في رسالة مؤرخة في فاتح يوليوز 1925 وموجهة إلى صديقه في الحياة والإبداع فرانسيس سكوت فيتزجيرالد، يكشف الكاتب الأمريكي الشامخ إرنست همنغواي عن تصوره... للجنة! «العزيز سكوت، يكتب صاحب «الشيخ والبحر»، (...) أتساء ل عن الشكل الذي يمكنك أن تتصور به الجنة: فراغ رائع يعج بأغنياء متزوجين امرأة واحدة، نافذين ومنتمين لأسر كبيرة، وسكيرين حتى الثمالة. «أما جهنم، فهي تبدو ربما فراغا فظيعا يعج بفقراء متعددي الزوجات، عاجزين عن شراء خمر رديء أو مصابين بأمراض معوية مزمنة يسمونها بالأحزان السرية.» أما الجنة كما يتصورها هو، بل كما يجب أن تكون، فهي «حلبة فسيحة» يتوفر الكاتب في رحابها على مكانين اثنين، حلبة في خارجها «بحيرة لسمك الترويت لا حق لأحد (غيره) الصيد في مياهها». جنة إرنست همنغواي تشتمل أيضا على «بيتين جميلين في المدينة». في المنزل الأول، ستقطن زوجة الكاتب الذي فارق الحياة منتحرا وأطفاله، فيه سيعيش كرجل ذي زوجة وحيدة، وبين جدران عش الزوجية ذاك سيحب زوجته وأطفالهما كثيرا وبالوفاء اللازم. أما في الإقامة الثانية، فستقيم كل واحدة من خليلات الكاتب «التسع الفاتنات»، كل واحدة «في طابق من طوابق الإقامة التسعة». لنوعية الورق المستعمل في مراحيض منزلي إرنست همنغواي الفردوسيين مواصفات خاصة. في مراحيض كل طابق من الطوابق التسع لبيت الخليلات التسعة، ستستعمل النسوة الفاتنات، ومعهن عشيقهن، للنظافة بعد قضاء الحاجة، مناديل كلينكس جد مميزة: مناديل ورقية طبعت عليها نسخ خاصة من مجلة «ديال» جد المؤثرة في حقل الكتابة الأدبية الحديثة باللغة الإنجليزية ما بين 1920 و1929. أما مراحيض بيت الزوجة والأطفال، فستتوفر على ورق صفحات مجلتي «أمريكان مركوري» و»نيو ربوبليك». جنة هيمنغواي ستحتضن أيضا كنيسة جميلة شبيهة بكنيسة قرية مابولين، «يمكنني زيارتها للاعتراف للكاهن بذنوبي وأنا في طريقي من أحد البيتين إلى الآخر». في الفردوس، سيمتطي مؤلف «رجال عند الحرب» صهوة جواده للذهاب، بمعية ابنه، إلى مزرعة تربية المواشي التي سيمتلكها هناك. وهو متوجها إلى المزرعة، سيرمي همنغواي قطعا نقدية لأبنائه غير الشرعيين القاطنين طوال الطريق. يضيف الكاتب في رسالته الموجهة لصديقة سكوت فيتزجيرالد: «في المزرعة، سأكتب كلمة وأرسل ابني ليوصد بالأقفال أحزمة عفة عشيقاتي لأن شخصا ما حل على التو بالمدينة على صهوة فرسه الراكض، مخبرا سكانها بأن رجلا متزوجا من امرأة واحدة ومشهورا، يدعى فيتزجيلراد، شوهد متوجها بحصانه إلى المدينة، وهو على رأس مجموعة من السكارى الجوالين». ورغم ما تتضمنه الرسالة من بوح ومن «قرب»، فالعلاقة بين محررها والموجهة إليه لم تخل من غيوم. وقد كشف بعض ملابساتها كتاب «همنغواي ضد فيتزجيرالد: صعود وسقوط صداقة أدبية» لسكوت دونالدسون. التقى الأديبان، وفق الكتاب، لأول مرة في باريس ليحصل تفاهم عميق بينهما آنذاك، ما جعلهما يحتسيان ما لا يقل عن خمس زجاجات نبيذ خلال سفرهما حينها من العاصمة الفرنسية إلى مدينة ليون. همنغواي المغمور أيامها سيصف صديقه واسع الشهرة بسبب نجاح روايته «هذا الجانب من الجنة» الصادرة سنة 1920 ، بأنه «متحمس مثل فتاة»، لكنه سيعود لاحقا ليسمه بالمخنث والجبان والضعيف. انتقادات همنغواي لصديقه «اللدود» لم تتوقف عند هذا الحد، إذ اتهمه بلا لف ولا دوران بكونه يهدر موهبته الذهبية عبر هجر سمو مركزه الأدبي والإبداعي والتنازل عنهما تنفيذا لشروط النشر في المجلات الشعبية، وتوجهه إلى هوليود لصياغة سيناريوهات أفلام بعضها عرف فشلا مدويا بعد الإنتاج. سهام نقد إرنست همنغواي للصديق الذي شرع أمامه أبواب الأوساط الأدبية أصابت حياة فيتزجيرالد الشخصية أيضا، هو الذي ظل وفيا طوال حياته لزلدا، ولم يتخل عنها حتى بعد إصابتها بالجنون. كتب مبدع «الشيخ والبحر» في هذا الصدد: «يا لسكوت المسكين، كان عليه استبدال زلدا قبل خمسة أو ستة أعوام عندما كانت لا تزال صالحة للبيع». وإذا كان همنغواي قد تزوج، بخلاف فيتزجيرالد، أربع نساء، فقد كانا معا مدمنين على الكحول. إن هذا الإدمان، ومعه تعدد زيجات إرنست همنغواي وإخلاص صاحبه لامرأة واحدة، مفاتيح دالة ترفع بعض الغموض عن رسالة الأول للثاني التي تساءلت عن تصور كل واحد منهما للجنة.