المثقف”هو
مَن تراكمَ لديه كمٌّ هائل من المعرفة بإدراك واع فيَتم ترجمتُها من صور تجريدية
وأفكار ذهنية إلى لبنات ملموسة على أرض الواقع، متسلحا بالعزيمة: ونعني
بها القوة
الإرادية على إخراج أفكاره إلى الوجود تطبيقيا؛ والفعل أي تحويل كل المدركات بما
فيها القيم وكل مكونات الثقافة التي هي في صالح الإنسان، وتقدم له خدمات جليلة
تعود عليه بالنفع والخير إلى حيز الوجود كما ذكرت.
والمثقف طيلة
عمره مشحون بنزعة الشك والاستمرارية، مهووس بالجديد والتجديد، لايقنع أبدا بما أنتجه،
أو بما هو بين يديه .. المثقف أولا وأخيرا هو دينامو الحركة والتغيير عن طريق
البحث والتنقيب، من أجل الوصول إلى الممكن على أنقاض ماكان.
2ــ المثقف والتغيير
المثقف ليس
منفصلا عن الواقع، ولا على ترسبات الماضي، فهو متشبع بالتقاليد والأعراف، والأفكار
التقليدية، لكن بحكم معاينته للواقع والوعي بأوضاعه، وطبقا لمقارنته مع الركب
الحضاري، وما يراه بعين العدل والحق، وطموحه القوي في أن يعيش الإنسان كريما
متمتعا بكافة الحقوق الإنسانية، والبحث عن الجديد خوّل له أن تتضح الرؤية للواقع
وللفعل الاجتماعي، كمثقف فاعل بالإبداع والخلق، وذلك عن طريق التجديد بأفكار نيرة
تسير بالإنسان والمجتمع إلى الرقي، وهذه الرؤيا التي يتحلى بها المثقف، لم تأت من
فراغ، ولا نبوءة أوحى له بها ملاك، وإنما هي نتاج حمولة فكرية ترسبت في الذاكرة من
خلال ما لملمه من الماضي سالفا، وتفاعله مع الحياة والواقع حاليا، حيث أدى هذا
التراكم الثقافي إلى نهج طريق نقدي متجدد يقتات من السيرورة التاريخية، ليقفز على
بعض الموروثات والرؤى التقليدية التي تناشدها العقليات القديمة، مدعمة بثوابت
مطلقة وأصول ثابتة توسع المساحة بينها وبين رؤية عقلانية نقدية لواقع الحياة، وإبداع
المثقف المناشد للتغيير لن يكون بأي حال من الأحوال أسير القرائن الجامدة التي
تشكل حلقة جامدة في جسد العقل النقدي ، فتعطل قدرته على الخلق والسير إلى الأمام
لمصافحة ركب الحضارة والتطور..
3ــ المثقف والسلطة
نعلم علم
اليقين أن السلطة المهيمنة الملتصقة بالكراسي، التي تقتات على المصالح العامة
لبناء مصلحتها الخاصة، والتي بيدها مراكز القرار تدير مروحتها وفق أغراضها
الشخصية، لتحقيق طموحاتها على حساب الغلبة توجه رمحيْن أساسيين لا ثالث لهما:
ـــ الرمح
الأول مزروع بثقافة الغيبيات لحل المشاكل الاجتماعية بكل ما يكرسه الجهل والغباء،
ويحنط الإرادات القوية العازمة على الفعل التغييري، مطعمة بخطاطات فاشلة ووعود
كاذبة وفق خطب مزوقة بمساحيق مزورة تنثني على سياسة الغش والفساد لتمويه الطبقة
الكادحة، وتمرير أشياء على رؤوس المغلوبين في غفلة منهم ، مع الاستفراد برأيها
الشخصي دون إشراك الآخر، وإغلاق كل أبواب الحوار مع إلغاء الرأي الآخر..
ـــ الرمح
الثاني محاربة أي فكر واع متنور، يحاول نشر ثقافة الوعي وتوجيه عدسته إلى الأسباب
الرئيسية لإغباء الحقيقة، والسبب المباشر في تفشي القهر واستفحال البؤس بين صفوف
المواطنين، بل تشميع بكل الوسائل المنافذ التي تسرب الضوء إلى حد استعمال العنف و
القمع أو القتل أحيانا ..
وحين يتسلل
المثقف بين هذا وذاك، راكب صهوة المغامرة، قافزا على قنوات التحدي، ليضيء بفكره
المتنور العتمة وكل السراديب الغامقة، من أجل تطبيق أفكاره التي هي في العمق
فاضحة، وكاشفة لكل العراقيل المنتصبة في وجه الحضارة والتطور، وتكرس التبعية بكل
أشكالها، يصطدم بجهاز قمعي تعسفي قوي.. وهنا يجد
المثقف نفسه بين المطرقة والسندان في صراع محتد بين أفكار نبعت من حلم وأمل
كحافزين أساسيين على التغيير والتطور، يؤمن بها ويريد ولادتها ولو بطرق قيصرية، وآليات
قمعية ضاغطة تكرس الضلال والتخلف والرجعي المجتر..
4ــ آليات الاشتغال:
ليس بالأمر
الهين على المثقف أن يؤثث واقعه بما يحلم به، لأن طواحين السحق مبثوثة في كل
الزوايا، والعيون الحالكة تترصده في كل مكان، لكنه مشحون بمبادئ قوية تدفعه إلى
التحدي مصرا على الوصول إلى مبتغاه مهما كلفه الأمر، فيعتنق بعضا من آليات
الاشتغال:
ــ اليقين
التام بأفكار تخدم الصالح العام.
ــ تأدية
رسالته النبيلة بأمانة معارضا / فاضحا/ رافضا سبل الاستبداد والطغيان والتسلط
والتخلف.
ـــ عدم
اجترار ممارسات السلطة الحاكمة.
ـــ الصمود
في وجه كل الأشكال القمعية.
ـــ عدم
التخلي عن مبادئه التي يؤمن بها بالاستلاب أو الهروب مهما كلفه الأمر.
خاتمة:
كل مثقف لا
ينطلق لتأسيس مشروعه الثقافي من منطقة التغيير، ولا يحمل الآليات المشار إليها
سالفا، ويتخلى عن مبادئه الصارمة التي تخدم المستضعفين والمقهورين، ويتملق
للسلطات، وينحني لأوامرها وإملاءاتها ليس مثقفا بالمرة، وخسارة فيه لقب المثقف.