غيّب الموت الأديب والصحافي السوري ياسين رفاعية،
بعد معاناة طويلة مع مرض عضال، عن اثنين وثمانين سنة في بيروت.كتب رفاعية مقالات وأجرى
حوارات مع
أبرز أدباء جيله، وانتقل من حرفة الفرّان في أحد أزقة دمشق إلى الكتابة،
بعد نشره قصصاً قصيرة في صحف ودوريات سورية ولبنانية.
عمل رفاعية في الصحافة السورية واللبنانية والعربية،
وبعد إدارته تحرير مجلة “المعرفة” السورية انتقل إلى بيروت عام 1961، والتحق بمجلة
“الأحد”، ثم انتقل إلى صحف ومجلات أخرى.وفي أوج الحرب اللبنانية انتقل إلى لندن، وأمضى
فيها نحو خمسة عشر عاماً، ليعود من ثم إلى بلده الثاني لبنان، الذي منحه الجنسية.
ولمع الأديب، كما في الصحافة، في كتابة القصة القصيرة،
وأصبح واحداً من كتابها الطليعيين. وتميّز أسلوب ياسين، بلغة سلسة وواقعية باهرة، لا
تخلو من الدهشة
والسرد الموجز. ومن أعماله: “الحزن في كل مكان”،
“العصافير”، “العالم يغرق”.
وبعد تجاربه القصصية كتب الرواية، فاستوحى من أجواء
الحرب اللبنانية، ثلاث روايات هي: “الممر”، “مصرع الماس″، “دماء بالألوان”.وبعد اندلاع
الثورة السورية كتب رواية بعنوان “سوريو جسر الكولا”، تناول فيها معاناة السوريين المهجّرين
تحت جسر الكولا في بيروت، وشتاتهم.
إلى ذلك، كتب رفاعية الشعر، ومعظمه في الحب، له
قصائد عدة رثى فيها زوجته الشاعرة أمل الجراح، التي كانت رفيقته في الترحال، وهي عانت
الكثير جرّاء مرضها المزمن.
نموذج من قصصه
عندما يستبدُّ الحزن
ما هي المشاعر... وما هي العاطفة؟
إنني أعاني من اهتزاز في هذه الأحاسيس، في كل مواجهة
مع الحياة يأتي الحزن أعنف وأقوى ممَّا كان عليه من قبل. يقولون إن العاطفة تنمو وتتغيّر
بحسب الحالة التي فيها الإنسان، إنها تصير في برهة شيئاً جديداً. هذا ما قرأته في كتب
علم النفس، وظننت أن كل النظريات مادة للكتابة في لحظة يرى المرء الحياة رافلة بالنضارة
والشباب، لكأننا نعيش طفولتنا من جديد، ذلك فيما يبدو لنا أننا نخلق أنفسنا باستمرار؛
ربَّما في الكتابة، أو الفن، أو الموسيقا. لكن ما إن تصدمنا فاجعة حتّى يتحوّل كل شيء
إلى نقيضه، وتصبح العاطفة غامضة ومبهمة، ويصبح الحزن جامحاً ملتهباً بالألم، يأخذ كل
شيء في طريقه كالعاصفة التي تأخذ كل شيء في طريقها: البشر والحجر والرمال والغابات...
إننا نتسلّق في الحزن درجات من الحدّة والعذاب، فتتغيّر الصورة، إنها تتحوّل جذرياً
حتّى ليتغيّر نوعها، وتبدو الحياة في رمادها الأسود كما لو أنها كيانٌ آخر. وعندما
يبلغ الحزن حدّه الأقصى نقترب من الجنون، أو في أبسط الأحوال من الهلوسة وضباب الرؤية.
والحزن على عكس الفرح، هو إرغام جميع حواسنا وأحاسيسنا على الانحناء والقبول بما أراده
الله لنا، لا نستطيع أن نناقش العدالة السماوية، وعقلنا أعجز من أن يحيط بستر الأقدار
ومفارقات الحياة التي رسمها الله للبشر.
الحزن حين يبلغ مداه نبدو معه أشد ضعفاً من سنبلة
في مهب الريح، أشد ضعفاً من فراشة، من نملة، من حشرة لا نراها بالعين المجرّدة.
الحزن يقهرنا في أفكارنا وحياتنا إلى حدٍّ كبير
من الظلم والاستبداد، إنه يستبدُّ بعواطفنا، ورؤانا، وحاضرنا ومستقبلنا.
أشعر هذه الأيام، وقد فقدت أعزّ مخلوقين على قلبي
في فترة زمنية متقاربة. أن المستقبل أصبح مغلقاً في وجهي، بل أصبح نفقاً مسدوداً لا
رجاء فيه، وأنّ لا جدوى من المقاومة... فهل عليَّ أن أستسلم وأرمي السلاح والرضوخ للأمر
الواقع، هذا الأمر الواقع الذي لا حيلة لنا فيه. هناك دائماً جدلية مستمرة مع العناصر
والأشياء تدخل في العاطفة وتعاود خلقها من جديد بمجرّد أن تتكرّر. لا توجد حالتان نفسيتان
متشابهتان تماماً.
إن حواسنا تضعنا على اتصال مباشر مع الواقع الذي
غالباً ما يكون رديئاً وقاسياً ويقف الحزن سدّاً أمام المشاعر الأخرى، فلا نعود نستطيع
أن نفهم أسرار الكون بوضوح: أنت تأتي إلى الحياة، يعني أنك. في المحصلة النهائية. سوف
تموت. هذه هي المعادلة، تقبلها في الآخرين ولا تقبلها على من تحب خصوصاً عندما يكون
الموت (الذي هو حق ومحتّم) ظالماً إلى حدٍّ يأخذ من بين يديك ابنتك الصبية التي ربيّتها
برمش العين ودمعها، ولما تبلغ السابعة والعشرين بعد، في حين لم يمضِ على رحيل حبيبتك
ورفيقة عمرك (أمل) أكثر من عام.
هنا يتبدّى ظلم الموت في أحلك صوره. والمشكلة، بل
والمأساة أنك لن تستطيع أن تفعل شيئاً سوى أن تبكي في الطرقات، ولا تمسح دموعك.
إن النفوس لا تستطيع النفاذ إلى بعضها، والعواطف
لا تُرى من خارج، قد تضطر أن تبتسم وأن تضحك لنكات يحاول أصحابها التخفيف عنك، بينما
في الواقع أنت تبكي في داخلك دماً. لا أحد يعرف كم هو جرحك غائر إلا أنت، وأقسى ما
في الأمر أنك لا تستطيع أن تعبّر بدقّة عن هذه الحالة التي تهزّك هزاً عنيفاً، فيما
تبدو من الخارج أنك ما زلت صامداً، كأبي الهول: أنت مضطر أن تكذب بمشاعرك مع الآخرين،
ولكنك لست مضطراً أن تكذب على نفسك، فابكِ: ابكِ ما وسعك البكاء، هو وحده البكاء وبصوت
عال يعبّر عن حزنك العميق. إنك تجعل بينك وبين الناس حجاباً كثيفاً عن أعينهم بقدر
ما هو شفاف بعينك الداخلية.
إن ما تلتقطه من مشاهد وأصوات تعازيك بهذا الفقد
المزدوج، هي ظلال تطفو. في المحصلة. على السطح.
لن تستطيع أن تنصرف عن الحياة، هذا هو قدرك، إن
كان من شيء يعزّيك أنك أحببتهما حتّى الطفاف، وإنك فعلت الكثير الكثير لإسعادهما. أمَّا
هذا الموت الصلف فهو مصيرنا جميعاً، وهذا هو العزاء. إنك تحاول أن تنفذ إلى جوهر الحياة
الدفين وأن تراها على حقيقتها التي كانت ضائعة خلف هذه القشرة السميكة الزائفة التي
تنسجها حول عواطفنا ضرورات العمل واللغة والأعراف الاجتماعية، خانقة بذلك حركتها المتفجرة
وفرادتها، ولابدّ أن تكشف لنا جزءاً من أنفسنا عندما يقترب الخطر وتموت الحياة...
حوار مع الأديب الراحل
ياسين رفاعية : حاوره نجاح حلاس لمجلة العروبة
في حوارنا معه ياسين رفاعية يتحدث عن احزانه و آلامه
و عن أمل الجراح الحبيبة الراحلة بيروت قدمت لي الحياة المفتوحة على تجارب كثيرة و
دمشق هي الأم و الموئل
يعتبر القاص و الروائي ياسين رفاعية احد أبرز الوجوه
الأدبية المبدعة في سورية و الوطن العربي ,
عرف بتألقه الفكري من خلال ما كتبه منذ أكثر من
خمسين عاماً سواء في مجال المقال الصحفي و القصة و الرواية التي دخل إلى عالمها , و
في جعبته ذخيرة لغوية و أسلوبية و خيالاً هيأه للولوج في هذا الجنس الأدبي المتنوع
, المثير , الذي يضج بالحركة حيث يمتزج فيه الحزن بالفرح ليشكل لوحة الحياة المتحركة
.
التقيته في حمص في إحدى الأمسيات القصصية , كان
متألقاً و حزيناً في آن واحد و لأني في شوق للكتابة عن ياسين رفاعية , فقد أخذت موعداً
منه لإجراء حوارٍ .... في الصباح انطلقت الى فندق حمص الكبير حيث كان ينزل ... الأسئلة
تحضر الى ذاكرتي , تقف على شرفة الحلم وتتوزع بين أصص الورد التي زرعتها أمل الجراح
زوجته الراحلة منذ أكثر من عام ... حين وصلت الفندق كان بانتظاري في الصالة ... طلب
لي فنجاناً من القهوة ... شكرته لأني كنت فعلاً بحاجة الى شراب منبه يعيد النشاط الى
ذاكرتي .
سألته و قد كان بودي أن أحصل على جواب يكون بداية
لأسئلتي التي ستتولد أثناء الحوار .
* أرى في عينيك حزناً
مشرقاً ... بل حزناً شفيفاً .. ما سبب كل هذا الحزن ?
** ولدت و ملعقة الحزن
في فمي ... حياتي منذ طفولتي لم تبدأ بالبكاء بل بالصراخ احتجاجاً لأني خلقت في زمن
توقعت ألا أحبه , و فعلاً لم أحبه .
أول مجموعة قصصية أصدرتها و أنا شاب في العشرين
كان عنوانها » الحزن في كل مكان « لأنني حيثما تلفت لم أر ابتسامة حقيقية , و لا وجهاً
مفرحاً صادقاً .. كانت حياتي منذ طفولتي قاسية , و شرسة , و خيبات أمل حتى في المرأة
, و حتى في الحب , وحتى في الأماني مما دفعني بعد سنتين أن أصدر مجموعة قصص أخرى بعنوان
» العالم يغرق « لقد كان كل شيء يغرق امامي ... عندما وعيت الحياة جيداً اكتشفت أن
الفرح كنيزك في السماء يشتعل , ثم ينطفىء ... أما الحزن فقد كان مقيماً في قلبي و عقلي
كشيء مني .... الحزن يدوم و يا للأسف ... و لحظة الفرح تذهب سريعاً ...إذا أخذنا الحياة
بشكل عام , » العربية « ليس فيها ما يفرح لا على المستوى السياسي و لا على المستوى
الاجتماعي . أما اذا تحدثت عن » الذات « عن شخصي فما مرّ بي من أحداث و مآس جرني الى
بئر من الحزن . ما أكاد أخرج منه حتى أعود إليه ثانية , وكثيراً ما كنت أخرج منه مخنوقاً
حتى الاعياء ... ترين هذا الحزن مشرقاً يا صديقتي !! هل أنت متأكدة ? ... أنا أرى الحزن
من ناحية فلسفية بأنه معرفة , يسمح لك بالتأمل ... باختراق الحجب ... , بمخاطبة الذات
, باكتشاف الداخل ... و من خلال فهمي للحزن فأنا لا أتعامل معه على اساس أنه ظروف حياتية
... بل أتعامل معه بفلسفة إذا جئنا الى الحياة لماذا نموت ?!
الحزن يكشف الموت , و يعريه , بينما الفرح يتجاهله
و هذا هو الفرق ... أنا إنسان تراجيدي بالطبع , و درامي بالطبع , و لست أقصد ان تلك
هي طبيعتي لأنني أرى دائماً ما وراء الوجوه , و لا أصدم لأنني أتوقع السيء دائماً
... الفرح خدّاع ... للوهلة الاولى تشعرين أنك سعيدة , وتظنين أنك في موقع جميل ثم
تفاجئين بأنه كاذب و محتال ... بينما الحزن صادق يكشف عن ذاته للوهلة الاولى من خلال
الوجه المتهالك على نفسه ... الدموع ... الصوت المسكين ... الانحناء الى هذا القدر
الظالم .
باختصار الحزن ليس حالة تتقدم و تتأخر , تجيء وتزول
إنه موقف من الحياة ليس إلا .
* المرأة ماذا قدمت
لياسين رفاعية ? و كيف يراها ?! هل هي الجنة التي يبحث عن نعيمها , و دفئها ...أم هي
النار التي تحرق القلوب ولا تطفئها ?
** المرأة كيان حقيقي
في حياتي ... هي وحدها منقذتي من حزني .. اذا كان الموت على قارعة الطريق ينتظرنا
, فهي الحياة ... هي الجنة الملموسة , وليست الجنة الموعودة ...لقد أثرت بي بضع نساء
في فترات متباعدة من حياتي ... تركن بي الشجون و الأحزان و الأشواق , و الغريب أن كل
النساء اللواتي فارقنني على حد الشفرة ما بين الحب و الكره , بقين صديقات لي حتى الان
...
منهن من رحلن , و منهن ما زلن على قيد الحياة
.
أحببت مراراً مراراً , و دائماً كنت اكتشف أن المرأة
الاخيرة و ليست التي سبقتها هي الحب الحقيقي في حياتي ... كانت النساء جزءاً من كتاباتي
, و لم أكتب يوماً قصة لم أعشها , و خصوصاً العلاقة مع المرأة .
أعود لأقول أن نساء كثيرات مررن في حياتي ... فرّق
بيننا القدر لظروف خارجة عن إرادتنا لكن تلك النساء بقين حبيبات أشتاق لهن حتى و إن
عبر بهن قطار العمر ... كان فراقهن يجعلني في ضياع ... في حال من الهذيان .
* هذا يقودني للسؤال
عن أمل الجراح زوجتك التي رحلت منذ زمن ليس ببعيد , و التي كتبت عن دفئها , و عن رقتها
, و عن انتظارها على الشرفة ... عن أصص وردها , و فناجين قهوتها .. ماذا عن أمل الزوجة
و الشاعرة ?
** كانت أمل الجراح
مرفئي الآمن ... كانت حبيبتي .. لم أتعامل معها يوماً على أنها الزوجة و أم الاولاد
لأنها كانت شخصية مختلفة عن كل النساء ... عشت معها أكثر من أربعين عاماً ... كنت كل
يوم أحبها من جديد .. كانت امرأة استثنائية بكل المواصفات , ساحرة بكل المواصفات ,
و جميلة جمالاً لا حدود له .. كنت مبهوراً بجمالها ... عندما أنظر الى وجهها تنزاح
عن صدري كل الكوابيس و الهموم ... كانت شاعرة و كنت أحب شعرها كثيراَ .. عندما تجلس
الى طاولتها لتكتب الشعر اتركها , و عندما أعود إليها أجدها مضطربة ... شعرها كان يعذبها
لأنها كانت تكتب عن حالتها .. . عن مرضها ... عن قلبها الذي يخونها بين الحين و الآخر
... لقد أجرت اربع عمليات جراحية في القلب في بلدان عديدة منها المانيا , و امريكا
, و بريطانيا و لبنان ...
كانت أمل الجراح تواجه موتها بشجاعة و كانت تتحداه
بالشعر ... و قلائل هم الذين كانوا يعرفون انها تعاني من مرض القلب , لانها كانت تملك
كبرياءً لا حدود له .... و أما أمل الزوجة فقد كانت رقيقة , هادئة , تتجاوز اي مشكلة
بسرعة ... برحيلها لم أفقد الزوجة فقط , بل فقدت الرفيقة و الصديقة , و قارئة ادبي
, و موجهتي في كثير من كتاباتي ... كانت أمل تزغرد عندما أكتب قصة تعجبها ... تزغرد
لأنها تحب الكتابة الجيدة شعراً كانت أم قصة أم رواية ... حتى رواية موتها قرأتها قبل
رحيلها بأيام و كان عنوانها » وميض البرق « يومها قال لها الطبيب : يا أمل لم نعد نستطيع
أن نفعل لك شيئاً .. سألته : كم يوم دكتور ... فرفع سبابته الى السماء , و قال : الخبر
هناك ... كانت ممنوعة من تناول اي طعام فيه ملح ... قالت لي ( أنا داعيتك على الغذاء
) و ذهبنا الى المطعم ... كانوا يعرفون طعامها ... قدموا لنا الطعام دون ملح ... أمسكت
المملحة بيدها و أفرغت ما فيها في صحنها , و التفتت نحوي حزينة و قالت :
(شوف ياسين عودت حالي
سنين على الطعام دون ملح .... الآن سآكل الملح و لن آكل الطعام ...)
في اليوم التالي تقشر جسدها من أكل الملح , و رأتني
أكتب... سألتني إن كنت أكتب موتها ... لم أجبها ... وعندما انتهيت من الرواية كانت
في المستشفى ... طبعت الرواية و حملت اول نسخة لها ... أعطيتها إياها , و تركتها و
عندما عدت في المساء لزيارتها أعادت لي الرواية و بكت و قالت لي : »... اذا مت هيك
رح يصير بحالتك « ... كما قالت : اذا كان الموت يفرحني فلأنني سأموت على يديك ... حاولت
إبعاد هذا الهاجس عنها لكني لم استطع .
طلب منها الطبيب العودة الى البيت لتوديع أشيائها
... فعندما دخلنا قبلت كل شيء... الباب ... كرسيها ... سريرها ... أصص ورودها و بعد
ثلاثة أيام جلسنا على طاولة الطعام .. كانت إلى يميني ... وضعت شوكتها في صحن الرز
و همست : » ياسين دخت « ... ارتمى رأسها على كتفي ... ظننت انها داخت حقاً فإذا بها
تفارق الحياة .
جاءت الرواية الثانية من هذه اللحظة » الحياة عندما
تصبح وهماً «
هذه الرواية التي كتبت عنها مقالات عديدة ... من
ضمنها مقال لناقدة في جريدة الحياة قالت فيه : » في هذه الرواية مشهد لم يكتب مثله
في الأدب العربي و لا العالمي , و هو أن البطل لم يسمح لأحد أن يغسل الحبيبة الميتة
, بل غسلها بيديه « .
و الغريب أني عندما غسلتها بيدي تحول جسدها العاري
أمامي الى شيء مقدس .. لم تكن متيبسة كما الموتى ... بل كانت طرية , و طراوتها تفوق
ما كانت عليه في الحياة ... و هذا الوصف موجود في الرواية .. أما عندما ذهبنا الى المقبرة
فقد قررت أن أدفنها بيدي ... قلت للحفار سأنزل الى القبر ... ونزلت ... تلمست التراب
و بحثت عن طبقة ندية لأضع رأسها عليه ... و خرجت من القبر معفراً بالتراب و جاء ابني
بسام و حمل جثمان أمه و وضعها فيه .. ماتت أمل ... ماتت أمل ... كل هذا الوصف كتبته
في روايتي .
* بعد أمل الجراح
هل بقي طعم جميل للحياة عند ياسين رفاعية ? ... و هل تعود الى ذكراها بين الفينة و
الاخرى لتستحضر صورتها , وتسمع صوتها , و تشّم عبق انفاسها في البيت الذي تركته للخواء
?
** يمكن القول أنني
اعيش و لا أحيا ...إنني إنسان مهزوم ,,, مكسور الخاطر ... حزين ... ضائع .. تائه
... كل شيء في البيت يتحدث عنها .. كتبها ... أقلامها .. دفاترها ... قلم حمرة شفتيها
... عطرها ... فساتينها .. صحيح أن أمل ماتت لكنها لم تزل في البيت .. ها هو سريرها
الى جانبي ...أسمع همسها في الصباح و هي تضع يدها على خدي لتوقظني كي نحتسي القهوة
... الآن أذهب الى المطبخ وحيداً أصنع قهوة لشخصين , و أجلس على الشرفة , ...أصب القهوة
في فنجانين ... تجلس أمامي بكفنها الأبيض ... فأقول لها : كم هي طيبة قهوتك يا أمل
.
أنا لا أعود الى ذكراها لأن كل شيء في البيت هو
ذكر لها .. اللوحات التي رسمها لها عدد من الفنانين ما زالت موجودة على الجدران ..
صالة البيت كما كانت تحب مليئة بالورود ... كرسيها او كما اسميه » عرشها « لم يجلس
عليه أحد منذ رحيلها ... عليه نظارتها و أقلامها , و مشطها و مناديل الحرير ... صوتها
معي في البيت , يرافقني في كل خطواتي فكيف أنسى أمل ?!
* بيروت التي سكنت
في قلبك , و زرعت في خلايا جسدك ماذا قدمت لك هذه المدينة ?
** أحببت بيروت من
أجل أمل التي ولدت في مرجعيون عام 1946 رغم انها دمشقية ... في عام 1948 انتقلت اسرتها
الى دمشق ... و في دمشق التقيت بأمل ... أحببتها ... تركت خطيبها الطبيب و ارتبطت بي
رغم معارضة أهلها وتزوجنا عام 1968 , و انتقلت الى بيروت بتشجيع منها عام 1969 ..
.. لقد قدمت لي بيروت الكثير ... الحرية , والحياة المفتوحة على تجارب كثيرة ... هي
أشبه ما تكون بالمدن الاوروبية ... فيها استطعت أن أشق طريقي و كذلك أمل ... و قد كان
لنا صداقات كثيرة مع كتاب و شعراء لبنانيين , ومعظمهم كانوا يحبون أمل ... دماثتها
, و رقتها و طيبتها مثل شوقي بزيغ , و جوزيف حرب , و محمد علي شمس الدين , وحسن عبدالله,
و من الروائيين : رشيد الضعيف , و الياس الديري , و الياس الخوري , و حنان الشيخ صديقة
أمل .
* و دمشق العابقة
برائحة التاريخ و رونق الحضارة هل تعتبرها الأم الرؤوم و العشق الذي يسري في العروق
? أم انها بالنسبة اليك ككل المدن التي زرتها ?!
** دمشق هي الأم و
الموئل , والعودة إليها باتت ضرورية جداً حياً كنت او ميتاً ... لقد نشأت في دمشق
, وتعرفت الى أحيائها القديمة و أزقتها و شوارعها , و أحببت فيها الرجال القبضايات
الذين كانوا يأخذون من الغني ليعطوا للفقراء ... هؤلاء كتبت عنهم روايتي » مصرع الماس
« التي تطبع الآن في بيروت الطبعة الرابعة و التي يعدها المخرج محمد نجدت انزور مسلسلاً
تلفزيونياً ....
دمشق الحقيقية كلها موجودة في هذه الرواية خصوصاً
في فترة مقاومة الاستعمار الفرنسي ... من دمشق كان عشقي الاول ... يوم كنت فتى في الثانية
عشرة من عمري أحببت فتاة تصغرني بعام واحد اسمها » مها « كانت حبي الأول , و حزني الاول
لأنها توفيت و أنا في ذروة عشقي لها , فتركت بقلبي جرحاً لم يندمل ...
* أبطالك هل هم دائماً
من هذا النسيج الاجتماعي الذي يحاصرنا بعاداته و وتقاليده و أعرافه , أم أن خيال ياسين
رفاعية يسهم في خلقهم ليكونوا محرك إبداعه القصصي و الروائي ?
** أبطالي ليسوا من
صنع الخيال ... بل هم - كما قلت - من نسيج هذا المجتمع ... لأنني لا أكتب من فراغ
, بل أكتب ما أعيشه , و ما أراه , و ما يروى لي عن قرب لذلك أعتبر أدبي من صميم الحياة
... لكن قد يلعب التخييل لأسباب فنية تساعد في نمو العمل الأدبي و هذا أمر طبيعي و
موجود لدى كل الأدباء .
* ما رأيك بالقصة
في هذه الأيام , و ما هي استقراءاتك لذلك المستقبل الذي ينتظرها ?
** القصة القصيرة
تموت في سورية ... لم يعد هناك قصاصون على مستوى الرواة ... ما يكتب اليوم ما هو إلا
مجرد ثرثرة و سرد ليس فيه مكان لأية لمسة فنية ... و كما يبدو أن الجيل الجديد لم يفهم
ماذا تعني القصة ... و لم يقرأ للرواد و للمبدعين الحقيقيين في هذا المجال , لذلك أقول
لهؤلاء اقرؤوا كثيراً قبل البدء بالكتابة , لأن القراءة ثقافة و الكاتب يجب أن يكون
مثقفاً حتى في الزراعة .
* الكتابة في الصحف
و المجلات هل أثرت على إبداع ياسين رفاعية ?
** العمل الصحفي يعلم
الكاتب الكتابة المكثفة المضبوطة ... و هذا مفيد جداً و هي أقرب مهنة للكاتب .
* مجموعاتك القصصية
و أعمالك الروائية ما عددها و ما آخرها ?
** مجموعاتي القصصية
ست , و رواياتي تسع روايات و نصوصي في العشق ستة نصوص ... و في أدراجي الكثير و آخر
مجموعة لي صدرت كانت بعنوان » العصافير « و هي الطبعة الرابعة .. و كل ما كتبته من
روايات هو سيرة ذاتية أخذت أحداثها من حياتي الشخصية .
حوار : نجاح حلاس