)قصة قصيرة )الكاتب
والمسافرة بقلم: علي القاسمي
خاص بالمجلة
لا
يدري كيف اكتسب تلك العادة الباهظة الكلفة، تنخر جيبه وتلتهم وقته. والعادات
تُكتسَب عادةً بالمران والتكرار. ولكنَّه من المؤكِّد لم يتمرَّن عن قصد لتلازمه تلك العادة أو يلازمها. ومع ذلك فقد التصقت به، كما تلتصق العَلَقةُ بالجسد. ألفى نفسه، ذات يوم، في محطَّة القطار يشتري تذكرةَ سفرٍ إلى مدينةٍ بعيدة، لا لشيء إلا ليكتب قصَّةً اختمرتْ في ذهنه وقلبه خلال الأسبوعيْن السابقيْن. وقد تكرَّرت تلك العملية حتَّى صارت قصصه ترفض أنْ تولد إلا في القطار، مثلما تصرُّ نساء المُدُن على وضع مواليدهن في المستشفى.
تُكتسَب عادةً بالمران والتكرار. ولكنَّه من المؤكِّد لم يتمرَّن عن قصد لتلازمه تلك العادة أو يلازمها. ومع ذلك فقد التصقت به، كما تلتصق العَلَقةُ بالجسد. ألفى نفسه، ذات يوم، في محطَّة القطار يشتري تذكرةَ سفرٍ إلى مدينةٍ بعيدة، لا لشيء إلا ليكتب قصَّةً اختمرتْ في ذهنه وقلبه خلال الأسبوعيْن السابقيْن. وقد تكرَّرت تلك العملية حتَّى صارت قصصه ترفض أنْ تولد إلا في القطار، مثلما تصرُّ نساء المُدُن على وضع مواليدهن في المستشفى.
تمنَّى لو كان يستطيع أن يكتب في دفءِ المنزل كما يفعل
الأدباء الأَسوياء، أو في مقهى كما كان يفضّل أرنست همنغواي، أو في حديقةٍ عامَّةٍ
كما كانت عادة جاك برفيير، أو حتّى في غرفةٍ موصدة الأبواب والشبابيك وهو يذرعها
جيئة وذهابا كما كان يفعل الجواهري، عندما يجتاحه إعصار القصيدة. بَيدَ أنَّ
الجلوس في مقصورةٍ ضيِّقةٍ في القطار مدَّة أربع أو خمس ساعاتٍ متواصلة، ليس
مريحًا بالمرَّة. صحيحٌ أنَّ عددًا من حَمَلة القلم لا تواتيهم الكتابة إلا وهم في
وضعيَّةٍ جسديَّةٍ مُعيَّنة، ولكنَّ وضعيَّته ليست أفضل الوضعيّات.
يتذكّر أنَّه قرأ إبان
فتوته مقالاً في الملحق الأدبيِّ لجريدة لوموند الفرنسية عن الوضعيّات المختلفة
التي يتخذها كتّاب فرنسا وهم يمارسون فعل الكتابة: أحدهم يكتب دائمًا وهو جالسٌ
على الأرض، والآخر وهو واقفٌ منتصب القامة، وثالثٌ وهو مستلقٍ على ظهره، ورابعٌ
وهو منبطحٌ على بطنه، وظهرت تحت صورة جان كوكتو عبارة (يكتب في جميع الوضعيّات).
تعجّب من كلَّ ذلك وقال في نفسه: "الجنون فنون، ولله في خلقه شؤون"، ولم
يخطر بباله آنذاك أنَّ نوعًا من هذا الجنون سيصيبه هو نفسه بعد بضع سنين.
يصعد إلى عربةٍ من عربات القطار، يلج إحدى المقصورات
الفارغة، يجلسُ بالقرب من النافذة، ينتظر قليلاً حتّى يتحرَّك القطار، يتطلَّع بعض
الوقت إلى السهول والوديان المسافرة في الاتجاه المعاكس، ثُمَّ يُخرِج دفتره من
حقيبته اليدويّة، ويضعه على الطاولة الصغيرة أمامه، ويستلُّ قلمه ويشرع في
الكتابة. ومع تزايد سرعة القطار، تنثال العبارات متتابعةً متلازمةً، كما تتتابع
عربات القطار. أمّا إذا حالفه الحظُّ وتساقط المطر بغزارةٍ، قارعا سقف العربة
ونافذتها، فإنَّ المعاني والكلمات تنهمر على ذهنه بإيقاعٍ متلاحقٍ مثل قطرات
المطر. أَهي حركة القطار تستحثُّ حركة المعاني فتتداعى وتتوالد، أم أن ابتعاده عن
مقرِّ سكنه وعمله يحرِّره من الأعباء والهموم، ويجعل ذهنه صافيًا مهيَّئًا لصبِّ
خلجاته على الورق؟
عندما استقلَّ القطار هذه المرَّة، راح يكتب قصَّةً عن
صديق له من أساتذة الجامعة، شغله شغفُه بدراسة التراث والبحث فيه، عن الزواج، فظلّ
أعزب. وفيما هو جالس ذات ليلةٍ شتويَّةٍ باردةٍ أمام حاسوبه ظهرت له على الشاشة،
فتاةٌ بارعةُ الجمال، ودارَ بينهما حوارٌ هيّج عواطفه وغيّر مواقفه. وكانت خطّة
الكاتب ترمي إلى صياغة القصَّة بشكل يسمح للقارئ بفهمها على مستوييْن: مستوى ظاهر
ينحصر في مداعبة الصديق الأعزب وحثّه على الزواج، في حين يلمّح المستوى الباطن إلى
انشغال المثقَّف العربيِّ بتراث الأُمّة، وتاريخها، والتغنّي بماضيها وأمجادها،
دون أن ينجز شيئًا ملموسًا في سبيل وحدتها وتنميتها. وتتطلُّب كتابة هذه القصَّة إبرازَ أُمورٍ
رئيسةٍ ثلاثة: وصفُ طقسٍ باردٍ ممطرٍ يُشعِر الأستاذَ بالحاجة إلى الدفءِ والحنان،
ونعتُ امرأةٍ فاتنةٍ تسلب لبَّ الأستاذ وقلبه، مع تقمُّص الكاتب شخصية الأستاذ،
بحيث يخاطب المرأة بعاطفةٍ ملتهبةٍ صادقة، وأخيرًا بثُّ إشاراتٍ في القصة تساعد
القارئ على اعتبار المرأة، واهبة الحبِّ والخصب، رمزًا للوطن.
انطلق القطار جنوبًا. تطلّع الكاتب من النافذة فتراءت
له المروج والغيوم تجري مسرعة نحو الشمال، وتتصاعد أنفاسُها اللاهثة بسرعةٍ،
فتتحوَّل إلى ريحٍ غربيَّةٍ، تحمل على جناحيها عنفوان البحر وهيجانه. يلوح البرق
هابطًا من السماء، مخترقًا الغيوم، ويختلط قصفُ الرعد بهديرِ عجلات القطار، فتنبسط
أساريره وتسري في أعماقه ارتعاشةٌ ونشوة. يتريّث هنيهة. اهطلي أيّتها الأمطار،
فأنا وهذه الحقول والزهور في شوقٍ لعناقك. اهطلي وسيغدو وصفُ الليلة الشتويّة
الباردة في قصَّتي أيسر وأصدق.
يواصل الكتابة في حين تنبعث من القطار والرعد والمطر
والعاصفة ضرباتٌ صاخبةٌ تفوق في شدّتها ضرباتِ سيمفونيَّة بيتهوفن الخامسة، عندما
يطرق القَدَرُ فيها بابَ الموسيقي الأَصمّ طرقاتٍ عنيفة. يقترب القطار من إحدى
المحطات، فيخفِّف سرعته. ينهي الكاتب الجملة الأخيرة من تلك الفقرة. يتوقُّف
القطار في المحطَّة. يعيدُ قلمه إلى جيبه.
ويتطلَّع من النافذة. ينفتح باب المقصورة وتدخل فتاةٌ رشيقةٌ أنيقةٌ في ربيع
العمر. وبانحناءةٍ مؤدَّبةٍ من رأسها، وابتسامةٍ حييَّة على شفتيها، تتَّخذ مكانها
في المقعد المقابل له. لا بدّ أنَّ الحظَّ حالفه في هذه السفرة.
يودِّع القطارُ المحطة بِصفيرٍ قصير. يفتح الكاتب
دفتره ويستأنف الكتابة، ليصف غادةَ الحاسوب التي يقع في غرامها صديقُهُ الأستاذ
التراثي. يتقمَّص شخصيَّة صديقه. يتصوَّر أنَّ الفتاة المسافرة الجالسة إزاءه
تطلُّ عليه من شاشة الحاسوب. وصفُها مهمَّة يسيرة، فهي فاتِنةٌ في غاية الحُسن،
ومنتهى الجاذبية، وما عليه إلا أنْ ينقل ملامحها إلى الدفتر. رمقها بنظرةٍ فاحصةٍ،
فنظرتْ إليه بعينيْن كحلاوين ساحرتيْن. تقاطعت نظراتهما. أحسَّ أن رصاصةَ نظرتِها
اخترقتْ ضلوعه، ومزَّقتْ شغاف القلب، وهيَّجتْ أحاسيسه مثل حمائم مذعورة. فعلتْ
نظرتُها به كلَّ هذا في أقل من لحظة، ثُمَّ تحوَّلتْ عنه مغضية.
يندمج
في دوره الجديد، ويأخذ في مناجاتها بصمتٍ على الورق. تستمرُّ المناجاة أكثر ممّا
كان مقرَّرًا لها في خطَّة القصَّة، وتكبر عاطفته تجاهها حتّى تغدو أكبر مما كان
مرسوما لها. يخاطبها بحرقةِ حرمانٍ حقيقيٍّ، ويتطلّع إليها بلوعةِ هيامٍ أصيل.
لأوَّل مرَّةٍ يخالجه إحساسٌ جديدٌ لم يألفْه من قبل، ولا يستطيع له وصفًا.
يتذكَّر، فجأةً، أنَّه هو الآخر أعزب. وينتابه شعورٌ حادٌّ بالحاجة إلى الدفءِ
والحنان. هذا الوجه الملائكي الذي أمامه يطرح موضوع الزواج بإلحاح.
كيف
يتزوَّج الرجال؟ وأين يلتقون بزوجاتهم أوَّل مرَّة؟ في الجامعة؟ في العمل؟ في
المطعم؟ ولِم لا في القطار؟ كلُّ الأماكن تصلح مرمًى لسهامِ كيوبيد. فعاطفة الحبِّ
نسمةٌ ربيعيَّةٌ رقيقةٌ تسري بلا قيودٍ في جميع الأرجاء، ولا تدري أين تصادفكَ
وتنعشك. ها هي، إذن، قد وافته في القطار، تمامًا مثل ملاك الكتابة. الآن يدركُ
لماذا اكتسب عادة السفر بالقطار للكتابة. لم يكُن الأمر عبثًا، وإنَّما من تدبير
القدَر المحكم.
والآن
، كيف يفتح الحديث معها؟ بل، هل من اللائق أن يتحدَّث مع مسافرة غريبة؟ وعن أيِّ
موضوع؟ وحتّى إذا أراد أن يقلِّد الإنكليز فيتكلَّم عن الطقس، ألا يمكن أن ينتهي
الحديث عند ذاك الحدِّ؟ حاول أكثر من مرَّة أن يقول شيئًا، بَيدَ أنَّ شفتيْه لم
تطاوعاه وظلَّتا مطبقتيْن. حتّى في قصصه، كان يؤثِّر الوصف على الحوار.
يقطع
عليه مكبِّرُ الصوت تسلسلَ أفكاره، معلنًا اقتراب القطار من المحطَّة الأخيرة.
يتباطأً سير القطار بسرعةٍ، ويطلق صفيره مستقبِلاً المحطَّة. تنهض الفتاةُ الحسناء
حاملةً حقيبتَها الصغيرة، وتلقي نظرةَ وداع مؤدَّبة عليه، ثُمَّ تدلف إلى خارج
المقصورة، دون أن يُتاح له وقتٌ ليقول شيئًا. سيتبعها، سيتذرَّع بأيِّ شيءٍ لمعرفة
اسمها، عنوانها، رقم هاتفها، أيَّ شيء يدلّه عليها. يقف القطار تمامًا. تهبط
الفتاة. ينظر إلى موطئ قدمه وهو ينزل إثرها. يرفع رأسه. يرى شابًا وسيمًا أنيقًا
فارعَ الطول مَهيبًا يقف على الرصيف فاتحًا ذراعيْه، وابتسامةٌ عريضةٌ تضيء وجهه.
تُلقي الفتاة بنفسِها بين ذراعيْه ويتعانقان.