التكهنات تمضي نحو تقسيم المقسم من فريسة الشرق الأوسط، فبعد تربع بني صهيون على القدس، ومحاولة بناء هيكل سليمان المزعوم بعد مرور آلاف السنوات عليه، فإن
الفرس يزعمون الانتصار لآل البيت، وأنهم أولياء الدم.. وللأساطير أثرٌ في حياة الناس أمضى أكثر مما نتصور بكثير.
أذكر من صديقي «جودت سعيد» قوله إن السيارات تحتاج إلى وقود كي تمشي، أما البشر فيمكن دفعهم إلى الموت بالأوهام والأساطير والخرافة، وهو أمر يجب تحمله والاستعداد له، فكلنا نحمل خرافات بقدر الجبال، لكن لا نراها إلا في وجوه المخالفين، كمن يرى كبر أنف جاره، ولا ينظر في المرآة ليرى كم حجم أنفه! ومنه قال برتراند راسل، الفيلسوف البريطاني، حين سئل: هل أنت مستعد للموت من أجل أفكارك؟ حيث أجاب: لا، لأنني قد أكون مخطئاً فأموت مثل أي سلحفاة دهستها سيارة عابرة أو حصَّادة، فالأفكار تبقى، أما الأرواح فتزهق بحماقة.
وفي قصة نبي الله موسى عليه السلام مع فرعون وهامان وجنودهما، كما وردت في القرآن الكريم، الدليل العميق على أن بني إسرائيل حتى لو خرجوا من العبودية الجسدية، فهم يحتاجون الانعتاق الروحي ردحاً من الزمن.
نجد الشاهد من سورة الأعراف، حين عبروا البحر ورأوا رأي العين هلاك فرعون وجنده كاملين في اليم، لكنهم بمجرد مرورهم على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. قال: إن هؤلاء متبر ما هم فيهم وباطل ما كانوا يعملون.
وحين يمضي إلى ربه ليأخذ الألواح، فإذا بمفاجأة جديدة ليست على البال، إن القوم يعكفون على ثور من ذهب له خوار قام بصناعته السامري!
إن موسى نفسه لم يكن على دراية بتبديل هذا الشعب الذي غلظ قلبه، بتعبير المسيح عليه السلام، حين رأى موسى قومَه وقد أخذوا أمانات كانت عندهم من المصريين، من ذهب وحلي، فقال لهم السامري: إن أفضل طريقة للتخلص من الذنب، وكذلك لمعرفة طريق السلامة بعد اختفاء موسى من مسرح الأحداث، أن يعبدوا العجل.
يرجع موسى غاضباً فيمسك بلحية أخيه وشعر رأسه: كيف سمحت لهم أن يفعلوا ما فعلوا؟ يجيب هارون: إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي، فحرصاً على الوحدة تركتهم يفعلون ما فعلوا، وهو أمر خطير تقع فيه الجماعات البشرية تحت هذا المسوغ.
شخصياً، وقفت طويلاً أمام ثلاثين موضعاً في القرآن، تروي القصة الكاملة عن بني إسرائيل، وكيف وصلوا إلى شاطئ الحرية أخيراً، ليس في زمن موسى ولا عصره، بل في عصر من تابع رسالته ومهمته.
ليس ثمة طريقة سريعة لتغيير الأمم إلا بدفن جيل واستخراج جيل جديد. وهذا هو المغزى العميق الذي التفت إليه ابن خلدون قديماً حين أشار إلى ذلك في مقدمته، وتساءل: لماذا يتيهون أربعين سنة وليس سنة أو سنتين؟ ثم أجاب: إن الأمر كان لابد منه، أي دفن جيل العبودية في الصحراء واستخراج جيل جديد من أصلابهم، جيل لا يعرف إلا الشمس والحرية، وليس من آثار لسياط جند فرعون في أجسامهم.
وبذلك اكتملت رسالة موسى أخيراً، لكن ليس في عصره وعمره، بل بعد موته بعقود طويلة. وفي القرآن تعبير يتردد مفاده أن لا يأمل الرسول أن تسود رسالته في عصره وعمره.
ويروى عن الأصمعي أنه سأل غلاماً ذات يوم، فقال له: هل ترضى أن أعطيك مائة ألف دينار وتكون أحمق؟ فأجاب: لا يا عماه؟ قال الأصمعي: ويلك، إنها مائة ألف دينار؟ قال: أضيعها بعد أخذها، فلا يبقى لي منها إلا حماقتي.
*نقلاً عن "الاتحاد" الإماراتية