-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

السوسيولوجيا وتجليات الواقع في رواية «حب عتيق» فاهم وارد العفريت


 أول ما بدأ الكاتب العراقي علي لفتة سعيد في سرد أحداث روايته «حب عتيق» نراه، ومن خلال المقطع الأول أنه أراد أن يفتح للقارئ أفقاً ممدوداً مع أحداث الرواية ليرسم له صور الارتباط الذي يريده أن يحيا بين صفحات الأحداث لإيقاظ ذاكرة المكان والزمان، التي نرى أننا كلما تعمقنا بعيداً مع مجريات أحداث الرواية، منحتنا الكثير من المحاولات لتوظيف النص الروائي ومعانيه في استخدام لغة الجسد للتعبير عما كانت تخفيه تلك الشجون، التي هيمنت على النصوص السردية بكل فضاءات المكان والزمان لشخوص الرواية، حيث وظفت أحداثها من استلهام الواقع وما فيه من سلطة، مثلت في حينه الوعي أو اللاوعي في إظهار تلك المدلولات، وما تزخر به من مكابدات باسم الحب أو العشق.


إذن هذا الاشتغال المورق بالتداعيات والمخاضات التي طاف من خلال عوالمها علي لفتة سعيد، ليضيء لنا بكل هذه المشاعر التي حملتها تلك البصمات وهي تمثل هذا الإطار الحكائي، الذي تسّيد صدق السرد، وما حملته من انتماءات وإيحاءات كانت سوق الشيوخ فيها موئلا لتشكيل الصور ولتوظيف المعاني واسترجاع لذاكرة تتوهّج عند مقارباتها الحروف، بما فيها من أصوات صادقة توسّدت هدهدة الكلمات وهي تختلج في ما يحمله المجتمع في حينه من تناقضات، جعلت سماء ذلك المجتمع الجنوبي غائمة بتواشيح الحزن، وعيون المحبين فيه مزدحمة بأسراب الدموع المتناثرة بين محطات ذلك البوح الذي تمازج فيه الإرث الاجتماعي العشائري مع البنية الدرامية، التي مثلت الفولكلور الاجتماعي في سوق الشيوخ، وما فيه من طقوس تداخلت فيها انثيالات الواقع للنفوس الجريحة التي تناولتها سيوف الشقاء والظلم لتجتاز تلك المفازات بالكثير من المفارقات.
يمتلك الكاتب بساطة في استخدام اللغة وما تتمثل بالسهل الممتنع، كذلك لديه إثراء في تناول الصور والمعاني لدى القارئ، وهو عارف بخفايا القراءة الذاتية وما تحمله ماهية الكلام من تأويل ربما فلسفي أو يحمل موسيقى متدفقة من الكلمات الدالة وذات المعاني الواضحة، التي تفضي في الكثير من الاشتغالات إلى تكوين أفق تستفيق عنده أحلام الكثير من القراء، الذين يبحثون عن جمال الكتابة.
هذا الغور بين التشظيات للوصول إلى عمق تجليات المجتمع في كل مكوناته الاجتماعية وانتماءاته السياسية والمذهبية، وغيرها من الصور التي مثلت واقعا لعمل الروائي على إعادة إنتاجه وفق بناء تتناغم أبجدياته مع ما تحمله المتغيرات من تجارب، قد ترسم بإيحاءاتها للقارئ ما يمثله نهر الفرات من طقوس ليلية لستار، أو عبيّس، أو نعيم، وما يمثله هؤلاء من نبش لذاكرة معبأة بصور قد تكون مشوشة لدى القارئ، أو المهتم بتراث مدينة احتضنت المفارقة في رسم ذلك التأريخ الذي مثل دهشة للمتلقي، خاصة حينما يحمل الروائي هوادجه التي تحمل اشتغالاته في مفردات اختارها بعناية تامة مثل: مقاهي سوق الشيوخ، التظاهرات، اليساريين، البعثيين، نعمان، محمود، سعد، بدرية، رزيقة وغيرها من الأسماء والأماكن.

وأمواج نهر الفرات التي مثلت استعارة تبلورت فيها صور تعميد النفوس قبل الأجساد حتى تكون خالية من أي دنس أو ظلم، لأنّ الفرات ومنذ أمد بعيد احتضن المدن التي يمرّ بها، لأنها ولدت من رحمه، لذلك حملت أمواجه ومياهه كل الخطايا والسيئات لترمي بها بعيداً عن صباحات المدن وشموسها وسماواتها، لتبقى نقية طاهرة بما تحمله من إرث اجتماعي أو سياسي أو ثقافي، رغم صراعات الوجود التي كانت محتدمة آنذاك، بين الاستعمار ورموزه وذيوله، والوطنيين الذين حملوا رصاص بنادقهم فوق نبض التحدي ليرسلوه حمماً إلى قلوب المحتلين ومن يقف معهم في خندق العمالة، رغم تعدد هويات وعناوين ذلك الصراع بين مختلف الطبقات، فلاحية كانت أو إقطاعية، فقراء أو أغنياء، مثقفين أو جاهلين، سياسيين أو غير منتمين.
لتصبح بعد ذلك بيئة الحدث منعزلة عن الواقع الذي رسمه لنا علي لفتة سعيد للنظام الاجتماعي في سوق الشيوخ آنذاك، حيث كانت ألوان أماكنه وحركة ناسه وعلاقاتهم ذات لون داكن غير واضح المعالم تماماً للكثيرين، لأنه كان غارقاً في الانفعالات المفعمة بروح الانتقام، كما في قتل حبيبة ستار وأفراد عائلته، ورغم ذلك كله يحكم عليه بالنفي من القرية وتحريم الوصول إليها ثانية، وكل هذا الجور والظلم الذي تعرّض له ستار وهو لم يلمس حتى يد حبيبته التي توسدت دماؤها حفنات رصاص بنادق الباش والطكاكه والمكنزيه.
إذن هذه المدينة التي أصبحت مغلقة في وجوه البعض من ناسها لم يبق أمامهم من صديق يلجؤون إليه إلاّ النهر. تداخل هذه العوامل وما تحويه من مضامين شكّلت في الكثير من النصوص عملية الكشف عن المسكوت عنه في تلك العلاقات، وكذلك في عناوين المؤثرات العشائرية والسياسية والدينية وحتى الاجتماعية، فكل تلك العوامل والعناوين التي مثلتها سلطة الاستعمار وما تربطها من علاقات بين الأفراد والجماعات بتبنيها لدور العمالة وما يتشعب منه من أدوار للعشيرة وأفرادها، وكذلك لرجال الدين وخطوطهم الحمر التي خطت باسم المقدس.

كلما تقدمنا أكثر في عمق صفحات الرواية نرى أن علي لفتة سعيد أراد، من خلال تلك الأحداث، أن يطلع القارئ على ما أظهره من عمليات القبح والجهل واستغلال الظروف، بسبب فقدان جميع أو بعض القيم الإنسانية الراقية، من خلال التعامل مع الآخر باعتباره إنساناً له مشاعره وأحاسيسه وحاجاته وخصوصياته. وهؤلاء الثلاثة نعيم، وعبيّس، وستار مثلوا صورة طائر الفينيق، بإعادة تكوين الجسد بعد كل احتراق ليبعث من جديد قوياً وصامداً بوجه كل التحديات. إذن عبيّس ونعيم وستار لم يهمهم تهميش الآخرين لهم إن كان مجتمعاً حضرياً أو عشائر تقودها التقاليد والعادات، والراوي سعيد لم ينس ما لمدينة سوق الشيوخ من إرثٍ فني وأدبي تمثل في الغناء، خاصة طور الونين الذي تشتهر به تلك المدن والقرى الجنوبية، وكذلك شعر الأبوذية وما يعنيه من تراث شعري يمثل الهوية الأدبية للمضائف والقرى والأهوار في سوق الشيوخ.
ومن ضمن الذاكرة الزمكانية للأحداث ينقلنا الراوي إلى مسألة الانتماءات الحزبية وصراعاتها الأيديولوجية بين المحور البعثي والمحور الشيوعي أو اليساري، ورغم استخدام الروائي للرمز في ما أظهره من تبرير، من خلال تناوله للأسماء او التواريخ أو الأحداث إن كانت مخيلته أو استمدها من الواقع كحقيقة. لكن وفي كل الحالات لم تكن حقيقة مطلقة، لذلك كانت مدينة سوق الشيوخ في وسط تلك الاشتغالات لتظهر في صناعة حديثة للتأريخ الذي قد يكون أهملها كل تلك السنوات. ومع استغراقنا في السير مع سعيد، نرى أنّ هناك صوتا مدويا للذاكرة اعتمد على صياغة وتوظيف عدد من الصور، بما فيها من مفارقات وطقوس وطاقات محتشدة ومشاهد تناص من وقائع تاريخية حقيقية.
رواية «حب عتيق» صادرة عن منشورات تأويل للنشر والترجمة في بغداد عام 2021، وقد جاءت في 317 صفحة من القطع المتوسط.

كاتب عراقي

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا