أنطونيو غرامشي مفكر ومناضل إيطالي أودع السجن بأمر
من موسوليني بتهمة التآمر ضد سلطات الدولة وإثارة الحرب الأهلية والتحريض على الكراهية
الطبقية وتمجيد الجريمة والدعاية الهدامة.
وهناك في زنزانته كان قد كتب دفاتر السجن. أعظم
منجز فكري وسياسي وأدبي.
على الرغم من المعاناة الجسدية والنفسية ورقابة
وسيطرة إدارة السجون، ورغم عدم قدرته على توفير الوثائق الأساسية والمواد الببليوغرافية
الضرورية في الوقت المناسب، رغم ذلك، فقد تمكن من كتابة اثنين وثلاثين دفترا، أي ثلاثة
آلاف صفحة مكتوبة بخط اليد، ما يقابل أربعة آلاف صفحة. حلل غرامشي دور المثقفين الايطاليين
على مر التاريخ، مكيافيلي، أوغو فوسكولو، دانتي، مرحلة الاصلاح، وعصر النهضة، والرواية
المصورة، والفولكور، واللغة الأدبية واللهجات، والمسرح ومئات من المواضيع الأخرى. كان
غرامشي موسوعي المعرفة.
وقد صدر عن دار طوى ترجمة لبعض رسائل غرامشي التي
وجهها إلى أمه فيما يلي بعض المختارات منها:
أمي العزيز، لا تقلقي بشأني، ولا تفكري أني بصحة
سيئة. أنا بحالة جيدة قدر المستطاع. لدي عنبر أدفع ثمنه نقداً، أي لدي سرير لا بأس
به، يتوفر أيضاً لدي مرآة حيث أنظر إلى نفسي.
ويصلني من المطعم وجبتين في اليوم. لدي آلة وضعت رهن إشارتي، لتسخين الأكل وإعداد القهوة.
أقرأ ست جرائد في اليوم وثمانية كتب في الأسبوع، بالإضافة إلى مجلات مصورة ومجلات أدبية.
أدخن سجائر ماسيدونية. من الناحية المالية لا أعاني من أي حاجة ملحة. لا يمكنني الكتابة
بالكثافة التي أتوقعها. أكتب رسائلي بطريقة غير منتظمة. لم أتلق أي خبر عن جوليا والأطفال
منذ ما يزيد عن شهر ونصف، لهذا لا يمكنني أن أكتب لك أي شيء عنهم.
أنا متأكد جيداً انني سأدان والرب وحده يعلم بكم
سنة. ويجب أن تتفهمي أن استقامتي لا دخل لها في الأمر، ولا ضميري أيضاً فيما يتعلق
ببراءتي أو إدانتي. هذا الأمر سببه فعل نسميه السياسة، وهذا يعني أن كل تلك الأشياء
الجميلة لا علاقة لها بهذه القضية.
*
أنا بخير، حياتي تمر بطريقة متشابهة. أقرأ. آكل
وأنام. الأيام تتكرر بنفس النسق. أنتظر بريدي كل يوم، لكن لا يصلني إلا القليل.
*
تلقيت رسالتك في الثلاثين من شهر نوفمبر. وذلك بعد
شهر من انقطاع أخبارك. سأكون سعيداً لو أنك كتبت لي رسالة كل خمسة عشر يوماً. قد تفي
بطاقة بريدية بالغرض. في هذه الحياة، المرغم على عيشها، يعتبر غياب الأخبار عذاباً
حقيقياً. لا أدري إن كانت الكتابة ستخفف عنك وتطمئنك. لا ينبغي أبداً أن تشكّي في سكينتي
الروحية. لست طفلاً ولا رضيعاً. ألا تعتقدين أن حياتي كانت دائماً مسطّرة وموجهة وفق
قناعاتي الشخصية؟ التي لم تكن بكل تأكيد لا أهواء عابرة ولا ارتجالات لحظية. كما أن
السجن أيضاً يعتبر وسيلة للمواجهة. إن لم يكن وسيلة للترفيه أو على الأقل ضرورة، بحكم
أن لا يخيفني كفرضية ولا يحبطني كوضع حقيقي. بالإضافة إلى أن وضعيتي الصحية نفسها تمنحني
بعض القلق، لكنها اليوم في السجن أعادت إليّ بعض الثقة. برهنت لي تجربتي أني أكثر قوة،
حتى جسدياً، وأكثر مما كنت أتصور، هذه العوامل كلها تساهم في جعل نظرتي إلى المستقبل
القريب نظرة باردة وهادئة. أرغب أن تتأكدي أنت أيضاً، من ذلك.
*
أنت مخطئة عندما تفكرين أنني متكدر وفريسة لليأس.
لست كذلك مطلقاً، بطبيعة الحال، لا أطير فرحاً ومرحاً طوال النهار، لكني أيضاً لست
كئيباً ويائساً كغراب يحطّ على شجرة سرو في مقبرة.
صدقاً أنا أحس بالهدوء والسكينة، كما يجب أن يكون
عليه شخص يتمتع بضمير حي وينظر إلى الحياة بدون أوهام. لا أحب أن تكوني مهووسة بفكرة
أني يائس، لو كان الأمر صادر عن شخص غيرك لأحسست بالإهانة والشتيمة الأبدية. اللعنة
لم أعد طفلاً يضع نفسه بنزق ورعونة في مأزق. لا لست كذلك. لاحظي ها قد بدأت أنفعل وسأغضب
منك مرة أخرى. لكن كيف يمكنني أن أقنعك للاحتفاظ بهدوئك وسكينتك. هل تريدينني أن أعاملك
بقسوة كي تصدقيني؟
*
أريد منك، كي أكون مطمئناً، ألا تجزعي ولا تقلقي
كثيراً حتى ولو بطريقة عاطفية جداً، أنه مهما كان حكم المحكمة فأنا معتقل سياسي وسأكون
متهماً سياسياً. ولا ينبغي أبداً أن تشعري بالخزي من هذه الوضعية. وفي العمق هذا السجن
وهذه المحاكمة أنا من أرادها بطريقة أو أخرى بما أني لم أتراجع أبداً عن آرائي التي
من أجلها أنا مستعد للتضحية بحياتي وليس فقط البقاء في السجن. ونتيجة لذلك فلن أكون
إلا فرحاً ومرتاحاً من نفسي.
*
ولكن لا تظني أني فقدت سكينتي. تقدمت في العمر أربع
سنوات، أصبح شعري أشيب من السابق بكثير، فقدت أسناني، لم أعد أضحك من أعماق قلبي كما
في ما مضى، لكني أعتقد أني صرت أكثر حكمة وازدادت تجربتي في الحياة ثراء.
*
لم أفقد رغبتي في الحياة. فأنا لم أصبح مسناً بعد،
أليس كذلك؟ نصبح مسنين عندما نبدأ بالخوف من الموت وإبداء الأسف عند رؤية الآخرين يفعلون
أشياء لا نستطيع القيام بها.
*
المصدر :