كيف نقرأ إدوارد سعيد اليوم من منظور سوسيولوجيا المعرفة؟
حميد دباشي والمتحف الاستشراقي
محمد تركي الربيعو
القدس العربي
ورغم أن إدوارد سعيد ـ بحسب دباشي ـ لم يرجح هذه الفرضية في أطروحته الأساسية «الاستشراق»، إلا أن تصحيفا غير دقيق لعمل سعيد جعلها تبدو كذلك في مرات عديدة. من هذا المنطلق يقترح علينا دباشي في كتابه «ما بعد الاستشراق» إعادة النظر في مشروع سعيد من جديد من زاوية سوسيولوجيا المعرفة، التي عادة ما أُهملِت في معظم التناول النقدي للاستشراق، لأن هذا (برأيه) قد يلطف من القراءات التعسفية للمثقفين العرب والمسلمين، خاصة في ظل ما بدا (عن غير قصد) من أن كتاب «الاستشراق» جاء في سياق التحامل غير الموضوعي على المستشرقين، الذي نجم في جزء منه على الأقل، عن وضع سعيد في مرات عديدة كوكبة من مستشرقين مختلفين تتباين توجهاتهم السياسية جذريا بعض الأحيان، في خانة واحدة. مؤديا بذلك، على سبيل المثال، إلى المساواة بين غولدتزيهر (الباحث الموهوب الذي كانت معارضته للكولونيالية الأوروبية مسألة مبدأ أخلاقي وفكري) وبين برنارد لويس وسلفه الاستشراقي أرمينيوس فامبري (المستشرق المتواضع الحال، المقر بطبيعة عمله كجاسوس في خدمة الكولونيالية البريطانية بالعموم والصهيونية الأوروبية على وجه الخصوص).
غولدتزيهر ومسألة الاستشراق:
يرى دباشي أنه على الرغم من أن حقل الدراسات الإسلامية خلال الفترة الزمنية الممتدة منذ بدأ غولدتزيهر كتابة أبحاثه في أواخر القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، قد شهد تطورا يتجاوز التفاصيل التي تعج بها أبحاث مشروعه العلمي، إلا أنه يبدو أن أيا من الباحثين لم تكن لديه المقدرة ذاتها على إنتاج أبحاث متتالية ونوعية، كما فعل غولدتزيهر بما امتلكه من سعة الاطلاع والمعرفة، ومن رؤية صقلتها معرفة ثرية أحاطت بحضارة بأكملها وخاضت في معتقداتها المقدسة وبناها الراسخة وفي تاريخها السياسي وحركاتها الفكرية أيضا.
ففي المقالات الستة التي تشكل الجزء الأول من كتابه «دراسات إسلامية « يقوم هذا المستشرق بالتعريف بالثورة الأخلاقية والمعيارية التي قام بها محمد وتعاليمه في الجزيرة العربية، ثم يمضي في التعريف بما سماه روح الإسلام المنفتحة والديمقراطية والمرحبة بكل الناس ومن مختلف الأجناس والإثنيات وصولا إلى نمط من الأخوة العالمية تتمظهر في الأخواتية في حين قاومت النخبوية القبلية القائمة على الحكم التقليدي والامتيازات العائلية ذلك الأمل الإسلامي.
بينما يتألف الجزء الثاني من الكتاب بشكل رئيسي من دراسة غولدتزيهر عن موضوع الحديث النبوي. تنطلق هذه الأبحاث منهجيا من القضايا الأكثر جذرية إلى محاولة مثيرة للجدل متعلقة بتأريخ الدور السياسي لأدب الحديث ومراحل تشكله عبر التاريخ الإسلامي، كما أنه لطالما كان المفهوم المتعدد الأوجه للإسلام الخصيصة الجدلية الأميز في إنتاج غولدتزيهر العلمي، فهو لم يسمح لتركيزه مطلقا بالانصراف نحو بعد حيوي واحد للمعتقد. كما تجمع شهادته في الصوفية بين التعاطف والشمول، ذات طابع استقصائي ومقارن معا، تنطلق من منظور تاريخي ثقافي متماسك لم يفقد رؤيته السديدة في الصوفية كواحدة من القوى المؤسساتية ذات المضمون الفلسفي العقلاني والفاعلة في الخط العام للإسلام كفضاء حضاري.
من جهة أخرى يشكل بحث غولدتزيهر في المذاهب الإسلامية مثالا قيما على انتباهه المعتاد للظروف التاريخية، آخذاً في الاعتبار تنوع وتشعب مواقفها المذهبية والعقائدية بمنتهى الجدية، مخضعا النتائج السياسية المختلفة التي رافقت ذلك لقراءة دقيقة متأنية. وإلى جانب هذه التركة العلمية تخبرنا بعض الحوادث ـ بحسب دباشي- أن استغراقه في عمله البحثي أو علاقاته مع المسؤولين الرفيعي المستوى لم تقف حائلا دون اهتمامه المبالغ بالمشاعر المعادية للكولونيالية في مصر، فقد انضم إلى الاحتجاجات في شوارع القاهرة، كتب وتكلم باسم الوطنية المصرية في الحلقات التي تردد إليها، ورفض الانضمام إلى التجمعات الأوروبية المقصورة على الأوروبيين ما لم توجه الدعوات على السواء لأساتذته وزملائه في الأزهر.
ففي المقالات الستة التي تشكل الجزء الأول من كتابه «دراسات إسلامية « يقوم هذا المستشرق بالتعريف بالثورة الأخلاقية والمعيارية التي قام بها محمد وتعاليمه في الجزيرة العربية، ثم يمضي في التعريف بما سماه روح الإسلام المنفتحة والديمقراطية والمرحبة بكل الناس ومن مختلف الأجناس والإثنيات وصولا إلى نمط من الأخوة العالمية تتمظهر في الأخواتية في حين قاومت النخبوية القبلية القائمة على الحكم التقليدي والامتيازات العائلية ذلك الأمل الإسلامي.
بينما يتألف الجزء الثاني من الكتاب بشكل رئيسي من دراسة غولدتزيهر عن موضوع الحديث النبوي. تنطلق هذه الأبحاث منهجيا من القضايا الأكثر جذرية إلى محاولة مثيرة للجدل متعلقة بتأريخ الدور السياسي لأدب الحديث ومراحل تشكله عبر التاريخ الإسلامي، كما أنه لطالما كان المفهوم المتعدد الأوجه للإسلام الخصيصة الجدلية الأميز في إنتاج غولدتزيهر العلمي، فهو لم يسمح لتركيزه مطلقا بالانصراف نحو بعد حيوي واحد للمعتقد. كما تجمع شهادته في الصوفية بين التعاطف والشمول، ذات طابع استقصائي ومقارن معا، تنطلق من منظور تاريخي ثقافي متماسك لم يفقد رؤيته السديدة في الصوفية كواحدة من القوى المؤسساتية ذات المضمون الفلسفي العقلاني والفاعلة في الخط العام للإسلام كفضاء حضاري.
من جهة أخرى يشكل بحث غولدتزيهر في المذاهب الإسلامية مثالا قيما على انتباهه المعتاد للظروف التاريخية، آخذاً في الاعتبار تنوع وتشعب مواقفها المذهبية والعقائدية بمنتهى الجدية، مخضعا النتائج السياسية المختلفة التي رافقت ذلك لقراءة دقيقة متأنية. وإلى جانب هذه التركة العلمية تخبرنا بعض الحوادث ـ بحسب دباشي- أن استغراقه في عمله البحثي أو علاقاته مع المسؤولين الرفيعي المستوى لم تقف حائلا دون اهتمامه المبالغ بالمشاعر المعادية للكولونيالية في مصر، فقد انضم إلى الاحتجاجات في شوارع القاهرة، كتب وتكلم باسم الوطنية المصرية في الحلقات التي تردد إليها، ورفض الانضمام إلى التجمعات الأوروبية المقصورة على الأوروبيين ما لم توجه الدعوات على السواء لأساتذته وزملائه في الأزهر.
سعيد وغولدتزيهير:
بعد أن يقوم دباشي بعرض أهم الملامح الأساسية لمشروع غولدتزيهير، يعرج على رؤية إدوارد سعيد وما يقوله في غولدتزيهر على وجه التحديد. حيث يورد سعيد في كتاب «الاستشراق» ثلاث إحالات نوعية إلى غولدتزيهر:
الإحالة الأولى، عندما يعترف بقصوره الشخصي عن تغطية أعمال الاستشراقي الألماني فيكتب: «أي عمل يروم تقديم فهم للاستشراق الأكاديمي بينما يولي قليل اهتمام لباحثين من أمثال موللر، بيكر، غولدتزيهر، بروكلمان ونولدكه، على سبيل المثال لا الحصر، هو عمل يستحق الملام، وقد أنبت نفسي شخصيا بكل صراحة». ثم يقدم سعيد تفسيرا لهذا التجاهل عبر القول بأن ألمانيا لم تكن ذات اهتمامات كولونيالية في الاستشراق.
الإحالة الثانية، عندما يشير سعيد إلى غولدتزيهر في الاستشراق في سياق تناوله لـ»تشييء» الشرق والشرقيين والإهمال الممنهج، على سبيل المثال يقول سعيد هنا: «المستشرقون، من رينان إلى غولدتزيهر، ماكدونالد، برنارد لويس، نظروا إلى الإسلام مثلا كـ»توليف ثقافي».. يمكن أن يدرس بمعزل عن الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تخص المسلمين».
ووفقا لدباشي، أيا تكن دقة ما ورد في شأن المستشرقين المذكورين آنفا (وهو صحيح في حالة برنارد لويس على وجه الخصوص)، فهو غير قابل للتطبيق إطلاقا على حالة غولدتزيهر. لأن ما ميز غولدتزيهر كباحث إسلامي هو حرصه على قراءة الظروف السياسية والاجتماعية التي واكبت التطورات التاريخية للإسلام، ليس فقط في ما كتبه في «دراسات إسلامية» بل عبر أعماله الأخرى، خاصة تفسيره للقرآن وبحثه العلمي في التشريع. من جهة أخرى ـ يرى دباشي ـ أنه رغم الاتفاق الجزئي مع سعيد في رؤيته للمستشرقين (ومنهم غولدتزيهر)، من ناحية الاكتفاء الذاتي والالتزام الصارم بالاستشراق كنسق لإنتاج المعرفة، بحيث ندر أن يصرف المستشرقون اهتمامهم إلى فروع المعرفة المتماسة معه أو أن يتعلموا من منهجياتهم ومكتشفاتها. فإن هذه الرؤية لا تضع في حسبانها قضية أساسية ومهمة، وهي أن ضبط البنيات الأساسية لعلم الاجتماع والأنثربولوجيا والعلوم السياسية والاقتصادية كان في مراحله الوليدة حينما شرع غولدتزيهر بوضع أبحاثه، والقول إنه كان على غولدتزيهر التركيز أكثر على أمور «السياسة والاقتصاد والاجتماع لدى المسلمين» كما كان يأمل سعيد، يجب أن يقاس بما كان متاحا له من منظور التاريخ الفكري، فحين بدأ غولدتزيهر بالكتابة بدءا من عمله الأول «حديث إسحاق» عام 1862، وحتى مماته عام 1921، كانت فروع علم الاجتماع والأنثربولوجيا والعلوم السياسية والاقتصادية في أطوارها التكوينية الوليدة المبكرة جدا والوضعية غالبا. وقد كانت الأسماء الثلاثة الرئيسية المؤسسة للعلوم الاجتماعية كارل ماركس (1818-1882)، ماكس فيبر (1864-1920) وإيميل دوركايم (1857-1917) حاضرة بقوة ومعاصرة لغولدتزيهر أيضا، لكن لم يكن في مقدوره التعرف إلى أعمالهم، حاله كحالهم، عالم ملم مبدع مستغرق في أعماله البحثية، وتبدو هذه الناحية سمة من سمات تلك الفترة، فمثلا، لم يكن فيبر على علم بعمل دوركهايم حينها «الأشكال الأساسية للحياة الدينية» (1912) عندما كان يكتب في «سوسيولوجيا الدين» كجزء من عمله الضخم السياسي والمجتمع. وفي الحقيقة، فقد تطور علم الاجتماع لدى كل من دوركهايم وفيبر مستقلا في عمومه لدى أحدهما عن الآخر.
الإحالة الثالثة والأخيرة، جرت من خلال اتكاء سعيد على عمل جاك واردنبرغ «الإسلام في مرآة الغرب»، كي يؤكد أن: «تقدير غولدتزيهر العالي لتسامح الإسلام اتجاه الأديان الأخرى قد أوهنه نفوره من تجسيمات محمد للذات الإلهية (إضفاء صفة بشرية عليها) ومن السطحية الشديدة لعلمي
التوحيد الإسلامي والفقه»، وبعد ملاحظات مشابهة حول الرؤى المتناقضة لبعض المستشرقين الآخرين يستنتج سعيد: «يبدو أن الاختلافات الجلية في مناهجهم أقل أهمية وحضورا من إجماعهم على نظرة دونية كامن تجاه الإسلام».
وهنا يرى دباشي، أن الزعم بوجوب عدم قيام الباحث ببناء منظور نقدي خاص بموضوع بحثه العلمي، خاطئ بلا ريب. كحال أي باحث آخر، كما أن الافتراض المتضمن في إشارة سعيد تحديدا، بأن معضلة الاستشراق تكمن في نظرة غير متعاطفة مع الإسلام لدى المستشرقين، هو معيب بالمثل. فبعض من أكثر المستشرقين سوءا، العاملين في خدمة الكولونيالية على وجه الخصوص؛ هاموا وجدا بالإسلام ولم يقدموا نقدا نزيها للإسلام والمسلمين، بل شذرات رومانسية في أغلبها. أما غولدتزيهر فقد كانت لديه نظرة شديد التعاطف مع الإسلام، كما أن اهتمامه بالإسلام والشرق لم يكن مرتبطا بمسار وظيفي، لا على العكس، فقد جر عليه الوبال في مساره الوظيفي. كان بإمكانه الحصول على وضع مهني أكثر دعة وراحة، فيما لو اقتدى بخطى أرمنيوس فامبري، الذي احتقره بلا شك، ليضع ذخيرته المعرفية المتميزة اللامحدودة بالإسلام في خدمة الإمبراطورية البريطانية.
الإحالة الأولى، عندما يعترف بقصوره الشخصي عن تغطية أعمال الاستشراقي الألماني فيكتب: «أي عمل يروم تقديم فهم للاستشراق الأكاديمي بينما يولي قليل اهتمام لباحثين من أمثال موللر، بيكر، غولدتزيهر، بروكلمان ونولدكه، على سبيل المثال لا الحصر، هو عمل يستحق الملام، وقد أنبت نفسي شخصيا بكل صراحة». ثم يقدم سعيد تفسيرا لهذا التجاهل عبر القول بأن ألمانيا لم تكن ذات اهتمامات كولونيالية في الاستشراق.
الإحالة الثانية، عندما يشير سعيد إلى غولدتزيهر في الاستشراق في سياق تناوله لـ»تشييء» الشرق والشرقيين والإهمال الممنهج، على سبيل المثال يقول سعيد هنا: «المستشرقون، من رينان إلى غولدتزيهر، ماكدونالد، برنارد لويس، نظروا إلى الإسلام مثلا كـ»توليف ثقافي».. يمكن أن يدرس بمعزل عن الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تخص المسلمين».
ووفقا لدباشي، أيا تكن دقة ما ورد في شأن المستشرقين المذكورين آنفا (وهو صحيح في حالة برنارد لويس على وجه الخصوص)، فهو غير قابل للتطبيق إطلاقا على حالة غولدتزيهر. لأن ما ميز غولدتزيهر كباحث إسلامي هو حرصه على قراءة الظروف السياسية والاجتماعية التي واكبت التطورات التاريخية للإسلام، ليس فقط في ما كتبه في «دراسات إسلامية» بل عبر أعماله الأخرى، خاصة تفسيره للقرآن وبحثه العلمي في التشريع. من جهة أخرى ـ يرى دباشي ـ أنه رغم الاتفاق الجزئي مع سعيد في رؤيته للمستشرقين (ومنهم غولدتزيهر)، من ناحية الاكتفاء الذاتي والالتزام الصارم بالاستشراق كنسق لإنتاج المعرفة، بحيث ندر أن يصرف المستشرقون اهتمامهم إلى فروع المعرفة المتماسة معه أو أن يتعلموا من منهجياتهم ومكتشفاتها. فإن هذه الرؤية لا تضع في حسبانها قضية أساسية ومهمة، وهي أن ضبط البنيات الأساسية لعلم الاجتماع والأنثربولوجيا والعلوم السياسية والاقتصادية كان في مراحله الوليدة حينما شرع غولدتزيهر بوضع أبحاثه، والقول إنه كان على غولدتزيهر التركيز أكثر على أمور «السياسة والاقتصاد والاجتماع لدى المسلمين» كما كان يأمل سعيد، يجب أن يقاس بما كان متاحا له من منظور التاريخ الفكري، فحين بدأ غولدتزيهر بالكتابة بدءا من عمله الأول «حديث إسحاق» عام 1862، وحتى مماته عام 1921، كانت فروع علم الاجتماع والأنثربولوجيا والعلوم السياسية والاقتصادية في أطوارها التكوينية الوليدة المبكرة جدا والوضعية غالبا. وقد كانت الأسماء الثلاثة الرئيسية المؤسسة للعلوم الاجتماعية كارل ماركس (1818-1882)، ماكس فيبر (1864-1920) وإيميل دوركايم (1857-1917) حاضرة بقوة ومعاصرة لغولدتزيهر أيضا، لكن لم يكن في مقدوره التعرف إلى أعمالهم، حاله كحالهم، عالم ملم مبدع مستغرق في أعماله البحثية، وتبدو هذه الناحية سمة من سمات تلك الفترة، فمثلا، لم يكن فيبر على علم بعمل دوركهايم حينها «الأشكال الأساسية للحياة الدينية» (1912) عندما كان يكتب في «سوسيولوجيا الدين» كجزء من عمله الضخم السياسي والمجتمع. وفي الحقيقة، فقد تطور علم الاجتماع لدى كل من دوركهايم وفيبر مستقلا في عمومه لدى أحدهما عن الآخر.
الإحالة الثالثة والأخيرة، جرت من خلال اتكاء سعيد على عمل جاك واردنبرغ «الإسلام في مرآة الغرب»، كي يؤكد أن: «تقدير غولدتزيهر العالي لتسامح الإسلام اتجاه الأديان الأخرى قد أوهنه نفوره من تجسيمات محمد للذات الإلهية (إضفاء صفة بشرية عليها) ومن السطحية الشديدة لعلمي
التوحيد الإسلامي والفقه»، وبعد ملاحظات مشابهة حول الرؤى المتناقضة لبعض المستشرقين الآخرين يستنتج سعيد: «يبدو أن الاختلافات الجلية في مناهجهم أقل أهمية وحضورا من إجماعهم على نظرة دونية كامن تجاه الإسلام».
وهنا يرى دباشي، أن الزعم بوجوب عدم قيام الباحث ببناء منظور نقدي خاص بموضوع بحثه العلمي، خاطئ بلا ريب. كحال أي باحث آخر، كما أن الافتراض المتضمن في إشارة سعيد تحديدا، بأن معضلة الاستشراق تكمن في نظرة غير متعاطفة مع الإسلام لدى المستشرقين، هو معيب بالمثل. فبعض من أكثر المستشرقين سوءا، العاملين في خدمة الكولونيالية على وجه الخصوص؛ هاموا وجدا بالإسلام ولم يقدموا نقدا نزيها للإسلام والمسلمين، بل شذرات رومانسية في أغلبها. أما غولدتزيهر فقد كانت لديه نظرة شديد التعاطف مع الإسلام، كما أن اهتمامه بالإسلام والشرق لم يكن مرتبطا بمسار وظيفي، لا على العكس، فقد جر عليه الوبال في مساره الوظيفي. كان بإمكانه الحصول على وضع مهني أكثر دعة وراحة، فيما لو اقتدى بخطى أرمنيوس فامبري، الذي احتقره بلا شك، ليضع ذخيرته المعرفية المتميزة اللامحدودة بالإسلام في خدمة الإمبراطورية البريطانية.
سعيد وسوسيولوجيا المعرفة:
من جانب آخر، يرى دباشي أن سعيد يحيل «الاستشراق» بصورة خاطفة إلى كتاب روبرت ك ميرتون «علم اجتماع العلوم»، كما يقوم بإحالات موجزة إلى كل من فيبر ودوركايم ومانهايم. لكن يتضح مع ذلك أن سعيد قد خص التراث الطويل والباهر لسوسيولوجيا المعرفة بانتباه طفيف فقط، معتمدا تراثا مختلفا تماما ـ فوكو على نحو خاص ـ كمصدر رئيسي لتصوراته النظرية (إذ لم يكن سعيد عالم اجتماع وإنما ناقدا أدبيا)، مع أن كل من ماكس شيلر وكارل مانهايم قد فاقا في مقترحاتهما الجسورة التي تربط بين ماهية وأنماط المعرفة وبين القوى الاجتماعية، ما قدمه إدوارد سعيد في استشراقه من حيث الجذرية بأشواط. فمثلا مقولة «المعرفة لكل البشر» هي المقولة التي أعلنها ماكس شيلر باعتبارها بديهيته الأولى في سوسيولوجيا المعرفة. وعندما نأتي إلى استشراق إدوارد سعيد من زاوية هذه النتائج الاستثنائية للأدبيات النقدية، لا نلمس في الحقيقة جديدا على نحو خاص أو حتى جذري في ما يتعلق بطرحه النظري حول وجــــود رابط بنيوي بين الأسلوب الاستشراقي لإنتاج المعرفة والكــــولونيالية، بل إنه بالأحرى طرح مسالم من الناحية النظرية، (أقل راديكالية بكثير في مضامينه من اقتراح مانهايم القائل بأن كل صيغ المعرفة والمعتقدات الممأسسة، محـــتواة ومضبوطة سياسيا).
مع ذلك، يرى دباشي أن كتاب الاستشراق وسبره لطريقة عمل الكولونيالية والإمبراطورية، قد قدم تصورا ذا أهمية عالمية أبعد كثيرا من كل ما أنجزته سوسيولوجيا المعرفة على مستوى المحازبة السياسية، كما أننا من زاوية هذا التراث، يمكننا تفهم رؤية سعيد حيال مشروع غولدتزيهر، كون الأخير رغم مناوئته للكولونيالية، إلا أنه لم يتمكن في لغة البحث النقدي التي استخدمها، من الخروج عن نسق الخطاب الكولونيالي المشروط، فكانت تصوراته حول التاريخ الفكري للإسلام «محددة بمناطق مجهولة». مع ذلك يعتقد دباشي أنه إذا كان ثمة تحاملا مؤذيا من جانب المستشرقين اتجاه الشرق الذي قاموا باختراعه إبستمولوجيا، كما يجادل سعيد بشكل مقنع، فهو في الحقيقة كان الوسيلة في جعل فهمهم للشرق ممكنا، وتبدى على هذا النحو في أصل البناء البحثي الهائل والغني الذي أسسوه، وهو في هذا الموقف الجريء والجديد (أعني دباشي) يستند إلى رؤية هانز جورج غادامير الذي جادل في عمله «الحقيقة والمنهج» في أن الفهم قد أصبح ممكنا ليس على الضد من «التحيزات» بل بسببها. وبناء على قراءة لفكرة هايدغر عن «البنية المتقدمة للفهم» فقد أفرد غادامير في مبحثه السابق جزءا لـ«مشكلة التحيز»، وجد فيه أنه رغم التشويه الذي ألحقه التنوير بـ«التحيز»، فقد بقي هذا التحيز الشرط الفعلي للفهم. من هنا يخلص دباشي إلى أنه ينبغي ألا تقاس أهمية أبحاث غولدتزيهر وغيره من المستشرقين على مسطرة النظام المعرفي الآفل تاريخيا والمشوه نظريا والمسمى بالاستشراق، بل تجب قراءتهم اليوم كأصحاب رؤية فكرية وأحيانا إنسانية في غزارتها وغناها.
مع ذلك، يرى دباشي أن كتاب الاستشراق وسبره لطريقة عمل الكولونيالية والإمبراطورية، قد قدم تصورا ذا أهمية عالمية أبعد كثيرا من كل ما أنجزته سوسيولوجيا المعرفة على مستوى المحازبة السياسية، كما أننا من زاوية هذا التراث، يمكننا تفهم رؤية سعيد حيال مشروع غولدتزيهر، كون الأخير رغم مناوئته للكولونيالية، إلا أنه لم يتمكن في لغة البحث النقدي التي استخدمها، من الخروج عن نسق الخطاب الكولونيالي المشروط، فكانت تصوراته حول التاريخ الفكري للإسلام «محددة بمناطق مجهولة». مع ذلك يعتقد دباشي أنه إذا كان ثمة تحاملا مؤذيا من جانب المستشرقين اتجاه الشرق الذي قاموا باختراعه إبستمولوجيا، كما يجادل سعيد بشكل مقنع، فهو في الحقيقة كان الوسيلة في جعل فهمهم للشرق ممكنا، وتبدى على هذا النحو في أصل البناء البحثي الهائل والغني الذي أسسوه، وهو في هذا الموقف الجريء والجديد (أعني دباشي) يستند إلى رؤية هانز جورج غادامير الذي جادل في عمله «الحقيقة والمنهج» في أن الفهم قد أصبح ممكنا ليس على الضد من «التحيزات» بل بسببها. وبناء على قراءة لفكرة هايدغر عن «البنية المتقدمة للفهم» فقد أفرد غادامير في مبحثه السابق جزءا لـ«مشكلة التحيز»، وجد فيه أنه رغم التشويه الذي ألحقه التنوير بـ«التحيز»، فقد بقي هذا التحيز الشرط الفعلي للفهم. من هنا يخلص دباشي إلى أنه ينبغي ألا تقاس أهمية أبحاث غولدتزيهر وغيره من المستشرقين على مسطرة النظام المعرفي الآفل تاريخيا والمشوه نظريا والمسمى بالاستشراق، بل تجب قراءتهم اليوم كأصحاب رؤية فكرية وأحيانا إنسانية في غزارتها وغناها.
٭ باحث سوري