ليس هناك أي مجال لسوء الفهم. أحيانا يخطر لي أن
الصحافة غلطة مميتة، وأنها أشبه بتربية العناكب والجرذان، عن عمد، لتسميم ذلك العالم
الجميل المشحون بالارتياب
الذي نسميه الأدب؛ يخطر لي أنها موت بطيء في تلك المنطقة
المحايدة التي يصنعها الدوام الوظيفي، وأنها تتأسس على المظهر الجاد والمتزمت. هناك
تخوم كابحة، وهناك مطاردة لأشرار نعرف جميعا من أين اقتنوا ضغائنهم، كما أن هناك إغماضة
عين أشبه بمسرحية هزلية نساهم جميعا في إخراجها، ونحرص جميعا على تحريكها وتحويلها
إلى «قضية رأي عام».
إن الصحافي هو الذي يتدبر اليومي والطارئ والسريع
الزوال. أما الأديب فهو المعني بالحالات الداخلية، بالعمق والمشقة والقلق. ولهذا، أنا
أزعم بأنني، مع حلول كل يوم جديد، أعقد تسوية مع نفسي، وأنني أجازف بتعريضها للقصف
بقليل من الاهتمام؛ فما أنا في نهاية المطاف إلا متفرج: لست زعيما محنكا، ولا راعي
إسمنت، ولا مصارع ثيران. وأدعي بأن هذه الأشياء تسبب لي الضجر، وأن سؤال «من الأقوى»
(السؤال الذي يحكم العالم) يثير لدي إحساسا بالعزلة والتمرد، والرغبة في العيش في مكان
آخر، خارج الأرض ربما.
ومع ذلك، لننظر إلى الموضوع من زاوية أخرى. فالصحافة
ليست قلبا باردا، وهي تمنعك من النوم ورأسك مسندة إلى النافذة، كما تجعلك تشعر بالهدير
الذي حولك.. ومعها لا ينتهي أي شيء. أو دعني أقول إنها وجهة نظر تجعلك على دراية بالحساء
الفاسد الذي يعده الزعماء للشعوب المغلوبة على أمرها.
مع الصحافة بإمكانك الاستغراق في كل الروائح، كما
بإمكانك أن تصغي إلى كل الأصوات بطاقة القادر على الملاحظة والفرز، وعلى إعادة التشكيل
والبناء. بل إن بوسعها أن تنمي لديك ذلك النزوع الهزلي لتصحيح هشاشة الواقع؛ وهذا ما
يمتلئ به الأديب ويسعى إليه : أن لا تكون رؤاه مخدرة أو مرتخية أو مغشيا عليها. أن
لا يتكلم ورأسه محشورة في إناء من الماء. أن يملك تعبيره الخاص والاستثنائي. أن يتحول،
على نحو واع، من أشكال فنية إلى أخرى. أن يكون قادرا على تجريب الخلطات وتركيبها.
إن هذا هو الأفق (إغناء التجربة وإدراكها في كل
أبعادها) الذي أنتمي إليه، وهذا ما نجح فيه القاص والروائي والشاعر الإيطالي دينو بوزاتي
صاحب «صحراء التتار» الذي كان يقول في كثير من الأحيان إن خلفيته الصحافية تضفي جو
الواقعية حتى على أكثر قصصه فانتازيةً. وهذا هو الأفق أيضا الذي انتمى إليه كتاب عالميون
أمثال غارسيا ماركيز وإرنست همنغواي.. وآخرون. ولهذا، فالصحافة ليست مستحضرا زيتيا
لتلميع الشعر، بل هي تمرين على حبس الأنفاس إذا ما أصابك تشنج عضلي في فهمك للأشياء.
هذا على الأقل ما تعلمته من تجربتي الصحافية المتواضعة. تعلمت كيف يمكنني أن أمشي على
أرضية باردة وأنا مغمور باليأس. تعلمت أن أنظر إلى «الحقيقة» من ارتفاع ستة أقدام.
تعلمت ما معنى أن تضطر للكتابة عن مياه المجاري والحرائق والفضائح، وكيف تغمر الأوساخ
بكتل الصابون حتى تصبح أكثر لمعانا.
أما الأدب، فهو يرسل إلى كل ذلك نظرات حادة. هو
نبرة التحذير التي لا تنطلي على الصحافة. هو اليقظة القصوى في عالم يتحيز للبنج بدل
الصواعق. إن الأدب تأمل عميق في هذا السيرك الواسع الذي يقدم عروضه في الهواء الطلق،
تأمل في ما وراء الفرجة والوجوه والأقنعة والدموع والآلام. بينما تكتفي الصحافة بالقشرة
الخارجية، بالكلام، بالسيناريو، بالمعجزات، بالتصفيق.
إنني أزعم- وأتمنى أن يكون ذلك حقيقيا- أن الأدب
لا ينقاد إلا للإرغام الجمالي الذي لا يمكن تفسيره. أي أن الكاتب يسترد نفسه في الأدب،
ويكاد يضيعها في الصحافة التي تجبره على التحيز، في لغته ومعالجته، للأبواق والأضواء
وقرع الطبول. ومن ثمة، فالصحافي يتحول إلى «آكل نار» ليعجب الآخرين، وعليه أن يغويهم
ويستدرجهم لـ «استهلاك» ما يقترح عليهم من أطباق. إنني أزعم، تأسيسا على ذلك، أن الأدب
يرقص مع الصحافة طوال الليل، لكن دون أن يكون مضطرا إلى مرافقتها إلى الفراش. إنها
مجرد رفيقة، وليست عشيقة.. وما ينبغي للكاتب الذي يمتهن الصحافة أن يجعل الأدب تابعا،
أو أن يجعله مساحة للتسلية، ولا أن يتعامل معه بارتفاع تام، بل يتوجب عليه أن يشعر
على الدوام بأنه يخوض بحرا يقف الصحافيون على شطآنه، وأن الأدب هو النور الذي يضيء
كل الأشياء.. إنني متحيز للصحافي الذي قرأ هوميروس وأوفيد والمتنبي ولوركا وموراكامي
وإدوارد سعيد وزفيغ وكالفينو وماركيز وبيسوا.. إلخ، أكثر من تحيزي للصحافي الذي يحفظ
قواعد الصحافة عن ظهر قلب.
إن الصحافة والأدب ليسا منفصلين أو متباعدين بعمق.
فالأولى ضوء على «واقع» معين يمكن أن تصنعه سياقات مختلفة، أما الثاني فضوء يعكس قوة
الخيال بلا هوادة، ليمنح «الواقع» وجودا آخر. إن كليهما إذا شئنا الدقة يحملان وجهة
نظر حول الحدود. فالصحافة ترسم الحدود والقواعد والممرات، بينما الأدب يحاول أن يحلق
نحو حياة أخرى، ونحو وجود آخر تصنعه البراري والضواري والسماوات.