كثيرون يروق لهم الإنبهار هذه الأيام، بفكرة أن تكون امرأة، هيلاري كلينتون، رئيسة مقبلة للولايات المتحدة الأميركية. يتحمسون، يكادوا ينتشون، ليؤكدوا على إيمانهم
الحداثوي، المبشّر بالمزيد من التحرر للنساء. وهم، بذلك، لا يخرجون عن الشعار الأساسي الذي اعتمدته السيدة كلينتون، والقائل “اقترعوا لامرأة لأنني امرأة”. ولكن في أميركا نفسها “المزاج” مختلف:
خلال الإنتخابات التمهيدية الخاصة بالحزب الديموقراطي، والتي تقرر نهايتها اسم المرشح(ة) الديموقراطي الذي سينافس نظيره الجمهوري، لم تستجب الناخبات الديموقراطيات لشعار المرشحة كلينتون. في الجولة الثانية من هذه الإنتخابات، في نيو هامبشير، تغلبت أصوات النساء اللواتي اقترعن لخصمها العجوز بيرني ساندرز، 74 سنة: نال هذا الأخير 82 بالمئة من أصوات الشابات الما دون ثلاثين سنة، فضلا عن 69 بالمئة من أصوات اللواتي تجاوزن الخامسة والأربعين من العمر، وتنخفض النسبة كلما زاد العمر… أولئك المقترعات علّقنَ، قبل تصويتهن للخصم الرجل، ساندرز، انهن نسويات بداهة، تربّين على مساواتهن مع الصبيان؛ وبأن وصول كلينتون الى رئاسة أميركا “ليس ثورة كوبرنيكية!” (نسبة للعالم البولوني كوبرنيك الذي اكتشف دَوران الأرض حول الشمس). لا ينظرن الى كلينتون بصفتها “امرأة”، إنما كـ”صاحبة مشروع واقتراحات”.
ولكن، ما أثار حنقهن، وربما دفع المزيد منهن للتصويت للمرشح الرجل، هو تلك الكلمات التي دعمت كلينتون، والصادرة عن شخصيات نسائية مرموقة. غلوريا شتينمن، إحدى أشهر “الأيقونات” النسوية، أنّبت النساء اللواتي يقترعن للمرشح الرجل، اعتبرتهن “خائنات” بحق المرأة، وادّعت بأن تأييدهن له يعود “إلى رغبتهن بلقاء الشباب” (اعتذرت لاحقاً)… دعمتها واسرمن شلوتذ، رئيسة اللجنة الوطنية في الحزب الديموقراطي، إذ اعتبرت بأن عدم التصويت لكلينتون هو بمثابة “الجحود ونكران للجميل”. أما مادلين اولبرايت، وزيرة الخارجية السابقة، فقد رمت المقترعات العاصيات في جهنم: في أحد المهرجانات الداعمة لكلينتون، قالت، توسّلا لأصوات النساء: “ان هناك مكانا خاصاً في الجحيم للنساء للواتي لا يقترعن للنساء”؛ فصفقت لها كلينتون طويلا… والأربع تشبّهن بأصحاب “القضايا العادلة”، الذين يتسلّقون سلالم السلطة عبر المزايدة على هذه القضايا: وخلاصتها البسيطة، وقد خبرناها مع قضية فلسطين العادلة، ان الفكرة، أو الأيديولوجيا، هي خدمة الوصول إلى السلطة. وفي طريقهم إليها، وقبل بلوغها، هذه السلطة، يكونوا قد طعنوا فكرتهم بأكثر من سكين.
فوق ذلك، تذْنيب وترْهيب، وتهديد بجهنّم، وكله من اختصاص الأصوليات الدينية، المكفِّرة، التي تدعي أولئك النساء محاربتها… كان ينقص مادلين أولبرايت أن تفتح سجنا للواتي يصوتن لكلينتون، أو تنْصب محاكم، لها فيها قرار الحياة أو الموت. قبل أن يأتي حكم النساء المطلق، ونغوص في ترهاته، ثانية… علينا أن نفهم سبب خيار الشابات النسويات للمرشح بيرني ساندرز، طالما انهن يصوتن “للبرامج، وليس للجنْدر (الجنس)”. ساندرز “التقدمي”، وهذه صفة تفزع كلينتون، له برنامج خاص: جامعات مجانية، تأمين صحي “شامل”، إجازة أمومة مدفوعة لمدة ثلاثة أشهر، حد أدنى للأجور 15 دولار للساعة، قطع صلات المصالح مع “وول ستريت”، رمز المصارف والمال والبورصة والمضاربات. وفوق كل هذا هو مدعوم من الشابات خصوصا لأنه “نزيه”، و”لديه قدرة على الاستماع إلى غيره”، وهذه سمات أنثوية بامتياز. فيما ميزة كلينتون لدى أنصارها انها “صاحبة خبرة”، وانها “قادرة على الوصول إلى الرئاسة”، وهذه نعوت ذكورية في أسوأ أحوالها، أو رجالية، في أفضلها.
بمعنى آخر، ان هناك، في التمهيديات الرئاسية الأميركية، مرشح رجل، يعد، وقد لا يفي، بتحقيق مطالب نسوية تاريخية، فيما المرشحة المرأة، المتهمة، من داخل حزبها، انها “فاسدة”، تخلط بين مصالحها الشخصية بالسلطة وبين موقعها الرسمي، تدّعي بأنها “من أجل النساء أيضاً”، لمجرد انها امرأة، تدير نغمة رمي النساء في الشقاء الأبدي، في حال لم يصوتن لصالحها الخ. هذه مفارقة هائلة، ليست جديدة تماماً، إذ تلاحظها في مرتبات أدنى من التسلق السلطوي النسائي: نساء يمتطين حصان المساواة بين الجنسين، حصان الثورة النسوية، لتحقيق غرامهن بسلطة ما، كبيرة أو صغيرة، واسعة أو ضيقة، كل واحدة بحسب سياقها وحجم السلطة التي تصبو اليها. وهي مفارقة تدل على ان النساء صاحبات الطبائع السلطوية، لم يجدن حتى الآن طرقاً أخرى من “القيادة” غير تلك الذكورية المتوفرة، لم يخترعن أنماطا سلطوية جديدة، ولا اثبتن بأن تأنيث السلطة، هو نقل الصفات الانثوية إليها، كالتعاطف والليونة والرقة… بل انهن، في طريقهن إليها، تلك السلطة، مستعدات للتضحية بأي شيء، حتى السعادة الشخصية.
هيلاري كلينتون خير نموذج: في العام 1999، أمام فضيحة علاقة زوجها، الرئيس وقتها، مع المتدرّبة الشابة مونيكا لوينسكي، لعبت دور “السيدة الأولى” رابطة الجأش، المترفعة، المتسامحة، النبيلة، بوجه تلك العاصفة العاطفية المهينة، والمغطاة إعلاميا بكثافة… أوقعت حيرة الكثيرين، ومنهم صحافي تساءل، تعليقاً على وقْفتها تلك: “هل تدلّ على سلطة الحب أم على حب السلطة؟”. كأنه كان يتنبأ..
عن المدن