خاص
أدرك "البابليون" قوة وذكاء من ترضعه أمه، فخصصوا من يقوم بخدمة الأم حتى تتفرغ لهذه المهمة الكبيرة، وعند الحاجة، يعهدون بالرضاعة إلى امرأة قوية تتمتع
بالذكاء والجمال لاعتقادهم أن هذه الصفات تنتقل إلى رضيعهم عبر الحليب. كذلك اهتم "الفراعنة" بالإرضاع الوالدي وجعلوه يمتد إلى ثلاث سنوات، وحظيت بعض المرضعات بالتكريم حتى بعد وفاتهن، كما حفلت المعابد الفرعونية برسوم الأمهات وهن يرضعن، وأشهر هذه الرسوم للالهة "إيزيس" وهي ترضع "حورس"، وغيرها.
أما اليوم، ورغم إجماع المؤسسات الحكومية والأهلية والأكاديمية والاجتماعية والدينية على ضرورة وأهمية الإرضاع الطبيعي، ورغم جهود القطاع الصحي والإعلامي لسنوات طويلة، تشهد معظم الدول العربية، وللأسف الشديد، انخفاضاً ملحوظاً في التزام الأمهات بالإرضاع الطبيعي، بل تهبط نسبة الإرضاع هذه في بعض البلدان إلى نحو 10-15%، الأمر الذي يؤدي إلى مضاعفات وخسائر كبيرة صحية واقتصادية تلحق بالطفل والأم والمجتمع في الحاضر والمستقبل. وفي هذا الإطار نشرت مجلة "لانسيت Lancet" الصحية العالمية في نهاية شهر يناير/كانون أول 2016، سلسلة دراسات عن الإرضاع الطبيعي في العالم، ودعت هذه المجلة العريقة التي يعود عددها الأول إلى عام 1823، إلى تبني السياسات والممارسات التي من شأنها تعزيز الإرضاع الطبيعي في جميع أنحاء العالم، وقد أكدت هذه الدراسات أن الفوائد الكبيرة لذلك لا تقتصر على صحة الأم ورضيعها، بل إنه يحافظ سنوياً على حياة أكثر من 800 ألف طفل، ويضيف إلى الاقتصاد العالمي أكثر من 300 مليار دولار.
من أبرز معوقات الإرضاع الطبيعي المعلومات المضللة عن تأثير الإرضاع على جمال المرأة وقوامها، لاسيما في الكثير من مجتمعاتنا التي تجتاحها ثقافة الترف والاستهلاك والتبرج، والتي أصابت العديد من النساء فيها، كذلك وقوع الأمهات ضحية بعض إعلانات شركات الحليب الصناعي، بالإضافة إلى معوقات صحية محدودة لدى الأم تؤثر على صحتها وسلامتها، كما تحتاج بعض النساء العاملات للعودة إلى عملهن بعد الولادة الأمر الذي يتعذر معه الشروع في الإرضاع الطبيعي الحصري في الأشهر الست الأولى، والاستمرار بعد ذلك لمدة سنتين أو أكثر كما توصي منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة.
لا يختلف الباحثون على دور الإرضاع الطبيعي أو الوالدي، في بقاء الطفل ونموه، فقد بينت الأبحاث أن عناصر المناعة تنتقل إلى الرضيع، فتقيه عدداً من الأمراض ومضاعفاتها، وهو كذلك ضروري لنمو الطفل المبكر وتطوره الروحي الحركي، كما أنه يمكن الرضيع من مستقبل مشرق، لأنه وكما أفادت الأبحاث يزيد معدل الذكاء، الذي يتجلى بأداء أفضل في مجال التحصيل الدراسي والإنتاجية بشكل عام. أما بالنسبة للأم، فقد أثبتت الدراسات أن الإرضاع الوالدي يقلل من مخاطر سرطان الثدي، والمبيض، بالإضافة إلى أنه يزيد من استمتاعها بعاطفة الأمومة التي تقوي صحتها النفسية والجسدية.
حقاً، "إن أقوى مشاعر العاطفة تسري وتنمو في جسد ونفس الأم عندما ترضع طفلها"، فهل يمكن أن تدير الأم ظهرها إلى وليدها وتمتنع عن إرضاعه؟، وهل يمكن أن تدير ظهرها إلى أصوات علماء الصحة والنفس والتربية؟، وإلى ما أجمعت عليه الأديان والعادات والتقاليد؟، وما دأبت عليه أمهاتنا وجداتنا؟ .... أسئلة لا نقبل إلا إجابة واحدة عليها !!!..