خاص
بين الانفتاح و
التبعية .. قراءة في التحذير الملكي للوزير التكنو-فرنكفوني
-
د. إدريس جنداري –
باحث
خلال المجلس الوزاري الذي
انعقد بمدينة العيون المغربية (السبت 06 فبراير 2016) قدم السيد وزير التربية
الوطنية و التكوين المهني عرضا حول التوجيهات الاستراتيجية فيما يتعلق بالرؤية الاستراتيجية لإصلاح
منظومة التربية و التكوين و البحث العلمي( 2015-2030 ) و قد حضرت الهندسة
اللغوية كمحور رئيسي ضمن هذا المخطط، حيث تم التركيز من طرف الوزير على الترويج
لخطاب إيديولوجي أجوف يربط إصلاح التعليم بفرنسة لغة التدريس ضمن شعار فضفاض هو
الانفتاح اللغوي.
لكن ما اثار انتباه
جميع المتابعين هو ما نقلته الصحف الوطنية عن التوجيه الملكي للوزير
التكنو-فرنكفوني في الحكومة الملتحية، و هو توجيه في غاية الاهمية لأنه يمثل حصانة
ملكية لثوابت الهوية الوطنية، التي تسعى مجموعة من التيارات الإيديولوجية و
العرقية إلى زعزعتها بهدف صياغة خيارات حضارية جديدة لبلد عربي إسلامي أصيل مثل
المغرب .
فقد اعتبر الملك، في توجيه
مباشر للوزير التكنو-فرنكفوني، أن الانفتاح لا يعني التبعية، بل إن الخصوصية
المغربية تبقى الحصن الحصينالذي يميزنا عن الأخر ويعزز اعتداد المغربي بهويته
وثقافته .و هذا التوجيه واضح في أبعاده
الوطنية :
·
من جهة، هناك تمييزا
بين الانفتاح و التبعية، فالانفتاح الثقافي و اللغوي أمر مطلوب و لا يعارضه إلا
متعصب أو جاهل، خصوصا و أن العالم قد تحول إلى قرية صغيرة في ظل سيادة تقنيات
الاتصالات، كما إن الانفتاح يثري مقومات الشخصية الوطنية و يلقحها ضد كل نزوعات
التطرف. لكن التبعية شكل آخر مغاير تماما، فإذا كان الانفتاح يقوي من ثوابت الهوية
الوطنية و يجعلها تنفتح من منطلق القوة و الثقة في النفس، فإن التبعية تهدد مقومات
الهوية الوطنية لأنها تشكك في قدرتها على تحقيق التفوق الوطني، و هذا ما يساهم في
إفقاد المواطنين الثقة في انتمائهم الوطني الجامع و يفتح أمامهم المجال لاستبدال
الانتماء الذاتي بانتماءات أجنبية. بهذا المعنى فإن الانفتاح الثقافي و اللغوي يجب
أن يحترم السيادة الوطنية المؤطَّرة دستوريا، و ذلك على خلاف التبعية التي تنتهك
السيادة الوطنية وتهدد بذلك الأمن الثقافي و اللغوي للوطن.
·
من جهة اخرى، هناك
تأكيدا على ثوابت الخصوصية المغربية التي اعتبرها الملك الحصن الحصين الذي يميز
المغاربة عن الآخر و يعزز اعتدادهم بهويتهم و ثقافهم. و هذا التوجيه امتداد
لسابقه، لأنه في تأكيده على ثوابت الهوية الوطنية يرفض أي تبعية للأجنبي، و خصوصا
إذا كان استعماريا يسعى إلى توظيف اللغة و الثقافة من أجل تحقيق الهيمنة
الاقتصادية و السياسية. و لعل ثوابت الهوية المغربية لواضحة، بمنطق الدستور، و لا
مجال للاختلاف حولها، فهي تستند دينيا على الدين الإسلامي، و لغويا على اللغة
العربية كلغة تواصل و معرفة مع ترسيم مشروط بقانون تنظيمي للغة الأمازيغية، و
ثقافيا على الأبعاد العربية الإسلامية و المتوسطية و الحسانية و الأمازيغية
للثقافة الوطنية. و لهذا، فإن أي انفتاح محتمل يجب أن يلتزم هذه الأبعاد الدستورية
للهوية الوطنية الجامعة، و إلا سيتحول إلى تبعية للمرجع الاستعماري.
في الحقيقة، لقد كنا في حاجة ماسة إلى هذا الموقف الملكي
الصريح و المباشر، لأن اللوبي التكنو-فرنكفوني روج، لوقت طويل، لأسطوانة مشروخة
تردد، باستمرار، أن فرنسة لغة التعليم مطلب ملكي يجد سنده في الخطب الملكية، و هذا
ما ردده الوزير التكنو-فرنكفوني مرارا في مواجهته لرئيس الحكومة المنتخب شعبيا،
إلى درجة أننا أصبحنا نعتقد بأننا بإزاء حكومة برأسين يقرران قرارات متناقضة، و
ليس برأس واحد يحدد وضعيته السياسية، كسلطة تنفيذية، منطق الدستور الذي أعطى رئيس
الحكومة سلطة اقتراح وزرائه و إعفائهم .
إن توظيف المؤسسة الملكية لحسم النقاش حول العديد من القضايا
الخلافية، ليس أمرا جديدا في المغرب، بل إنه أصبح سائدا بالعرف، و يجد هذا التوظيف
سنده في الصراع القائم بين الأجنحة المتصارعة من داخل الدولة العميقة (المخزن)، و
هي اجنحة تمثل سلطة موازية لسلطة الحكومة بل، أكثر من ذلك، تمثل
الطابق الفوقي للدستور في موازاة الطابق السفلي. فإذا كان الطابق السفلي يترجم و يخلق ما يسمى عادة
بالقانون الدستوري، الذي هو عبارة عن مجموعة من القواعد و التقنيات القانونية
المتعلقة باللعبة البرلمانية بين الحكومة و البرلمان فقطلا على مستوى الملك. فإن
الطابق العلوي يترجم و يكرس القانون الخلافي و الممارسة السياسية التاريخية
للسلاطين المغاربة، فمقتضيات هذا القانون تتعلق بالمكانة السياسية و الدينية
للملك-الخليفة، و علاقته بالأمة في غياب الوسطاء، حتى و لو كان هؤلاء الوسطاء هم
البرلمان و الحكومة، فلأنها مقتضيات فوق خلق البشر فهو يتمتع بسيادة مطلقة، إذ
تحرم و تمنع مراجعتها أو تعديلها عبر مسطرة المراجعة الدستورية.
عبد اللطيف أكنوش – السلطة و المؤسسات السياسية في مغرب
الأمس و اليوم – مكتبة بروفانس – الدار البيضاء – 1988- ص:172.
في استناده
إلى سلطة المؤسسة الملكية، من خلال الخطابات الملكية و سلطة الجناح الفرنكفوني
للدولة العميقة، يحاول اللوبي التكنو-فرنكفوني ( حزب فرنسا الخفي) توظيف الطابع
العلوي للدستور الذي تمثله المؤسسة الملكية و امتدادا لها الدولة العميقة، و ذلك
ضد الطابق السفلي الذي تمثله السلطة التنفيذية ( الحكومة) و السلطة التشريعية (
البرلمان). و بما أن خدام المشروع الفرنكفوني في المغرب يدركون جيدا أن سلطات
الحكومة و البرلمان لا تتجاوز المستوى الشكلي ( الطابق السلفلي) بينما تبقى السلطة
المطلقة بيد المؤسسة الملكية و نظام المخزن (الطابق العلوي), انطلاقا من هذا
الإدراك، فإن النخبة التكنو-فرنكفونية تسعى إلى توظيف السلطة المادية و الرمزية
للمؤسسة الملكية مدعومة، في ذلك، بالجناح الفرنكفوني من داخل نظام المخزن، و ذلك
في مواجهة القرارات البرلمانية و الحكومية التي تنبثق عن المطالب الشعبية.
هذه اللعبة
الخبيثة التي تمارسها النخبة التكنو-فرنكفونية بإتقان كبير، هي التي تتحكم في
مجموع القرارات اللاشعبية الصادرة عن أجهزة الدولة المغربية، في علاقة بقضايا
الهوية الوطنية المغربية، على مستوى اللغة و الثقافة و الدين. و بذلك تتجاوز هذه
النخبة الخفية ( التماسيح و العفاريت) الدور التنفيذي للحكومة و الدور التشريعي
للبرلمان، و تتحدى المطالب الشعبية، و تنسج خياراتها الإيديولوجية عبر استغلال
المؤسسة الملكية و بدعم من طرف الجناح الفرنكفوني داخل الدولة العميقة.
إن حزب فرنسا الخفي الذي تمثل النخبة التكنو-فرنكفونية
ناطقه الرسمي، يمثل خطرا كبيرا على الدولة و المجتمع، و يهدد الأمن الروحي و
الثقافي و اللغوي للمغاربة:
·
في علاقة بمؤسسات الدولة، يمثل حزب فرنسا الخفي تهديدا
لمؤسسات الدولة، من خلال العمل على إفراغها من محتواها السياسي، تنفيذيا و
تشريعيا، الأمر الذي يوحي بعبثية الممارسة السياسية، في مجملها، فلا قيمة للأحزاب
السياسية و المجتمع المدني و النقابات، إذا كان حزب فرنسا الخفي يفرض القرارات من
خارج المؤسسة التشريعية ( البرلمان) و من خارج المؤسسة التنفيذية (الحكومة). و هذا
الوضع، إن استمر، سيكون خطيرا على المديين المتوسط و البعيد.
في علاقة بالمجتمع، يمثل حزب فرنسا الخفي تهديدا خطيرا
لمقومات الهوية الوطنية الجامعة لكل المغاربة، فهو في تمثيله للمرجع الكولونيالي
الفرنسي يفرض الثقافة و اللغة الكولونيالية كبديل للثقافة و اللغة الوطنية، مع ما
سيرافق ذلك من شرخ اجتماعي خطير داخل المجتمع المغرب. و لعل هذا هو ما حذر منه
المفكر محمد عابد الجابري، حينما اعتبر أن المشروع
الاستعماري حقق استمراريته في المغرب من خلال النخبة التي تشكلت في مختبراته
التعليمية، لقد كانت النخبة التي تولت زمام الأمور عقب الاستقلال هي نفسها النخبة
التي تمخض عنها تعليم الحماية الفرنسية في المغرب.
محمد عابد الجابري-
أضواء على مشكل التعليم في المغرب- دار النشر المغربية – البيضاء – ط : 1 – 1973–
ص: 54
إن التحذير الملكي
للوزير التكنو-فرنكفوني، في الحقيقة، يتجاوز المستوى الشكلي،
إنه وعي عميق بالخطر الداهم الذي اصبح يمثله حزب فرنسا في المغرب، و هذ الوعي
الملكي يجب أن يخترق الفضاءات المغلقة للأحزاب الوطنية المعنية بقضايا الهوية
الوطنية، كما يجب أن يخترق المجتمع المدني، و أكثر من ذلك يجب أن يكون مُوجِّها
للنخبة المثقفة الوطنية المناضلة من أجل سيادة الأمن الثقافي و اللغوي داخل الدولة
و المجتمع في المغرب، بعيدا عن الفوبيا التي ينشرها حزب فرنسا الخفي خدمة للمشروع
الفرنكفوني وريث الاستعمار العسكري الفرنسي.