القاص إدريس الخوري
«حينما يكتب يوسف أجلس أمامه، ويقتصر دوري
على إعداد الشاي أو القهوة، وبعد أن يكتب جملة أو جملتين يندمج تماماً، ويغيب عن كل
ما حوله ويبدأ في التشويح والإشارة
ويتمثل الشخوص التي يكتب عنها ويشعر إنها حوله تكلمه
وتلمسه. كتابة المسرح عنده حالة أصعب لأنه يستحضر الحاسة الجماهيرية في نفسه ويستحضر
الحالة المسرحية
الكاتب سامح فايز
ليبثها في نفس الجماهير، عندما كان يكتب مسرحية الفرافير كان في حالة
صعبة جداً، وقد رأيته بنفسي يقف أمام حوض الاغتسال يشيح بيده ويبكي بدموع حقيقية».
كلمات زوجة الكاتب الكبير يوسف إدريس نستحضرها في
محاولة للكتابة عنه. لكن حين نبدأ البحث نستشعر العجز ونقف طويلا أمام تفاصيل عدة تحتاج
كل واحدة منها إلى كتاب بحد ذاته. ورغم أنه قد سطرت العديد من الدراسات وصدرت مجموعات
من الكتب سعت لسبر أغوار عالم إدريس الإبداعي إلا أنه لا يزال حقلا خصبا لكل باحث أو
دارس يبحث في عالم القصة القصيرة سواء في الوطن العربي أو العالم.
حين نتحدث عن بلورة فن القصة القصيرة على يد يوسف
إدريس فنحن لا نغفل دور من سبقوه؛ لكن إدريس قنن القصة القصيرة بشكلها الحداثي، وخرج
بها من المدرسة الرومانسية إلى واقعية المدرسة الحديثة في الأدب، ليكون أول من طرق
باب الواقعية في القصة القصيرة في مصر والوطن العربي. ليتمثل تشيخوف وجوركي وديستويفسكي لكن بشكل يجعل إدريس ندا وليس مقلدا، بل وفى أحيان
أخرى يتميز يوسف إدريس في قدرته التشريحية التي تجعله ينقض على الشخصية على عكس كتابة
تشيخوف الهادئة كمثال.
يوسف إدريس الكاتب الشاب الذى صدرت مجموعته القصصية
الأولى وهو في السابعة والعشرين من عمره بعنوان «أرخص ليالِِ» ليحجز مكانه بين الكبار،
لم يكن نبتا شيطانيا، لكنه كان زرعًا مصريًا خالصًا على مدار سنوات، وكانت أولى دورات
حصاده، هذه المجموعة القصصية التي شكلت نظريته في الأدب منذ السطور الأولى. وكانت البداية
الفعلية للواقعية المصرية.
ولد يوسف إدريس في 19 مايو 1927، في البيروم مركز
فاقوس بمحافظة الشرقية، ونظرًا لظروف عمل الأب التي جعلته كثير الترحال أرسل يوسف ليعيش
مع جدته في القرية.
التحق بالدراسة في كلية الطب، وكان ذلك في أوائل
الأربعينيات، ولمن لا يعلم فهذه فترة محورية في تاريخ الحركة الطلابية والعمل النضالي
ضد المستعمر، ولأن إدريس كان مهموما بالقضية الوطنية فما لبس أن وجد طريقه إلى الحركات
الشيوعية فانضم إلى «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» واختصارها الذي اشتهرت به
«حدتو». وتعد هذه الحركة الأكبر والأضخم في الأربعينيات إلى جانب أنها قلب الحركة الشيوعية
الثانية التي بدأت 1943 وامتدت حتى عام 1965.
وفى تلك الفترة التاريخية شهدت مصر أكبر انتفاضة
قادها الطلبة والتي اقتحمت مظاهراتها ميدان التحرير وقتل فيها العشرات من الطلبة على
حسب مؤرخين.
إلى جانب ذلك اشترك يوسف إدريس في تنظيم سري – انحصر
جهده في الإعداد للتدريب على السلاح بين الطلبة والعمال – باسم «اللجنة التنفيذية للكفاح المسلح»، واشترك
في حركة «أنصار السلام»، وكانت أولى رحلاته إلى أوروبا للاشتراك في مؤتمر أنصار السلام
في فيينا في فبراير عام 1952. وفي خضم الانغماس في العمل السياسي أثناء الدراسة كتب
يوسف إدريس أول قصصه القصيرة بعنوان«أنشودة الغرباء»، ونشرت في مجلة «القصة» مارس عام
1950. وبعد تخرجه نشر قصصه في «روز اليوسف»، وفي جريدة «المصري» اليومية، أهم الصحف
المصرية إثر حركة الظباط الأحرار في يوليو 1952.
حاز إدريس بكالوريوس الطب في العام 1947، وعمل كطبيب
بقصر العيني 1951-1960؛ وحاول ممارسة الطب النفسي سنة 1956، وكانت له عيادة في حى بولاق.
ثم اتجه للعمل الصحفي، حيث التحق بالجمهورية 1960، ثم جريدة الأهرام، 1973 حتى عام
1982.
في خضم هذه الأحداث تشكلت روح مغايرة لدى يوسف إدريس
ومع تأثره بالأدب الروسي، بدأ في استلهام المدرسة الحديثة في الأدب والتي غلب على أعضائها
السمة الواقعية التي اهتمت برسم الواقع الاجتماعي بما فيه من لمس للفوارق الطبقية والجهل
والظلم الاجتماعي.
ويعد إدريس بذلك الوريث الشرعي للمدرسة الحديثة،
حيث دافع عنها عن طريق إبداعاته. وانتصر للعامية في كتاباته بحيث جعلتها قريبة من الواقع؛
حيث إن إدريس كان متمردا على اللغة الفصحى وسعى في أعماله إلى تسهيل اللغة كي يكون
أقرب للواقع، حتى في لغة الكتابة، وليس سرد الأحداث فقط. وكان إدريس يهاجم على تهاونه
في استخدام الفصحى إلا أن أحدا لم يدرك حينها أن بين جنباتنا أديبا يسطر بيده نوعا
آخر من الأدب يحكي صرخات المهمشين بلغتهم، ليكون أمير القصة القصيرة فيما بعد بإجماع
النقاد.
ورغم صدور بعض الأعمال لـ “يوسف إدريس” إلى جانب
عمله في الصحافة إلا أنه لم ينس انشغاله بالهم الوطني الذي فاق حدود الوطن ليشمل أوطانا
أخرى، فسافر إلى الجزائر في 1961 وانضم إلى المناضلين هناك، وخاض معارك استقلالهم،
وأصيب في أثناء المعارك، وأهداه الجزائريون وساماً، إعراباً عن تقديرهم لجهوده في سبيلهم.
نحن هنا أمام حالة خاصة لرجل شحذ كل مقوماته وهمومه
وقدراته في سبيل نصرة المظلوم بمفهوم المظلومية المجرد من الحدود أيا كانت، طبقية أو
جغرافية أو دينية أو ثقافية، وكأنه ما خلق إلا كي يكون عصا يمسكها هؤلاء، ويضربون بها
رأس من ظلمهم. فكان لنا جيفارا الشرق كما كان لهم جيفارا أمريكا اللاتينية.
وفي 1963 حصل على وسام الجمهورية واعترف به ككاتب
من أهم كتّاب عصره. إلا أن النجاح والتقدير أو الاعتراف لم يمنعه من الانشغال بالقضايا
السياسية، وظل مثابراً على التعبير عن رأيه بصراحة، ونشر في 1969 مسرحية المخططين منتقداً
فيها نظام عبد الناصر ومنعت المسرحية، وإن ظلت قصصه القصيرة ومسرحياته غير السياسية
تنشر في القاهرة وفي بيروت.
وفي 1972، اختفى من الساحة العامة، على إثر تعليقات له علنية ضد الوضع
السياسي في عصر السادات، ولم يعد للظهور إلا بعد حرب أكتوبر 1973 عندما أصبح من كبار
كتّاب جريدة الأهرام.
ملك إدريس وبجدارة زمام الكتابة متخطيًا تابوهات
الجنس والدين ليكوّنا رمزا حمل خلفه محاولاته من أجل إعادة كتابة المفاهيم، حيث طرحت
تلك الأعمال أسئلة مازلنا مشغولين بها حول حدود الحرام كمثال. فهل الحرام هو ممارسة
الجنس خارج إطار الزواج في رواية الحرام أو قصة بيت لحم وقصة النداهة؟ أم أن الحرام
هو الفقر المدقع الذي جعل الأم تقتل طفلها الذي حملته سفاحا في رواية الحرام؟ وجعل
زوجة حارس العقار التي ظلت طيلة حياتها في القرية تحلم بالذهاب إلى القاهرة أرض الأحلام
تلوذ هربا من زوجها في زحام المدينة من حياة القرية الجافة؟.
عشرات الكتب والدراسات صدرت ولا تزال باللغة العربية
واللغات الأجنبية تحاول قراءة إبداع يوسف إدريس، الحقيقة أن إدريس بأعماله التي انتصرت
للمهمشين، حي بيننا، كأنه كان يستشرف المستقبل في أعمال سطرها في الماضي البعيد.