2 ديسمبر 1980- انتحار الكاتب الفرنسي الروسي الأصل "رومان غاري" الحائز مرتين على جائزة غونكور. ولد في عام 1914
فهل كان رومان غاري الروائي الذي كتب 32 رواية وقّع أربعاً منها بإسم إميل آجار هو آجار نفسه بالفعل؟ وهل كان بول بافلوفيتش الذي جسّد شخصية هذا الكاتب الوهمي إميل آجار متمتعاً بهوية حقيقية واضحة المعالم قبل أن تتاح له فرصة الانوجاد تحت قناع ذلك الاسم أو بفضله؟
رومان غاري فضّل الانتحار بهويته كروائي منسي غادره المجد وأفل نجمه تاركاً لإميل آجار الروائي المعروف والناجح أن يحيا خارجه، من دونه. أما بول بافلوفيتش - الدمية فقد مات حين افتضح الأمر واكتشف الناس أن غاري إنما هو آجار نفسه، لكي يعود فيولد ككاتب ما كان ليكتب ربما أبداً لو لم ينتحل لسنوات شخصية كاتب معروف آجار بحيث صدّق الوهم وتحوّل هو نفسه بالفعل إلى روائي. مات محرّك الدمية فماتت الدمية لتعود وتبعث مجدداً تحت هويتها الأخرى التي ليست هويتها ربما بالأصل، ولكنها هوية من لم يكن يشعر بأنه يمتلك هوية واضحة في العمق.
اليوم، يُصدر بول بافلوفيتش رواية جديدة تحمل عنوان "فيكتور" عن دار فايار الفرنسية وهو كتابه الثالث بعد كتاب "الرجل الذي كان يظنّه الآخرون" فايار - 1991 الذي نشر يوم ظهرت حقيقة غاري - آجار في الصحف وبعد مضي ستة أشهر على وفاة رومان غاري حيث شرح بافلوفيتش ملابسات هذه القضية التي خضّت الساحة الأدبية في فرنسا وأسالت الكثير من الحبر، تلا ذلك في العام 1986 روايته الثانية التي حملت عنوان "جلد الدب" الصادرة عن دار مازارين.
ومع أن نحو عشرين عاماً قد مرّت على تلك الحادثة، فلم يزل شبح إميل آجار مسيطراً على حياة بول بافلوفيتش كأن تبدو فرصة صدور كتابه الأخير مناسبة "أخرى" تغتنمها وسائل الإعلام في فرنسا للحديث مجدداً عن اللعبة الجهنّمية التي صنعت قدره وربطته إلى ما لا نهاية بحياة أو ممات رومان غاري. وربما لأن الساحة الأدبية في فرنسا لم تهضم إلى اليوم الخديعة التي تعرّضت لها إذ تعيدها إلى الوجود كلما تحرّك أحد أبطالها، كي تُبقيها حاضرة في ذاكرتها خوفاً واتقاءً من تكرارها. هكذا يصبح بافلوفيتش "العبرة" التي لا ينبغي نسيانها أبداً كأن تتراجع النظرة النقدية التقييمية لدى التعاطي مع أعماله الأدبية، لمصلحة أهمية الأمثولة وفرادة أو غرابة الحال التي أوجدته وابتكرته كحدوتة أكثر منه ككاتب.
فمن كان رومان غاري مبدع إميل آجار وبول بافلوفيتش، وقاتلهما في آن؟
ولد رومان غاري في العام 1914 في موسكو من أم ليتوانية يهودية الأصل تدعى نينا كانت تعمل كممثلة مبتدئة في أحد المسارح الروسية المعروفة. ومع أنه يحمل اسم كاساو، زوج نينا الثاني الذي انفصلت عنه بعد ولادة الصغير مباشرة، فهو لن يعرف أبداً هوية والده الحقيقية بل إنه سيدّعي في ما بعد أنه الابن غير الشرعي لممثل روسي معروف، نبيل النسب، يدعي إيفان موسجوكين يمتلك بالفعل ملامح شبيهة به. هكذا ستربي نينا رومان وحدها، ستعلّمه الكتابة والقراءة باللغتين الروسية والفرنسية كي تجعل منه شخصاً مهماً، وهي ستهمل أصولها اليهودية لأنها تمثل في نظرها البؤس والشقاء. وهو جانب سيتبناه ابنها رومان غاري لاحقاً في كتاباته، إذ سيرفض الحديث عن اضطهاد اليهود والمحرقة النازية هو الذي صرّح قائلاً لدى صدور كتابه "سيكون الليل طويلاً": "أفضّل العيش في إيطاليا على العيش في اسرائيل"، مهاجماً بعنف الصهاينة الذين يسمّيهم "عنصريي اسرائيل االمهووسين". كل ذلك على الرغم من معاداته السامية التي عرفها لدى انتقاله مع والدته إلى فرصوفيا في العام 1923 حيث أقاما حتى العام 1927، تاريخ هجرتهما ثم استقرارهما في مدينة نيس في الجنوب الفرنسي، وكان بلغ رومان الثالثة عشرة من العمر.
في فرنسا، تخرّج رومان في كلية الحقوق، تعلّم مهنة الطيران والتحق بفرنسا الحرة خلال الحرب العالمية الثانية. في ما بعد، انتقل إلى انكلترا عبر الجزائر والمغرب وانتسب إلى مجموعة "لورين" وهي أهم الفرق الجوية التابعة لجيش فرنسا الحرة بما أنها الفرقة التي عاشت ملاحم بطولية عدة من بينها ملحمة معركة العلمين.
وكان من الطبيعي أن يجد رومان غاري، الكاتب الشاب الذي عايش تلك الفترة الزاخرة بمختلف الأحداث، مادة غنية يستوحي منها عمله الأدبي الأول. لكنه، بين غارة جوية وأخرى، كان يكتب عن أجواء مخالفة تماماً، تلك التي كانت تدور في بولونيا بين صفوف المقاومة، منهياً في لندن روايته الأولى التي حملت عنوان "تربية أوروبية" 1944 والتي قيل فيها: "منذ عشر سنوات ومنذ لمع اسم مالرو وسانت اكزوبيري فجأة، لم نقرأ رواية بالفرنسية مغتنية بموهبة على هذا القدر من العمق، من الجدّة والتألّق".
فقد أظهرت رواية "تربية اوروبية" الزاخرة بشخصيات تتوزع بين النساء والرجال، العجزة والأطفال، البولونيين، الأوكرانيين، اليهود والألمان، وما يحيط بها من بؤس وصقيع، مجاعة وخيانة وحب، أظهرت لدى رومان غاري موهبة أكيدة جعلته يُشبّه بالكاتب الأميركي المعروف جون شتاينبك، وإن كان يتمايز عنه بنوع من الكآبة أو الحساسية اليائسة التي طبعت أوروبا في تلك الحقبة، أوروبا السنوات الملعونة القاتمة، سنوات الحرب والفقر والدمار واليأس والجوع، وكل ما عرفه كتاب أوروبا فميّزهم عن سواهم من كتاب العالم.
في العام 1945 عيّن رومان غاري سكرتيراً للسفارة الفرنسية في بلغاريا مقتحماً بهذه الوظيفة مجال النشاط الديبلوماسي، فانتقل في العام 1956 إلى لوس انجليس كقنصل عام لفرنسا، وهو العام الذي صدرت فيه روايته "جذور السماء" وقد حازت على جائزة غونكور الأدبية الشهيرة والتي اقتبستها هوليود فحوّلتها فيلماً سينمائياً بعد عامين.
بالطبع، استمر رومان غاري يكتب الروايات، إلا أنه صار يُعرف أكثر كوجه يعاشر نجوم الفن والسياسة والسينما وأعضاء المجتمع الأرستقراطي، أكثر منه ككاتب موهوب تزوج من الممثلة المعروفة جاين سيبيرغ وعبر حكم النقاد، أصبحت رواياته التالية مجموعة من الانفعالات البدائية بعد أن افتقدت النفس القوي الأول الذي كان يميزها.
هكذا امّحت احلام رومان غاري الأولى خلف اهتمامات عادية وسيطرت عليه كآبة من يشعر أنه آيل لا محالة إلى السقوط، وخاصة بعد أن راح الجميع ينظر إليه ككاتب شبه ميت. كيف كان يمكن رومان غاري أن يقبل مثل هذا الواقع، هو الذي باشر في شبابه حياة مليئة بالوعود؟ كيف كان يمكنه أن يرضخ لهذه النهاية هو الذي لامس بيده أسطورة ما لبثت أن انحرفت إلى كابوس؟
وراء الشعور بالمرارة، جاء فقدان الثقة بالذات والتساؤلات الأليمة عمّا إذا كان يمتلك موهبة أدبية حقيقية تبرر توقه العميق إلى الانضمام إلى مصاف كبار الكتاب، عمّا إذا لم يكن هؤلاء قد ملأوا كل ًالمقاعد "الشاغرة" بعد أن ركبوا قطار الشهرة والمجد تاركين إياه وحيداً على قارعة الطريق.
كان يعتقد أن مالرو سلبه الانتماء الديغولي وملحمة التحرير، سانت اكزوبيري أخذ منه الموت في حادث تحطم طائرة، موران استأثر بكل امتيازات تقليد كوسموبوليتي كان غاري مرشحاً له، وجون كيسيل، الذي كان ينبغي له أن يحل مكانه كعضو في الأكاديمية الفرنسية بعد وفاته، احتكر مكانته ككاتب روسي الأصل، فرنسي الثقافة والتعبير... سوء فهم، وحدة، وكثرة أعداء. شعور عميق بالمهانة، بالخسارة وبقسوة المصير. إحساس أليم بأن الحياة خذلته، وها هو رومان غاري يحاول اللجوء إلى لعبة التخفي كتمرين أوّل على الانبعاث.
إسمان مستعاران كبداية، شاتان بوغات وفوسكو سينيبالدي، وكتابة غذائية يشهرها بوجه تقدّميي الرواية الجديدة في كتابه الذي يحمل عنوان "من أجل سغاناريل". غير أن النتيجة جاءت مرة أخرى، عكس ما يتمنى إذ جعلت الآخرين يؤكدون شخصيته الاستفزازية والسطحية، وكونه أصبح فناناً منتهياً وكاتباً مقطوع الأنفاس يلهث كيفما اتفق ومن خلال لفت الأنظار، وراء بقية من اعتراف واهتمام.
ومع هذا، لم يستسلم رومان غاري. بل راح يعدّ في السر خطته الانتقامية التي ستجعله يثأر من أولئك الذين واجهوه بالاحتقار والازدراء، تلك التي ستمنحه المفتاح السري، الإكسير السحري، الذي ستعيده إلى الأضواء.
في العام 1974، يرسل رومان غاري إلى ناشره غاليمار، عبر البريد، مخطوطة رواية تحمل عنوان "مداعبة" من توقيع كاتب مجهول يدعى إميل آجار، وهو طبيب مولود في وهران يعيش بشكل سري. هذه المرة، لن يُعلم رومان غاري ناشره بأنه كاتب ومرسل الرواية كما فعل في العام نفسه حين وقّع كتاباً سابقاً بإسم مستعار، بل هو سيشهد ولادة هذا الكاتب بما أنه على صلة وثيقة بمطبخ دار النشر التي يعتبر من عائلة كتابها.
ولدى اجتماع لجنة القراء، تتباين الآراء ويعارض ريمون كونو نشر الرواية في غاليمار محذراً حتى من ضرب احتيال. هكذا يتم نشر الرواية في مركور دو فرانس التابعة لغاليمار وتعرف نجاحاً كبيراً وكثرت الإشاعات حول الهوية الغامضة لكاتبها إميل آجار وذهب البعض إلى القول بأن كاتباً معروفاً يقف وراء هذا الاسم مثل كونو أو حتى اراغون.
لقد نجحت خطة غاري بشكل مزدوج: فهو من ناحية كتب رواية يعترف بنجاحها النقاد والأدباء على السواء، ومن ناحية أخرى بقي بعيداً عن السجال الدائر حول حقيقة كاتبها إذ بقي اسمه مستبعداً من لائحة الأسماء المذكورة المحتملة.
في روايته الثانية التي وقّعها بإسم إميل آجار، "الحياة أمامنا"، ستصل لعبته إلى حد ينبغي معه أن يوجد دمية تقبل بأداء الدور كي يلغي كل الشكوك المتزايدة حول الهوية المزوّرة لصاحب هذا الاسم. هنا يدخل بول بافلوفيتش، قريب رومان غاري، الحلبة ويتحوّل إلى إميل آجار، فيقابل سيمون غاليمار ويجري مقابلات صحافية ويلعب الدور الذي صممه غاري له بكل حماسة واتقان. بعد أشهر، تحوز رواية آجار الثانية جائزة غونكور الأدبية ويهاجم رومان غاري بعنف كل الصحف التي تسعى لإقامة أي رابط، قريب أو بعيد، بقريبه آجار، نافياً اية علاقة له به ككاتب أو كإنسان. بل هو يذهب أبعد من ذلك في لعبة تضييع الأثر والتمويه، حين يكتب بإسم إميل آجار رواية تحمل عنوان "اسم مستعار" يهاجم فيها نفسه، كعمّ آجار، ناعتاً إياه بأشنع الصفات وأسوأ المواصفات.
غير ان بافلوفيتش، الدمية العاقلة الطيّعة التي ستتمرد على صاحبها ذات يوم بعد أن تستسيغ الدور الذي صمم لها، سيبدأ بالمطالبة بما هو أكثر من المتفق عليه. إنها ولا ريب حمى الشهرة والأضواء والمجد التي عصفت برأس بافلوفيتش فجعلته يساوم بجشع، مطالباً رومان غاري برفع نسبة عمولته من حقوق التأليف. لقد صدق بافلوفيتش هويته الكاذبة تلك إلى حد جعله يتصرّف ككاتب حقيقي فيطلب من دار مركور دو فرانس أن تقوم بتوظيفه كمستشار أدبي يسعى إلى اكتشاف المواهب الأدبية الشابة ويقدّم الاقتراحات لتعديل أو تنقيح المخطوطات.
وعلى رغم من اعتراض رومان غاري على توظيفه في الدار، سيبقى بول بافلوفيتش عاماً ونصف عام في وظيفته كمستشار أدبي، قبل أن تعمد سيمون غاليمار إلى تسريحه بحجة أنها تفضّل له "أن يكتب على أن يلعب دور الناشر"...
غير أن الذعر يستولي على رومان غاري المنهك الذي لم يكتف بكتابة أربع روايات بإسم آجار فحسب، بل أضاف إليها خمس روايات بتوقيع غاري، فيخاف أن ينقلب السحر على الساحر فيسرق بافلوفيتش لعبته فيفقد زمام الأمور. هكذا مثلاً يرفض غاري تسليم المخطوطات لبافلوفيتش المستميت في الحصول عليها ويودعها في خزينة مصرفه طالما أنها تشكّل الاثبات الوحيد بأنه هو كاتبها بإسم إميل آجار.
في العام 1979 تصدر رواية آجار الأخيرة "هواجس الملك سليمان"، تليها في بداية العام 1980 رواية غاري الأخيرة "الطائرات الورقية".
بعد ظهيرة يوم 2 كانون الأول ديسمبر 1980، ينتحر رومان غاري بالمسدس بعد مضي عام على انتحار جاين سيبيرغ، زوجته السابقة التي أنجب منها ابنه الوحيد تاركاً رسالة يشرح فيها اسباب انتحاره إذ يقول:
"لا علاقة لانتحاري بموت جاين سيبيرغ، فما على محبي القلوب الكسيرة سوى التوجه إلى سواي. قد يُبرر ذلك بانهيار عصبي. حينها، ينبغي الاعتراف بأنه مستمر منذ بلوغي وبأنه هو المسؤول عن عملي الأدبي. لماذا إذاً؟ ربما ينبغي البحث عن الجواب في عنوان رواية سيرتي الذاتية "سيكون الليل طويلاً" وفي آخر جملة من روايتي الأخيرة: لأننا لن نستطيع التعبير بأفضل من : لقد عبّرت عن نفسي أخيراً"...
مات رومان غاري ولم تنته الرواية، ذلك أن الرجل لم يعترف بعد بالحقيقة. فحتى الآن، لم يكتشف الآخرون شخصيات المسرحية وأبطالها. مات غاري واستمر آجار حياً، طالما أن آجار لم يزل بول بافلوفيتش!
في شهر تموزيوليو عام 1981، اعترف بول بافلوفيتش في تصريح صحافي مرغماً بأنه ليس آجار. فرومان غاري كان قد استأثر بالخاتمة بعد أن أخرجها على مزاجه: لقد قابل سيمون غاليمار يوم انتحـاره فأودعها كتيّباً طلب ألا ينشر قبل التاريخ المحدد أعلاه. هكذا تمكن رومان غاري من موت إميل آجار كما تمكن من ولادته، وهكذا اتحدّ بتوأمه في علاقة قتل متبادلة: ألم يمت هو كي يتيح لبديله ان يولد، أو لم يقتل بديله كي يـــعاود الانبـــعاث؟ هذا فــيما بافلوفينش، دمية تمردت على محرّكها في ســعيها الى وجود ما زال يهرب منها بعدما اسدل الستار.
الرابط
الرابط