يتسم العمل السردي القصصي «عطر الخيانة» للكاتب المغربي عماد الورداني المنحدر من مدينة تطوان، أكثر المدن إخلاصا للسرد الحكائي، والصادر عن منشورات اتحاد كتاب المغرب، وعن مطبعة عكاظ الجديدة في الرباط، بقدرته على صناعة عوالم متعددة قائمة على مرتكز الذات المتسمة بطاقة شعورية خلاقة قادرة على استكناه الحياة الداخلية بمشاعرها وعواطفها وحدسها اقترابا مما يسميه برغسون بالفعل الحر، المعبر عن الذات العميقة. وهو ما يفسر الحركة القوية النابعة من الذات في اتجاه الذات نفسها عبر جهد حدسي يتوخى التفكير في الحياة والعبور نحو تخومها القصية. ولأنها عصية على الوصف فإن مهمة القاص عماد الورداني في مجموعته « عطر الخيانة» ارتبطت بالإقامة في أرض لا تتوقف عن تذكر سيرتها وتذكر الشمس الحارقة.
قدم القاص عماد الورداني عنوانا ملتبسا لمجموعته القصصية، ارتباطا بالبنية التركيبية للعنوان، والأنساق ذات الصلة بالتوهج المرفق بانفتاحه على الحدس الذي يراد تبئيره وإبرازه كمكون مهيمن في المجموعة القصصية، فضلا عن امتداده الدلالي ارتباطا بالعناصر الأخرى المشكلة لكينونة العمل وهويته السردية. ويكاد المكان يختفي في العناوين الفرعية المشكلة لهذا العمل القصصي الذي يتوزع بين مكون حدثي براني حركي مثل القرية، الجبل، المدينة، وآخر ثابت مرتبط بوضعيات نفسية تحمل الكثير من المشاعر المتضاربة، عبر سرد مركب يشيد إبداله الدلالي في المسافة بين الحقيقة والوهم، وبين النوازع الإنسانية والحلم. فلا وجود لانتصارات كبرى في حيوات المجموعة، لأن جل المواضيع مرتبطة بالحياة اليومية في بساطتها. على نحو ما نجد في قصة «حلم مؤجل» لكن قوة السرد لا ترتبط بالمحكي فقط، بل في التقنية التي وظفها السارد لرصد وتقديم هذا المحكي وكشف المصائر. لتجلو الدلالة بشكل مضاعف أمام القوة الالتباسية للتعبير السردي المرتبط بطاقة الحدس الخلاقة على نحو ما نقرأ في هذا المقطع: «الواقع أن شقته الصغيرة تحولت إلى مزبلة تفوح منها روائح مختلفة».
مهمة القاص عماد الورداني في مجموعته «عطر الخيانة» تتجاوز البحث عن تاريخ الانتصارات بتعبير مالينوفسكي، لأن الذات في هذا العمل معنية بمطلب التعبير والعبور نحو الأقاصي، وضمان الحركة الدائمة للمعنى الدافق، هذه الحركة التي تنشط المحكي السردي، سواء عبر التوتر، أو عبر الانفلات من سلطة المدلول الجاهز. وبموجب هذه الحركة سيعمل القاص عماد الورداني على توظيف لغة تحمل قلقا أنطولوجيا يتمظهر عبر أحداث جوانية تأبى الانحباس في الداخل. وبناء على ذلك تقدم «عطر الخيانة» مقترحاتها وفق منطوقها السردي وطاقتها التخييلية المخصوصة. فالحواس كعنصر فاعل هي موجهة لهذا العمل على نحو ما نجد في قصة «رائحة لا يقبلها أحد» أو في «جاذبية وردة» بما يكشف ثراء الاحتفاء بالأحاسيس. كما أن الوصف يخلق إيقاعا نثريا قويا يتسم بالتشابك والتنوع، خاصة في قصة عطر، حيث الحكي يتداخل بالوصف الأسطوري لجبل إيفريس المقدس، ولجيوش المارد «ماتياس» الذي قاد حربا من أجل اقتلاع ورود القرية. إننا أمام رؤية متكاملة العناصر للنفاذ إلى أعماق الذات بحثا عن الروائح المنعشة التي تعد بمثابة النواة أو البؤرة السردية التي تنظم مختلف العناصر، وموجهات السرد القصصي فلكل عطر قصة، لذلك تحولت وظيفة الأم من إعداد فطور الصباح، إلى إعداد عطر الصباح.
ولن يكون حنين السارد لأمه على شاكلة محمود درويش في حنينه لخبز أمه وقهوة أمه، بل بحنينه لعطر الخلاص الذي كان يرش ثلاث مرات في اليوم، وهي المرات التي يشرب فيها الورد من السماء. الصوت الداخلي مقرون بتتبع الأحاسيس كطريقة للكشف والارتقاء بمعنى الابتعاد عن التمثلات المألوفة، والسعي نحو الرصد الدقيق للتوترات النفسية، والاحتفاء العلني بالأصوات» دارنا عامرة، تعج بالأصوات. أمي تترأس مجلس الأمداح حيث تحتشد نساء الحي لأداء طقس أسبوعي، يبدأ بالوعظ والإرشاد، وينتهي بالإغماءات، بينهما تنهمر الدموع، ترتفع الأصوات، تمزق الملابس، تشوه الوجوه». وكأننا أمام توافق موسيقي هارموني الحركة من خلال السرعة الإيقاعية للسرد المرتبط في هذا النص القصصي بالسجل الواقعي كدلالة على طقوس تربوية وروحية، وعلى النظام الهندسي لكثير من البيوت التقليدية، خاصة منها المورسيكية. الحديث هنا ينصب على مصيرية المكان الذي احتضن الجدة قبل رحيلها الأبدي واحتضن السارد في بحثه عن عطر اللذة.
في نص «حذاء الرافيا» تستمر هذه الرحلة لكنها تخرج من أغوار الذات لتعود إلى الفضاء العام (المقهى، المحطة..) وستكون الموسيقى مرة أخرى وسيلة لتحقيق اكتمال الذات، وانكشاف كينونتها عبر أغنية جاك بريل الذائعة الصيت Ne me quite pas الحاملة لذكرى لقاء لم يتبق منه سوى ذكرى الحذاء المتشابك الألوان. وسيركز السارد على خيوط مغايرة في نص «رائحة الموت» لضمان حبكة سردية تنصت للأصوات الخارجية المساهمة في تطور الحكي عبر علاقات الاتصال بالعالم، وعبر تعدد الفضاءات الحكائية باستثمار متخيل سردي وحكائي يركز على مصير «شامة» المرأة العجوز المنتمية لقرية هجرتها الحياة بفعل انتشار الوباء. ومرة أخرى يفلح القاص عماد الورداني في جعل الإحساس مادة للاستثمار السردي، اقترابا من الطبيعة الشعورية للكائن، طالما أن كل الموضوعات مرتبطة بالشعور الإنساني. فالنظر إلى ذات «شامة» ليس فقط في ضوء تجربتها المعيشة، بل في ضوء الأحاسيس ونداء الداخل. وستشكل الصور الاستعارية قوة بلاغية تميز هذا النص بشكل أساس، وتكشف أن لا وجود لأنا خالصة». كلما صرخ موج، سقط جزء من شامة».
وتكشف الممارسة النصية لـ»عطر الخيانة» اعتماد القاص عماد الورداني على متواليات تولد الدلالة عبر اتساق دلالي مرتبط باليد. يد الأب التي أمسكها السارد، ويد النادل، واليد الناعمة. فالفعل السردي في «سأرفع يدي..» يرتبط بقدرته على الابتعاد عن السرد التقليدي للحكاية، وصناعة مغامرته الخاصة عبر نسيج الحياة، وعبر البحث عن الغامض في الذات الإنسانية، والإنصات للأحاسيس الراصدة للمواقف الإنسانية وللقصص المتعددة الأبعاد. وللعلاقات الزمانية الملتبسة، وللحكي السردي القادر على تجديد الماضي وامتداده نحو الحاضر. وحتى إن تعلق الأمر بـ»أنت هو أنت» فإننا إزاء تدفق نفسي وحالة إبداع لكنه لا يتجه بالضرورة نحو الآتي على نحو ما حدده ميرلوبونتي بقوله «ليس الخلق مسرحية تسير نحو المستقبل. إنه جهد خائر والتاريخ الإنساني وسيلة لإحيائه من جديد» لكنه يتجه نحو ماضي الذات وسيلته في ذلك الأحاسيس كنقطة انطلاق ونهاية. إنها «لحظة مستعادة» ترتبط بكثرة الأفعال والانتقال السريع بين الفضاءات والحلالات الشعورية الكاشفة للجوهر السيكولوجي، والإحساس المتسامق الى أعلى درجات التوتر، والخلق الجمالي على نحو ما نجد في «عطر الخيانة» التي تكشف «دزاين» مغاير يشيد إدراكه الأنطولوجي بالاعتماد على الحواس بما تمنحه من طاقة خلاقة، وقدرة على توسيع دائرة الاشتغال القصصي. مانحا عمله اكتمال المعنى عبر إمكانية استعادة الماضي وتأويله، والتفكير فيه عبر الحواس وليس عبر التذكر. وهو ما يبرر فراره من الفرح ونزوحه نحو الألم بتأمل فلسفي يكشف قلبه المهشم بعطر الخيانة. ويكشف الاغتراب النفسي الذي وجد في نص «سفح الخطيئة» مجالا لهذا الإدراك الأنطولوجي، من خلال سيرة الرجل الذي يعيش في الكوخ الجبلي خارج الزمن، حيث لا صوت ولا جسد ولا لغة سواه. لكن هذا الرجل تمزقه حالة من الانشطار. الإقامة في الأعالي والحنين الجارف نحو السفح. وهذا الانشطار يكشف الطاقة الترميزية لكتابة توفر التناغم الفريد لذات الإنسان الذي يفتقر تماما إلى وجود مستقر، ويسرع في زوال سرمدي، على حد تعبير كيركيغارد.
في المجموعة القصصية «عطر الخيانة» نلمس الكتابة قيد الاحتمال عبر استخدام المادة السردية للحكاية العجائبية، قصة الطريق إلى النور على سبيل الذكر، فالقصة قابلة لحمل دلالة أسطورية ارتباطا بشخص يطوي المسافات، وبإشارات غير واضحة، فالضوء يحيط به والسارد يسعى إلى فك شيفرة هذا النور، وفي الوقت نفسه خلق إرباكٍ دلالي للمتلقي عبر اختلاف الآليات السردية وتعدد مواقع الصوت السردي، وتوظيف تقنيات سردية من قبيل تقنية الحذف، والتجريد، وما لم يتحقق المزج بين الشاعرية والسرد، وبين التأمل والحكي، وبين السخرية المبطنة والتوق إلى شكل جديد، والاختلاف والتجريب كفعل محول لقابلية الاحتمال في الكون الإبداعي لهذا العمل المتسم بهيمنة الإدراك الحسي، المعبر عنه بآليات سردية متنوعة قائمة على التذكر والوصف والحوار، خاصة الداخلي منه، ولغة قصصية شفافة راقية تبدو وكأنها شدو لموشح أندلسي، يكشف الخلجات النفسية بالاستناد لطاقة بلاغية وجمالية رفيعة. ومحكي سردي متنوع، كما هو الحال في نص «سيدي المخفي» حيث الخلوص إلى رؤية دقيقة لذاكرة الذات في علاقتها بالمقدس، و»السيجارة التي بداخلك لا تطفئ» والقدرة على جعل السيجارة ذاكرة للسفر والتنقل بين فضاءات المجال العام، وسواء تعلق الأمر بـ»ولادة اضطرارية» «وجها لوجه» «لحظة مستعادة» فلا وجود لجوهر ثابت فلا وجود لجوهر ثابت في «عطر الخيانة» التي تحتفي بالحواس بشكل جمالي يذكرنا بسيرة رجل استثنائي احتفى هو الآخر بالحواس على نحو مدهش، وجمع بين الثقافات، وأقصد بذلك الرجل الذي خلق في «بوينس أيريس» وتربى في سويسرا وعبر نحو مختلف الثقافات الإنسانية، يتعلق الأمر بخورخي لويس بورخيس.
عماد الورداني في إنصاته العميق لهدير الحدس ودفقه الدلالي، يشبه سقراط وهو يشرب سم الحقيقة. لكنه فضل مقولة نيتشه «السم الذي لا يقتلني يزيدني قوة» ليجعل من الحدس طاقة استثنائية للخلق السردي القصصي المتسم بتغييرات حادة في زاوية النظر، وبقدرات اللغة في ما يسميه جاك لاكان بالقطب الاستعاري، فضلا عن النظام اللفظي الذي يرتفع بـ»عطر الخيانة» إلى ميتالغة تقول حقيقتها بما هي طاقة من المحتمل الدلالي، ومن تنظيمات تركيبية قائمة على تنوع الجمل، وعلى تحولات العلاقة بين الذات والآخر، وهي العلاقة المحكومة بالرغبة، ليس الرغبة بالمفهوم الفرويدي، لكن الرغبة المرتبطة باقتناص الرائحة التي من خلالها تصل الذات إلى الاكتمال. بعيدا عن حراسة الأنا كمستودع للذاكرة والأحداث، والابتعاد عن الموضعة الجاهزة للأحداث، لذلك كان الورداني في عوالم هذا العمل القصصي يخلق أساطيره الخاصة ليشتغل عليها وفق رؤاه المخصوصة القادرة على تحريك الدلالة، عبر تحريك السرد وجعله متشظيا، والتركيز على جزئيات دقيقة في مشهدية الحدس، وخلق أنساق مرتبطة بالصور الذهنية، وبالفضاءات التي شكلتها بوعي عميق رائحة الجبل، رائحة الأرض، رائحة الحب، رائحة المكان الأمومي، الرائحة هنا مساهمة في تشكيل الهوية الذاتية بالمفهوم الهيدغيري. ويبقى السؤال هل استطاع القاص عماد الورداني وهو يتسلح بلغة الإيحاء والصور والتشبيهات والمجازات والاستعارات، وبالمعنى بما يتضمنه من ثراء وجدة وجهد أن يصل إلى الرائحة المشتهاة؟
كاتب مغربي