بعيداً عن المنهجية المركزية المعروفة لدى تصنيف الدول الكبرى ذات الفعالية العالمية،
وهي أن تمارس دبلوماسيتها اليومية تحت طائلة الترجمة الواعية لمبادئ تلك الإستراتيجية الشاملة، نقول إنه بعيداً عن نوع هذا السلوك الموصوف بالكلاسيكية والمميز للدول الكبرى، فقد حدث ما يمكن اعتباره بمثابة انقلاب تعرّض له هذا التقليد، وهو أن تحل «المناورة» محل الإستتباع المنطقي للإستراتيجية العامة للدولة. هذا الانقلاب المنهجي لم تُبشر به أدبيات نظرية سابقة على وضعه موضع التنفيذ. لكن العهد الرئاسي الراهن لأمريكا الموشك على الإنتهاء هو الذي كان عليه، أن يشتق بنوده من سيولة التجربة العملية عينها التي ترسمها إدارة الرئاسة لسلوكها.مفهوم المناورة ليسَ بدْعةً ولا هو بالشيء المفاجىء. بل لقد جَرَتْ مذاهب الدبلوماسيات الغربية الحديثة كلها على التعامل مع السياسة كما لو باتت هي الفن الأعلى لتحصيل حتى أصعب الغايات والعقد الدولية المستعصية. وبذلك يتخطى مفهوم المناورة تعريفَه العلمي كوسيلة، لتصبح المناورة فناً تقليدياً لأعسر الحلول؛ فمنذ أن تقبّل عقُل المؤسسة الحاكمة إمكان أن يترشّح للرئاسة رجل مختلف في كل شيء عن النموذج الأمريكي العتيق للقيادة الأولى؛ فلن يأتي رئيس ليس منحدراً من صلْب العرق الأبيض، ولا هو سليل القلاع الإقطاعية الكبرى المتوجبة لمجتمع الخلائط البشرية والديموغرافية. ومع ذلك فقد أصبح الإنسان الملون (أوباما) هو الرجل الأمريكي الأول؛ وكان عليه أن يشرع فورياً في تحقيق المهمة الإستثنائية، ولكنها المطلوبة ضمنياً من قبل مؤسسة الحكم، وهي مهمة تصفية أمريكا نفسها من عبء إمبراطوريتها.
هذا مع العلم أن هناك تأويلات عديدة حول مضمون هذه التصفية، كما كانت تتداولها بعض العقول الإستراتيجية الكبرى المعروفة أو المستورة؛ ومع الفارق المميز لهذه التأويلات، وهو أنها جميعها لا توحّد بين التصفية وتقليد )مبدأ) العزلة المعروف عن عهد السياسة الخارجية لمرحلة مابعد الحرب العالمية الأولى. فليس ثمة مذهب استراتيجي معترف به يريد من التصفية أن ينزع عن أمريكا صفتها القيادية لعالم اليوم. غير أن التباين في الرأي بين المنظّرين كان يدور حول التصفية كنظريةٍ في التغيير وليس كمنهج في الإلغاء.
منذ عهد الرئيس (كلينتون) بدأنا نسمع عن حق الأولوية الذي ينبغي اعطاؤه للدبلوماسية كبديل سلمي وحضاري عن أساليب العنف المادي المباشر. لكن مع مجيء (المحافظين الجدد) بر فقة الرئيس بوش (الإبن) فقد انخرط عهده في حروب العراق وأفغانستان، وكان له حصادُها المرّ من الفشل الكلي العسكري والسياسي، وكلفتها الإنسانية والاقتصادية غير المسبوقة قي تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية منذ تأسيس دولتها الكبرى.. وبناء على هذه الحصيلة الكارثية كان يمكن لمذاهب العدوان أن تُطوىَ صفحَتُها نهائياً؛ وحين سُمح لـ أوباما، لهذا البروفسور والسناتور الأسمر أن يكسر أخطر وأعمق حاجز قائم في صميم البنية الحاكمة ضد وصول (الأغراب) – حسب العرف النخبوي الأمريكي – إلى المراكز الأولى القيادية للدولة كما للمجتمع، فكان وصول هذا الرجل العالمثالثي إلى رئاسة الدولة العظمى الأولى في هذا العصر، فكأنه من المفترض أن تقدم رئاسته معالم التجربة الفاتحة لعهد ما بعد الإمبراطورية.
ولقد وقع الخيار على عوالم الشرق الأوسط، باعتبارها تشكل الساحات الأساسية لأبرز نماذج الإمبراطورية الأُحادية في أحدث وأظلم تجاربها في التسلّط المطلق برفقة ربيبتها المفضلة في المنطقة إسرائيل، هكذا كان على الرئيس أوباما أن يواجه أصعب معضلتين خلّفهما التراثُ العنفي الأمريكي السابق وراءه، حتى قبل أن يبرح حدود المنطقة؛ وهما مستقبل الخارطة العربية من جهة، ومن جهة أخرى مصير إسرائيل حاضراً ومستقبلاً، ما قبل جلاء الإمبراطورية وما بعدها.
من المعروف أن مفهوم الإمبراطورية الأمريكية يرتكز أصلاً إلى عوامل السيطرة ثلاثية الأبعاد الإستراتجية، في التفوق السياسي، والنفوذ العسكري والاقتصادي. وقد توفرت هذه الأبعاد كلها التي أهلّت أمريكا لاحتلال قمة العالم، خاصة بعد انهيار آخر قوة ممانعة كان مثّلها المعسكرَ الإشتراكي بقيادة الإتحاد السوفيتي سابقاً، روسيا حالياً. غير أن لهذه السيطرة امتيازاً فريداً هو الإحتكار الأمريكي لاقتصاد الطاقة الدولية بصورة شبه كلية، بحيث تفرض هيمنتها الكاملة على مجمل مراحلها: من المصادر والآبار إلى الإستثمار وتوزعّه، وخصوصاً تغذية وتمويلَ؛ أعلى فعاليات التكنولوجيا النووية المتفوقة.
ومن المعروف بالتالي أن الوطن الأول لمصادر هذه القوى هي أرض الذهب الأسود المستبطن لأراضي الصحارى العربية والإسلامية أولاً. فمن بيده مفاتيح هذه القوى سيحتل لا محالة دفة التوجيه الكوني. فالمضمون الفعلي لصيغة الإمبراطورية في هذا العصر هو كونها إمبراطورية الطاقة. فهل يُعقل أن يغدو إِنسحاب أمريكا من أدوارها في الهيمنة على أغلى ثروات البشرية من الطاقة وجاهزياتها غير المحدودة، هو المطلوب أو المقصود من (سيناريو) التنازل عن الهيمنة الإمبراطورية، وذلك كسبيل وحيد لتحرر (الدولة) من أكلاف التمتع بالقوة العظمى. لقد خاضت أمريكا تجربة أولى على هذا المستوى من الخيارات الباهظة، فكانت إمبراطوريتها (الشرق أوسطية) هي المحل المختار لممارسة تجاربها الأولى.
وكان عهد أوباما هو المكلف بتحويل ذلك السيناريو، من مستوى الدراسات الفكروية في مراكز الأبحاث، إلى استراتيجية كليانية على أرض الواقع – العربي تحديداً ـ ؛ وكان شرط ذلك التحقيق مرتهناً بقدرات العقل الإستراتيجي، ووساعة حنكة تدبيره، وليس متوقفاً على التجييش البشري العنفي. فإذا كانت الإمبراطورية قد اكتسبت سابقاً فتوحاتها بالضربات القاضية لجيوشها، فإن عهد التخلص منها ينبغي له أن ياخذ طابعاً معارضاً لما كان عليه بناؤها، أي أن يكون إنسحاباً سلمياً؛ ولعل الرئيس أوباما قد أدرك منذ البداية أن الإنسحاب من الحروب هو نوع آخر من الحروب، وليس نقيضاً لها كما قد تفهم للوهلة الأولى. لكن السؤال: من الذي سوف يحارب، هل هو الطرف المرتدّ بانتظام سري إلى الوراء. هل من أجل هذا الهدف الملتبس كان على أوباما أن يتحوّل إلى مؤلف مسرحيات ومخرج خفيّ، لها وظاهر كل الظهور مع ذلك، لكن دون أن يؤخذ على حين غرة محصوراً أو محاصراً في موقف معين ثابت. ذلك أن المؤلف البارع هو الذي يجعل المسرحية تلعب أدوارها من تلقاء ذاتها. تخلق شخصياتها وأحداثها من صلبها، وتتكامل مع خواتمها. فالبراعة (الثقافوية) في هذا الفن العبقري ستجعله واقعاً محسوماً وليس تمثيلاً سياسياً وإن يكن في أعلى مستوى، بحيث تظل نصوصه وفصوله قادرة على البرهان عن مصداقية مضامينها المفتعلة أصلاً. وإن بَدَتْ بعيدة أو بريئة عن أي تدخل من خارج حدودها.
ثورة الربيع ذهبت ضحية براءتها، وكانت من أعلى وأشجع التضحيات البشرية العظمى. فلقد تم في عصرها إزهاق ملايين الأرواح من أجل أن تُلصق ضدها لوحاتُ المسرحية البديلة عنها كلياً. أما ملايين (المتفرجين) الآخرين، فقد خرجوا من صالات المهالك المهولة وهم لا يكادون يصدقون ما شاهدوه. هل يمكن للعالم أن يكون (فظائعياً) إلى هذا الحد. أوباما سيخرج قريباً من (صالات) البيت الأبيض وعلى شفتيه الزرقاوتين ابتسامته الصفراء المعهودة.
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
«الربيع» على مذبح تصفية الإمبراطورية الأمريكية
مطاع صفدي