من الكتاب المقدس شرارة الصفعة، سنين يدعو بالصحة والعافية وطول العمر على الحاج التقي، النقي، الورع، صاحب المكارم والاخلاق، يقف في المنبر يمطر المصلين بطلقات الاذعان، يتصبب عرقا وتلطمه همهمات المشككين، تجرده الحقيقة المرة من الثياب لا شيئ يغطي عورة حارس الدين، يسمع صوتا كسيرا يتمدد في الشرايين، لاحت صور العطايا والموائد الدسمة التي التهم فيها ما لذ وطاب، الحاج يثني على الصوت الرخيم في المجالس ويشيد بتمكن الفقيه من علوم الدين والشرع،كل شهر ينفح مبلغا ماليا ويحث على الاهتمام اكثر بالمسجد وتحفيظ الكتاب المقدس للصغار، نفس المعاملة مع عون السلطة وممثلي الشعب، الحاج اشترى ولاء النواطير ومثيري القلاقل، كثيرون تعثروا في بحبوحة الوعود والاكلات الدسمة والهبات، العيون مشدودة الى رجالات المباحث الجنائية بزيهم الابيض الناصع، سيارات تحمل الادلة الجنائية المحشوة في اكياس صغيرة، عشرات الايدي تحفر مساحات من الارض، شجرات تقتلع من الجذور، استقدمت جرافة وبذات في نبش الارض، اخاديد عميقة ترسم قوة الالة، الشريط الاصفر يصد المتفرجين، عشرات السيارات والشاحنات والجرارات بعربات تشحن الناس وتقيئهم، فيلا الحاج والمزرعة اشبه بموسم لولي صالح او طالح،لا تنقص سوى الشموع والابخرة والمجامر، نساء متشحات بالرعب يمضمضن اسماء الله، على مقربة من خط التدافع، اللاسلكي في يد الشرطي يقيئ اصواتا ناقمة، اعواد ريش الحاج تتساقط على دفعات، أمام عيون الناقمين والحانقين والمبرنقين المدججين بالسخط والعطف، امام المسجد وعون السلطة و المستشار الجماعي يجرجرون أذيال الخيبات،جميعهم مطلوبون للتحقيق، الحاج اختفى عن الانظار مند شهور تقريبا، التحريات تفيد انه غادر الوطن لوجهة مجهولة، اليد العاملة المستقدمة من الشمال والقرى المجاورة اختفت على عجل، علامات استفهام بحجم الكون معلقة على جباه المحققين، بوليستي يستدرج الاسئلة الشاردة في الذهن.
– هناك من اخبرهم عن الاغارة
– كل شيئ محتمل
انطفأت أكثر الآمال اشراقا في اعتقال الامر بالقتل، الحاج باع املاكه مند ستة اشهر لمستثمر اجنبي، المشاركة في جرائم القتل الوحشية قيدت ضد مجهول، اطلقت مذكرة بحث وطنية ودولية، لكن ذلك لن يعيد القتلى الى الحياة، اللقاء مع المسؤول الكبير كان صاخبا بارتعاشات تهم التقصير، القاعة الكبيرة تقيس نبضات المحقق بوليستي، يسرح السؤال وخمن ان كان المسؤول الهرم يعتقد انه يمتلك حدسا وقادر على فك شيفرة الغيب، المدفونون احياء في القبو تعافوا،الشرطي يحرس الحجرات ليل نهار، لا دخول ولا خروج الا بإذن، طاقم التطبيب يسهر على راحة المرضى، التعليمات صريحة وواضحة، يغرس المحقق ازميل الرأفة والحسرة في الادمغة الهاربة من موت محقق لينتزع اعترافات، يقرع الجرس المنبه وينفتح صنبور من الحكايات والاحداث المرعبة المقدودة من غبار الجرائم، الحاج تاجر دولي للمخدرات، الصرار قاتل بدون رحمة، جاء صوت من مكتب مجاور، بوليستي يلملم الكلمات المتساقطة من احاديث العتب وتمتم كأنما يحدث زميلا.
– اختفى الصرار