في سياق احتجاج المثقفين المغاربة:
دفاعا عن المثقفين ...دفاعا عن المجتمع المغربي
عثماني الميلود
أعتقد أن المثقف المغربي ليس كذلك إلا بالسياق الذي ولد فيه ونشأ وترعرع .
وإذا كان صحيحا أن صورة المرأة
المغربية امتداد طبيعي لنظرة المجتمع المغربي لامتداده ، فمن الأولى أن نعتبر المثقفين
المغاربة جزءا لا يتجزأ من امتدادات المجتمع الذي احتضنهم وتفاعل مع أفكارهم
وأفعالهم ونزوعاتهم. هذا ليس دفاعا عن المثقفين، فهم أكبر من أن يدافع عنهم ، لأنهم المالكون للوسائل والقنوات
والآليات لفعل ذلك، ولكن المقصود أنه إذا تم تحميل المثقفين المسؤولية كاملة، ففي
ذلك تجزيئ لصورة المجتمع المغربي وعزل لمثقفيه حتى تنشأ جبال من الجليد وممالك من
الأوهام والأحكام. ولعل غربة المثقف،إن حصلت، فهي من غربة المجتمع أيضا. من هنا
نطرح الأسئلة الآتية : من هو المثقف؟ وما دوره ؟ ولماذا يجب أن
يكون من أدوار المثقف كونه مدافعا عن المجتمع؟.
من أسباب إعادة صياغة هذه الأسئلة الآن وهنا بالمغرب، كوننا نعيش أزمة حادة
على أكثر من مستوى، وحاجة المجتمع لمن يفتح النقاش، ويثير القضايا، ويبتكر الحلول،
أضحت، أكثر من أي وقت مضى، مسألة حيوية وضرورية، خاصة أنه، بعد 70 سنة على
الاستقلال، تقريبا، أثبتت كل المؤسسات أنها تفتقر إلى القرار الصائب وتميل إلى تدبير الأزمة بأكثر
الأساليب تخلفا، وأشدها محافظة ورجعية. ولعل كثافة الخطاب الرجعي اليميني وغير
اليميني، والشلل الذي أصيبت به كثير من القوى الديموقراطية والوطنية دليل آخر على
إلحاحية تجديد سؤال المثقف وأدواره، ودوره في الدفاع عن المجتمع المغربي في ظرفية
يتم فيها الاستفراد بالحكم وتجييش كل مناحي الحياة وتفقير العمال والإضرار بالطبقة
المتوسطة بشكل مكشوف وغير مسبوق، ونشوء إرادات فردية تخون حتى القيم الذي غذتها
أمدا، والقوى التي أوصلتها إلى مراكز القرار. وهنا يقيم وحش التخلف وتتناسل طيور
الظلام : أليس من حق المثقف العضوي، في مثل هذه الفترات المفصلية، أن ينشر الأمل
بنشره لقيم التفكير النقدي وصياغة صوت المجتمع المغربي الذي يبدو لمن لا يرى أنه
جامد متفرج على مصيره، مستسلم لإرادة الطغيان والاستبداد والفساد. إن مشكلتنا ليست
مع أفراد بعينهم، مشكلتنا مع بنية سياسية وتدبير متعالٍ، وأجهزة شلت بدهائها
ومكرها أحاسيس الشعب وقدراته الطبيعية عن رؤية الحقائق واتخاذ المواقف وتقرير المصير
والحسم في صورة الحاضر ومآلات المستقبل.
للإجابة عن هذه الأسئلة سأستعين بمفكرين كبيرين، هما: جون بول سارتر
(أيقونة ثورة المثقفين إبان ثورة 1968) ومواطنه المفكر الفيلسوف ميشيل فوكو
(أيقونة أخرى من ثورة 1968).
فمن هو المثقف ؟ في كتاب جميل
ومثير ، في الآن، لسارتر ( دفاعا عن المثقفين) يطرح المفكر هذا السؤال، ويقترح
أجوبة. فنحن إن لم ندخل في عين الاعتبار
سوى الانتقادات التي توجه إلى المثقفين لكان من اللازم تجريم هؤلاء. وسارتر يسجل
أن هذه الانتقادات هي هي، في كثير من بلدان العالم، ومنها اليابان. ونحن نقول
أيضا، أنها الانتقادات نفسها الموجهة للمثقفين المغاربة (وليس هذا أوان التفصيل
فيها). يخيل إلى سارتر أنه ما بين 1945 و1950 استولى المثقفون على السلطة السياسية ، واقترفوا من
الآثام والشرور والمصائب ما يجعلهم لا يختلفون كثيرا عن طغاة لم يكن بينهم وبين الثقافة أي ود أو تقدير .إن
وجود المثقفين إنما هو من أجل المحافظة على الثقافة ونقلها وتوصيلها. فهل هذا يجعل
المثقفين حراسا للمعبد، ومحافظين في جوهرهم وحتى حينما ثاروا على السلطة السياسية
وقرروا النفور منها غذوا ثقافية "نيهيلية" جعلتهم يؤثرون سلبا في نظرة
مجتمعاتهم إلى السلطة، ككيان، وإلى السياسيين كمدبرين للسلطة. وفي المغرب لابأس أن
نلكز الجسم الثقافي في بلادنا، وأن نقول إن المثقفين (سواء أكانوا يمينيين أو
يساريين أو إسلاميين) اقترفوا الذنب نفسه، خدعوا المجتمع في ظل ظروف عصيبة وأوضاع
خطيرة مرت بها بلادنا على فترات متقاربة. وما يزال الذنب يقترف ، والسر في ذلك
ارتضاء المثقفين (بعض المثقفين) أن يلعبوا دور المبررين والملطفين والمتواطئين
والمضللين. هل هذا الاستدلال سيدفع صوتنا الداخلي إلى القول: إن المثقفين المغاربة
كانوا في الفترات المشار إليها، وفي الحكومات التي هيمن فيها اليمين أو اليسار أو
الإسلاميين، غير فعالين وغير مؤثرين ومتقلبين ومتذبذبين ، مع افتقارهم إلى القوة
الاجتماعية والاقتصادية. الواقع أن أغلبية المثقفين المغاربة الذين حموا أنفسهم من
هوى السلطة بمعناها التحيزي والتعييني، حاكموا وحوكموا ولم تتلبسهم الأخلاقيات
والمثاليات. إن المثقفين المغاربة الذين أعنيهم بكلامي هذا هم أناس أدركوا بوعي
حاد، في داخلهم، وفي المجتمع المغربي، ذلك التعارض الجذري والأزلي بين البحث عن الحقيقة
العلمية وبين الايديولوجيا المهيمنة. وفي هذا أخْلصُ مع سارتر إلى أن المثقف
المغربي هو صورة من مجتمعه، وهو خير من يمثل المثقف المغربي، شاهد، أراد أو لم يرد، على مجتمعه المتمزق المتعب. فهو نتاج
تاريخي وليس نتاج إرادة متعالية، ما فوق تاريخية. ولهذا لا أرى من حق المجتمع
المغربي أن يشتكي من مثقفيه ، ولا أرى من حق المثقفين أن يتبرموا من مجتمعهم
(وكلامي هذا ليس موجها للطائفيين بجميع ألوانهم). فما المطلوب من المثقفين
المغاربة، الآن وهنا؟ المطلوب مبدئيا أن يُجودوا منتوجَهم، ويبرعوا في تخصصاتهم،
وأن يدركوا أنه لا يطلب منهم أن يكونوا دعاة إيديولوجيا، رجع صدى أو ببغاوات تكرر
الشعار السياسي للحاكم ، أو معارضين سيزيفيين ينوبون عن أوسع الفئات الاجتماعية في
صياغة مطالبها والدفاع عنها. مطلوب من المثقفين المغاربة ألا يقتاتوا من موائد
الحكم السياسي، وأن يتقنوا حرفتهم كصناع للأفكار من واجبها أن تنفع الوطن
والمواطنين. لذا، فإن من مسؤولية المثقفين أن يهتموا بقضايا المجتمع السياسية
والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وأن يُحيِّنوا هذا الوعي وهذه المسؤولية حتى
لا يجدوا أنفسهم في الأخلاقيات يعيشون، وفي المثاليات يسبحون.
فلماذا يجب أن ندافع عن المجتمع المغربي كله ؟ ولماذا يجب أن نهتم كثيرا بما
سماه فوكو، بتاريخ الحاضر (Histoire du présent)؟ ولماذا التاريخ الحاضر هو التفكير في الالتزامات الشخصية،
والتركيز على أحداث بعينها تسمح بتشخيص تاريخ الحاضر ؟ ينبهنا فوكو ، والعهدة
عليه، أن هذا التوالد في التخصصات المتميزة بالتضخم، في نقد الأشياء والمؤسسات
والممارسات الخطابية، هو ما أدى إلى تفتت القضايا، وربما فتت كثيرا من الأمور
الحميمية والأشد صلابة لنا، ولأجسامنا ومختلف حركاتنا اليومية. ومعنى هذا الكلام ،
وحسب فهمي المتواضع جدا، أن تضخيم المثقفين لقضايا دون غيرها ، والرفع من النقاش
بشأن نقد الأشياء والممارسات، أدى إلى سيادة نزعة تجزيئية تستفيد منها السلطة
الكلية أكثر مما تتضرر منها. هل هذا يعني ضرورة تخلص المثقفين، من أجل إعادة بناء
تاريخ للحاضر، من السرديات الكبرى، بالمعنى الذي صاغه ليوتار (1984) ، وبالانتقادات
التي وجهت لها ككيانات نظرية معلقة أو مقطوعة أو مرهقة أو ممزقة أو منقولة أو
كاريكاتورية ؟ وفي المقابل هل هي دعوة إلى السباحة والخوض في السرديات الصغرى ، شأن
تثمين الذات ، والتفصيل في الحديث عن التجارب والمغامرات والإعلاء من الحدس الفردي
وإشاعة ثقافة تذويتية ؟ في مقابل كل ذلك،
قريبا منه وبعيدا عنه ، لابد من إعادة تنشيط ما هو محلي أو قاصر ،أي مقاومة أيّ صنف
من التراتبيات العلمية وآثارها السلطوية الداخلية، وهذا التنشيط يعد، في نظرنا،
وتبعا للمنطق الفوكوي، شكلا من أشكال مشروع جينالوجيا ما بات موزعا ومبعثرا وممزقا
في المجتمع المغربي. هل السلطة في المغرب منمذجة في قطاع ما: اقتصادي، اجتماعي،
سياسي؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن للمثقفين أن يُعينُوا المجتمع على استعادة
سلطته ؟ هل السلطة، في المغرب، شيء يتم امتلاكه والتنازل عنه بواسطة عقد أو قوة،
كما يتم استرجاعه ، وأنها تكتسح هذه المنطقة وتتجنب أخرى؟ بالسعي الصادق إلى فهم
هذه الأسئلة/ الإشكاليات وتحليلها ، يساعد المثقفون مجتمعاتهم على استعادة ما ضاع
منها إذا كانوا يعتقدون أن الديموقراطية هي أن تكون السلطة بيد الشعب، وليس بيد
غيره ، وأن القرار النهائي للمجتمع . وأن هذا القرار لا يصبح نافدا إلا بقرار حربي
أي نتيجة امتحان أو اختبار للقوة حيث الحكم هو السلاح، وليس السلاح هو الحكمُ ، أي
تمكين المجتمع المغربي من ممارسة السلطة الفعلية بوصفها تدافعا وصراعا، لا بوضعها
حربا مستمرة ، وفي ذلك حماية للمجتمع من التمزق والفئوية والطائفية والإرهاق .
ولذلك يشترط في هذه المعرفة أن تكون نفعية وعملية، في الآن نفسه، هذا من جهة، ومن
جهة أخرى، يجب أن تفيد هذه المعرفة في التحكم والتمكن من القوانين التي تقيمها
السلطة من أجل إنتاج خطابات الحقيقة . لا يمكن أن يجابه المثقفون المغاربة خطابات
الحقيقة إلا بإنتاج خطابات للحقيقة مضادة ،
وهي السلاح الذي يستعيد به المجتمع السلطة مصداقا لقول لفوكو مفاده ، أننا خاضعون
بواسطة السلطة من خلال إنتاج الحقيقة . هذه الحقائق تترجمها مجموعة من القواعد
القانونية التي صنعت في المجالين القانوني والقضائي بالمغرب، فهما يشكلان أرضية
دائمة لعلاقات الهيمنة وآليات الإخضاع متعدد الأشكال، لكن مع ضرورة تجنب الوقوع في خلط منهجي متمثل في اعتبار السلطة
وكأنها ظاهرة هيمنة واحدة وموحدة ومنسجمة ، فقوة السلطة هي من ضعف إدراك هذه
الحقيقة. وبإنتاج خطابات للحقيقة المضادة ندافع عن مجتمعنا ونمكنه من استعادة
السلطة التي سلب منها عبر قواعد قانونية وقضائية وتمثلات ثقافية وأشكال تمظهرية
مجالية وجغرافية وبروتوكولية.
وأود في الأخير أن أختتم هذه الورقة بالقول، إن تجديد
صورة المثقف والبحث عن أدوار متنوعة له، والدفاع عن المجتمع ضد سلطة كلية، وجعل
المجتمع حيويا، متحررا، ديناميا، مستقلا، واعيا بوجوده، قادرا على إنتاج خطابات
الحقائق مضادة من شأنه أن يورط المجتمع والمثقفين في معركة استعادة السلطة، وما
يقع داخلها من معاني الديموقراطية والعدالة والكرامة والحق في الاختلاف.
د. عثماني الميلود