يمثل الفن إبداعا بشريا وصنعا لأثر طابعه الجمال
وغايته المتعة، وهو إذ ينطلق من الذات لإبداع أشكال تعبيرية مبتكرة سواء بالرسم أو
النحت أو النغمة أو الكلمة أو الرقصة أو التمثيل، يتخطّى كل الضوابط الموضوعية ـ غير
الجمالية ـ ويسعى إلى اكتساب شرعية استثنائية، يمنحها إياه طبيعته المتمردة وفورته
القادمة من الأعماق. من هنا يعدّ الفن حرية خالصة، لا تستمد شرعيتها من خارج العمل
الفني أو من أية قواعد غير قواعد الإبداع الجمالي، فأصبح الفن لذلك المجال الذي يمكن
فيه للكائن البشري التعبير عما يستعصي قوله أو كشفه في المجالات الأخرى التي تحددها
الضوابط الاجتماعية والأخلاقية والدينية.
فهل يمكن للفن أن يظلّ في إطار ضوابط أخلاقية أو
خطوط حمراء من أي نوع ؟ و هل يستجيب "الفن في حدود الأخلاق" لحاجات المجتمعات
والأفراد ؟ و ما هي هذه الحاجات التي لا يمكن تحقيقها في إطار ضوابط التقاليد والعادات
؟ و ما هي الأدلة والبراهين التي تدلّ على استحالة إخضاع الفنّ لمنظومة قيمية مطلقة
وثابتة ؟
الإبداع الفني كما أسلفنا يتمّ في إطار نزوع ذاتي
محض، فقد قيل إنّ "الأذواق لا تناقش" إشارة إلى أنّ ما يتعلق بالجمال والذوق
هو أمر ذاتي لا دخل فيه لعوامل موضوعية أو لقيم جماعية، ولهذا كتب كلود برنار في كتابه
مدخل إلى الطبّ التجريبي يقول:"إنّ الفنّ هو أنا بينما العلم هو نحن"، إشارة
منه إلى أنّ الحقيقة العلمية يلتقي عندها الكلّ لأنها مبرهن عليها انطلاقا من قواعد
مشتركة في العقل البشري، الذي يفكر بطريقة منطقية وتجريبية وهو يدرس العناصر الطبيعية،
بينما يتميز الإبداع الجمالي بانفلاته من هذه المعايير والضوابط وبخضوعه لدواعي الذات
الفردية لا غير، مما يجعل مستحيلا تفسيره انطلاقا من قواعد مشتركة منطقية أو أخلاقية.
وهو ما أكّد عليه بروست أيضا في قوله :"الحسّ
الفني خضوع لواقع داخلي"، ما يعني استحالة جعل الفنان يخضع لواقع مفروض من منطلق
تقاليد أو عادات أو ضوابط أخلاقية، إذ الفن هو تمرّد على ذلك كله بغاية التعبير الحرّ
عن مكامن الذات الإنسانية، وهو تمرّد محمود ومقبول اجتماعيا، لأن الناس يعتبرونه إبداعا
جماليا وليس تعبيرا مباشرا باللغة العادية، فلو قام أحد ما بالتلفظ بعبارات جنسية فاضحة
لعاب عليه الناس ذلك، و لكن عندما يقوم شاعر بالتعبير عن نفس الشيء في قصائده يتداولها
الناس بشكل طبيعي كما يفعل الفقهاء عندما يحفظون ويتداولون شعر الغزل بما فيه الأكثر
إباحية، وكذلك إذا ما خرجت إمرأة عارية إلى الشارع سيعدّ ذلك انحرافا وخدشا للحياء
العام، ولكن رؤية جسد أنثوي عار في لوحة فنية أو فيلم سينمائي يعدّ أمرا مقبولا، بل
تجد هذا النوع من الأعمال الفنية موضوع ترحاب كبير واحتفاء لدى الجمهور الذي اكتسب
قدرا من الثقافة الفنية.
من هذا المنطلق تحكم النظرة الذاتية العمل الفني
كما تحكم رؤية الفنان للعالم، وقد عبّر عن ذلك الشاعر الفرنسي بول إلوار عندما قال:
"أن أرى العالم كما أنا لا كما هو" .
من جانب آخر أعتقد أنه لم يعد ممكنا الحديث عن الفن
اليوم ـ ومنه السينما ـ بدون استحضار التحليل
النفسي الذي أظهر بشكل عميق علاقة الإبداع الجمالي بالمكبوت اللاشعوري، فالعمل الفني
إفراج عن رغبات مكبوتة غير قابلة للتحقق المباشر بسبب الزواجر الاجتماعية، غير أن هذا
الإشباع يتمّ يشكل غير مباشر و بطريقة يقبلها المجتمع ويجنّب الأنا (الوعي و الشعور)
توبيخ الضمير الأخلاقي (الأنا الأعلى) الذي يمثل رقابة المجتمع، هذا التفسير التحليلي
النفسي للفن جعل البشرية تفهم ليس فقط عمق الفن في حياتها النفسية بل و ضرورته القصوى
أيضا، فالذين يسعون إلى تحجيم دور الفن عبر إخضاعه لرقابة أخلاقية أو دينية لا يفهمون
بأن الفن في جوهره إنما وجد لإشباع الرغبة المصادرة أخلاقيا أو دينيا، فهو بمثابة نوع
من التعويض النفسي، و جعل الفن بدوره يخضع لنفس الضوابط التي يخضع لها السلوك الاجتماعي
يعني دفع الأفراد إلى الانفجار، و هو ما يفسر شيوع نوع من الهذيان الجنسي في المجتمعات
المحافظة أو التي تعرف رقابة أخلاقية مشددة كالعربية السعودية و إيران و السودان، حيث
ينشغل الناس بالجنس بشكل مرضي، كما تعرف العلاقات خللا بنيويا بسبب تفاقم مشكل الكبت.
يبين هذا أن الفن في حدود الأوامر و النواهي الأخلاقية
والثوابت التقليدية المحافظة لا يمكنه إشباع حاجات المجتمع وأداء الوظيفة التي من أجلها
وُجد، كما يفسر أسباب ارتباط الفن بالحرية واستحالته بدونها.
فالذين يسعون إلى "حماية" المجتمع من
"الانحلال" المنبعث من الفن هم ضحايا منظور طهراني إلى الإنسان وإلى المجتمع
لا يطابق حقيقة البشر، كما أنهم يتصرفون ضدّ مصلحتهم، ذلك أن الحجر على الفن والتضييق
عليه من شأنه أن يضاعف الجموح الجنسي وثورة الرغبات لدى أفراد المجتمع خلافا لما هو
معتقد، والدليل على ذلك ما يحدث في الدول الدينية ذات الأنساق السياسية المغلقة والمبنية
على الرقابة المشدّدة.
إنّ الإبداع الفني علاوة على وظيفته النفسية لا
يتحقق إلا في إطار نزوع كوني، وهذا لا يعني انعدام الخصوصية في الفن، حيث تخضع عملية
الإبداع الفني لتأثير الخصوصية الثقافية بلا شك، لكن ليس بالشكل الذي يجعل الخصوصية
تخنق العمل الفني أو تحاصره أو تضع له خطوطا حمراء أو تفرض عليه معايير غير جمالية،
لأن الخصوصية في الفن منفتحة وتفاعلية وليست مغلقة، إنها خصوصية خلاقة، قد تكون لها
صلة ببعض تلوينات الواقع المحلي، أو ببعض العناصر الثقافية الخاصة بمجموعة بشرية ما،
وقد تتمظهر في الألحان والإيقاعات والألوان والأشكال الهندسية، ولهذا لا يرضخ الفن
للخصوصيات الدينية أو العرقية أو الطائفية من أي نوع إلا عندما يتخلى عن مهمته النبيلة،
وإنما يقوم برسالته الإنسانية التي تعتمد القيم الكونية.
لا يعني ما ذكرناه أن كل الأعمال الفنية هي بالضرورة
في مستوى الجودة المطلوبة، ذلك أنه كما يمكن الحديث عن الجودة، يمكن الحديث عن الرداءة
في الفن أيضا، وقد غلب على كثير من الناس الخلط بين الرداءة والواقعية في الفن، حيث
يعتبرون ذلك صادما لوجدانهم، لكن مقصودنا أن نقد الفن وتقييمه لا يكون إلا بأدواته
الخاصة، وليس عبر التشهير والتحريض والترهيب، لأن الفن مهما كان مستوى العمل المنجز،
لا يستدعي العنف بل يسعى إلى إنهائه.