يحث الفنان التشكيلي "فائق العبودي" -المـقيم في سويسرا التي درس فيها فنون التصميم إلى جانب دراسته الأكاديمية - سير خطاه في توضيح مقاصد وعيه، عن طريق تبني
أفكار وتطلعات توازي -إن لم تفق- ميوله الحقيقية في الرسم والتصميم، ثم باقي الفنون المكملة لنهجه التشكيلي وتعامداته الروحية مع خلاصات نصوصه البصرية، وتخريجاته الصوفية لنوازع تلك الميول المحفوفة بالعراقة، والعتق الذي يلزم مسارت ثقته بالماضي أحداثاً كانت، أم سمات أو خواص حضارية، بل مجموعة ظواهر مركبة باتجاه سفينة الحنين الحاملة على متنها ذلك الأرث الحاني من جملة إستشعارات وخوالج نفسية كان قد اختبرها الزمن، ومنحها صلاحية المواجهة والبقاء بهذا الوثوق و الاعتداد، فضلاً عن كونه "أي ذلك الماضي البعيد" سبباً موجباً وموحياً وكافياً في نسق وحيثيات الدفاع عن الحاضر بكل ملابساته وتحولاته المربكة، وانهياراته المتلاحقة، رغم سمة السرعة، وانتشار وتطور وسائل الاتصال و نواتجها المذهلة، إلى جانب عدة مجالات أخرى، شاء لعصرنا الحالي أن يوسم بها، رغم تواتر مخاطرها واتساع دوائر الإحساس بالمخاوف المكتظة، وتعدد مسبباتها وتنوعها على طول وعرض ذلك الإحساس المضني بالغربة، وشرود الوحدة، جراء خشية ما يضمره المستقبل المجهول، من سلاسل توقعات ونوابض احتمالات، أغلبها لا تسر الخاطر، ولاترضي شعور الإنسان الحالي بالإطمئنان، ونواحي الثقة به.
الرسم ... حفراً وتصميماً
جملة رؤى تتحد بوعي مضاف، قادر على فهم ملابسات مسك منجزات "العبودي" ببواعث حدسية، أكثر من كونها حسية أو واقعية محورة، إذ نلمس حدوث معنى الأثر الأكثر إبلاغا وتحريضاً من مجرد الإعلان المبهم أو المباشر عما يعانيه الإنسان من اغتراب وضياع وغياب عام وتام، فيما تحيي آثاره ومجسات وجوده دفقاً رمزياً قادراً على بلاغة التعويض، بقيمة الموروث التأريخي والنفسي والحضاري الذي تحمله لوحات وتقصدات "فائق العبودي" التصميمية، درس التصميم –كما أشرنا- تخصص "برامج فوتوشوب- انديزاين - الستراتور"، وبرامج التصميم الطباعي، وضع تصاميم العديد من أغلفة الكتب لكتاب ومبدعين عراقيين وعرب وأجانب، فضلاً عن تصميم عدد من منشورات دار المأمون للترجمة والنشر, وأقام في عدد من مدن دول أوروبية وآسيوية أكثر من ثمانية وعشرين معرضاً شخصياً، في وقت يستعد فيه الآن للمشاركة في بينالي بكين منتصف هذا العام، كما سبق للعبودي أن قام بتنفيذ لوحة جدارية حملت اسم "السلام" شاء لها أن تكون في إحدى الحدائق العامة في مدينة جنيف نفذت بطريقة الكتابة بالحروف المسمارية.
لنا في ضخ صدى هذه المعلومات ما يؤكد صدقية الغاية التي تدفع وتثير من شهية هذا الفنان نحو ترسيخ مضامين لوحاته بآفاق تحديثية من حيث جهات وحيز التنفيذ بعدة مواد متاحة ومبذولة في الطبيعة "جلود الحيوانات، الحجر، الخشب، القماش" وغيرها مصنعة من قبله، ومعدة أصلاً لتوافق صيغ ومرامي تلك التقويمات الحرة التي يستبق بها "فائق" خلاصات وعيه وأواصر تخيلاته في عموم نواحي تفكيره، عبر ترتيب وتوحيد صفوف توجهاته باتجاه الهدف الأبعد الذي تصبو اليه أعماله، من حيث ثقتها بالتأريخ البعيد، أو السحيق،ومن حيث مبدأ إيمانها بالجوهر لا بالمظهر، وفق متممات مهارة الإحساس بتبني الحفر والبحث والحرث والتنقيب داخل أراضٍ ومساحات لوحاته المتماثلة مع صيغ ذلك القدم المدهش، والعراقة الحية التي تصيب الأشياء بفعل عوامل الطمر، والتعرية، وتقادمات الزمن، وموروثاته التحليلية من آثارعتق وذرات صدأ، وكل ما يوحي بوطأة الزمن وتجلياته المنحوتة فوق سطوح لم تعد ناعمة أو ملساء،كما كانت لحظة بهاء وجودها "الفيزيقي" منذ اندلاع فجر بداية إحساسها التلقائي والعفوي الملازم لروح البدائية.
ثراء السطح التصويري وبلاغته
فضاءات وعوالم بلوامس من حزوز وأخاديد وبروز، تحيط بمدخرات تحسسية تعي بلاغة السطح التصويري الحاضر والمهيأ لاستقبال أية فكرة، واستيعاب أية مادة تساند الموضوع الذي تبتكره ذائقة "فائق العبودي"، وهو يعبد خطوات فكرته نحو ترميز قصدي لكل ما يحيط ويجاور معاملاته الارتباطية نحو خلاصة المشهد المتحرر من سطوة الجمود، والوقوف عند عتبات الرضوخ للأنماط الأسلوبية بأمراضها المعروفة، لذا يلجأ الى وضع لوازمه ومحاليله ومستلزمات ترصيف طبقاته الواحدة فوق الأخرى عن طريق المعاجين أو كثافة الألوان التي يختارها، وفق تناسب محسوب يزيد من عمق جوهر لوحاته التي توهم المشاهد غالباً كما لو أنها خاضعة لعمليات طباعة أكثر من خضوعها لمهارات الرسم، وتلك مزية مغرية للفنان الذي يجاري فكرة المجاز والتأويل على حساب الفهم العام، والسطحي لمجمل الأعمال التي تبقي عوالمها وموجوداتها طافية فوق سطوح عادية، لا تلامس جوهر الأشياء، و لا تدع أي مجال للمشاهد لأن يتماهى مع موجودات العمل الفني، ويقيم صلة وصل وتفكير ما بينه، وما بينها،ومن ثم يشاركها فعلياً "أي المشاهد" من أجل زيادة مناسيب تلك الصلات الإيجابية التي ما برحت تتمناها وتتنباها نظريات وتطلعات الفنون الحديثة في مجمل نواتج سعيها في خلق المتعة والفائدة، ومن ثم حيوية فعل المشاركة الفاعلة عبر تصاعد وتيرة أثر التأويل في جعل اللوحة مفتوحة، وقابلة للإضافة كما هي قابلة للحذف، والإبدال، والتحريض الممكن، والمتوقع من خلاصة تلك العلاقات الرامية لخلق توازن منطقي وطبيعي ما بين جميع أطراف هذه المعادلة الواقعية في نهاية الغرض والمسعى واللزوم الذي تتميز به ميول "العبودي" من خلال خلق مادته، وتحضير خامته، وتوريد كل ما يرد، وما من شأنه أن يثري بلاغة السطح التصويري، بكامل صلاحيات استيعابه لطبيعة المضمون واغراءات الشكل المرهون بجملة من تحضيرات وتمهيدات وإجراءات تصميمية، وتنويعات تعاضد مهام الرهان على السمك وجدارة الملمس"تكستشر"، وبما يوحي بفرض هيبة طاغية لحضور الشكل النهائي للوحة ومعمارها المتوالد من حميمية وسببية تلك التنويعات الحرة، حين تتلاقح بثمار وعي مركز، وذائقة جمالية متمرسة مع خلاصة تلك الموجهات التي يحركها الفنان، سعياً ووصولاً في ادراك غاياته، وتسبيحاته الروحية بملاكها الصوفي، وأحزانها الغامضة أحيانا، وورعها وخشوعها المتناغم مع لحظات ظفر بسعادات كونية، تلازم جوهر المعنى الصلب، والمتماسك لأوجه الحياة، وبهاء وجودها الرمزي والفعلي، وخوالص مكملات محيطها رغم تواري أو غياب وجود الإنسان تماماً من لوحات "فائق العبودي"، بفائض قيمة تحدياته لفرض هيمنة ذلك الوجود، من خلال ما تركه ويتركه وسيتركه - لاحقاً- في كل يوم وآن من أفعال وممارسات استطاعت أن تحمل على الدوام لوائح ذكراه، وصحائف أعماله منذ أن وطأ بجسده وروحه تراب هذه الأرض واستنشق هواءها.