رسالة مربَكة : ابراهيم يوسف
"أنا ضدَّكَ في كل ما تقول، ولكنني معك حتى الموت أن تقول
كل ما تريد"..!؟ ألا
تعتقدين معي يا صديقتي أن ما قاله "ڤولتير"؛ هذا
"الملحد الكافر" إدانة لنا جميعا، عندما يُمَثِّل قوله هذا أعلى مراتب الديموقرطية
التي تفتقر إليها معظم البلدان العربية المؤمنة بطبيعة الحال بالمسيحية والإسلام. يخطرُ
في بالي ومن خارج سياق الرسالة..؟ أن ڤولتيرهذا كان على فراش الموت، حينما استقدموا
كاهناً ليشهدَ على اعترافاته قبل الرحيل، وأن الكاهن قال للمحتضر "الملحد":
اللعنة على الشيطان ضلَّلكَ واستحكم فيك فأغواك طويلا يا صديقي..؟ ويخطرُ في بالي أيضاً
أن المحتضر يجيبه، والملائكة تفاوض منه الجسم والروح: تأبط إنجيلكَ يا أبتي وارحل عني،
فالوقت لم يعد يتسع بيننا لمزيد من الخصومة والعداوات.
أنا يا صديقتي أحترمُكِ كثيراً وأحترمُ قناعاتِك، فأنت أم
مثالية ومخلوقة راقية ومؤمنة بالناس ورب العالمين. قناعاتك معتدلة لا تعرف التطرف وليست
دموية على الإطلاق"، وأراهنُ بل واثقٌ أنك ستنجحين يوماً لكي تحققي كل ما ترغبين،
وينبغي أن تصدقي أنني لم أتردد لحظة واحدة؛ في اتخاذِ القرار بالرد على رسالتك..؟ وها
أنا أرد عليك بكامل إرادتي وسُلطتي على نفسي وحرَّيَتي ورغبتي أيضاً، وارتضيتُ مرة
أخرى للهوى أن يُتْعِبني.. "ألم يكن حامل الهوى تَعِبُ".. على ما يقوله الحسن
بن هانىء..؟
أنت إنسانة مؤمنة وتقيَّة ومن طينة مختلفة؛ أحببتها لصدقها
وأمانتها.. لكن ينبغي عليّ ومن باب الأمانة والصداقة الخالصة بيننا، أن أصارحك أن مسألة
الإعدام هذه كانت الأبشع مما رأيته على الإطلاق، ولستِ مسؤولة عما حدث بطبيعة الحال.
مرَّ المنظر خلال إحدى نشرات الأخبار خاطفا صادماً ومنفِّراً. رأيته قسرا في ومضات
قليلة وتقيأت كل ما حشوته في معدتي من طعام..
والقنال المعنية تتحمل الوزر الأكبر من الدناءة والعهر الإعلامي
وهذه المناظر المقززة، التي تؤذي مشاعر الناس وتسحق أعصابهم، من أجل السبق الإعلامي
والتكالب على مثل هذه الأخبار المحرضة على القيء والغثيان. لكن في عالم الواقع هذا
ما يحدث للأسف؛ وما من هروب إلى عوالم مثالية لا توجد إلاَ في الخيال. هذه المقدمة
القصيرة لكي أنقل إليك فحسب، رأي غريغوار حداد في هذا الجانب من المسألة وهو يقول:
" لا تجوز التضحية بحياة الإنسان ولو نصرة لله"..!؟ والتضحية بالقربان من
العادات الوثنية والعصور المندثرة البائدة التي لم تكن قد تعرفت إلى الله.
والمطران غريغوار أو" نخلة حداد كما تشير وثيقة ولادته"
صاحب القول، مات منذ بضعة أيام فحسب. رحل عنا هذا الإنسان العلماني اللاهوتي المتنور جنبا إلى جنب، وما زلنا بأمس الحاجة إليه.
كان يخاف الله ويحب عباده بلا تمييز، ويمثل ضمير "الغلابى" الفقراء ممن لم
تغوهم السلطة ولا غرَّهم المال، مشهود له بنظافة الكف من أهل الأرض، ومعه وثيقة من
السماء تشهد له بنظافة الوجدان. أدّى الرجل قسطه من التضحية والمحبة والإرشاد، ولم
يستوفِ حقه في حياته للأسف ولا كرَّمناه في موته كما ينبغي، والتكريم أقل ما يستحقه
الرجل بلا مِنَّةٍ.. أو جدال حول قناعاته..!
ولا بأس يا عزيزتي إن أنا أعدتك قليلا إلى الوراء..؟ حينما تكلمت معك ذات يوم وحدثتك
عن هذا الراحل الكريم.
لقد قاسَمَني الرجل يوماً خَلاصَهُ وشفاعته بالسَّيدِ المسيح،
في واقعةٍ مُسيئة استوطنت في وعي وأبكتني فلن أنساها ما حييت، لأنني شعرت أنني أنا
المصفوع المُهان..!؟ عندما نالوا منه وألقوه إلى الأرض وَضَرَبوه أمامَ عدساتِ المصورين،
لأنَّه "ادَّعَى باطلاً" أن السيد المسيح إنما أتى خلاصاً للمؤمنين والضالين
من سائر بني البشر بلا تمييز..! أما "سليم الحص" أطال الله في عمره، ضمير
لبنان ورئيس وزراءٍ سابق..؟ فشأنه شأن غريغوار حداد يغزل على ذات المنوال، ويعتبر الروح
من حق خالقها دون سواه.
كان على سليم الحص أن يوقِّعَ ذات يوم على حكم بالإعدام،
عندما كان رئيسا للوزراء.. فلم يفعل، لأن قناعة الرجل كانت ولا زالت ضد قانون عقوبة
الإعدام، وفي قناعتة أيضا أن السلطة لا تملك الحق، أن ترغمه على توقيع وثيقة الإعدام
خلافا لقناعته الشخصية. فما كان من السلطة يومها "والسلطات في العالمين العربي
والإسلامي خبيثة تبيِّتُ الأمور، ويشبه بعضها البعض"، ما كان منها إلا أن احتالت
عليه وخدعته حينما كلفته بمهمة خارج البلاد..؟ لينتهز نائبه فرصة غياب الرئيس الأصيل،
ويوقع على وثيقة الإعدام التي نفذوها قبل عودة الرجل إلى البلاد. والسؤال الذي يضجُ
في رأسي على الدوام..؟ كيف لمن يتولى القيام بتنفيذ الحكم بالإعدام مهما كانت الوسيلة..!؟
أن يحظى بثقة زوجته ومحبتها، أو عطف أولاده بعيدا من خوفهم وخشيتهم من هذا الإنسان
المفترس المنكود وعطشه إلى الدم..!!؟؟
من هول ما يجري..؟ أنا أعوِّلُ عليك يا صديقتي في تربية وتهذيب
أبنائك، عقلاً منفتحا مستنيرا ورحمة في القلب، ومستقبلا يحدوه الحب والتضحية والأمل..
وكان بإمكاني أن أضع يدي في جيبي، وأوليك ظهري يائساً قانطا هابط الكتفين وأنا لا ألوي
على شيء. أرجو أن نلتقي على الخير والسلام في
نهاية العام القادم. حتى ذلك الحين..؟ انتبهي جيدا لنفسك يا صديقتي وانتبهي
لأسرتك، ولترفضي ولو بقلبك أو لسانك مبدأ الحكم بالإعدام.. لا تلومي نفسك كثيرا يا
صديقتي.. فلا أنا ولا أنت أو غريغوار حداد ولا الشمس المشرقة والمهاتما غاندي ،وسليم
الحص وبن كي مون ومعهم الأمم المتحدة والعالم بأسره؛ كان قادرا أن يوقف قرار الحكم
بالإعدام.. لكنني واثق أن يوما سيأتي ولو بعيداً، تنتفي فيه الحاجة إلى أدوات القتل
والإعدام. ربي فاغْفِرْ لي وَلهُمْ.. لأنهم لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ.