في خضمّ التجاذبات السياسية التي ترافق منذ شهر
ونصف الشهر، مسألة تأليف الحكومة، لفتني أن ثمة وزارة واحدة، وحيدة، هي دون سواها،
الوزارة اليتيمة، المرذولة، اللقيطة، التي لا أمّ لها ولا والد، ولا أحد يعترف بأبوّته
أو أمومته لها، ولا
أحد يريد حتى أن يتبنّاها، وأن يجعلها في ميتم.
بئس هذه الحقيبة الوزارية. إنها حقيبة وزارة الثقافة!
لم أسمع فريقاً سياسياً، ولا زعيماً، ولا حزباً،
ولا طائفة، ولا مذهباً، يطالب بهذه الحقيبة. أو يقبل بأن تُسنَد إليه مهماتها.
فيا حسرتي عليكِ يا وزارة الثقافة، ويا حرقة قلبي
عليكَ يا لبنان الثقافي.
هذا الكلام جدّي للغاية، ولا مزاح فيه، وليس مدعاة
للتندر والسخرية والتهكم. هذا كلامٌ ليس هوائياً، ولا اعتباطياً. فقد جاء مضمونه وفحواه
على لسان وزير الثقافة الحالي في الحكومة المستقيلة، خلال احتفال أقيم في جامعة القديس
يوسف لمناسبة توقيع الاتفاق بين "مؤسسة الندوة اللبنانية" والجامعة اليسوعية
لضمّ أرشيف "الندوة" إلى مقتنيات المكتبة الجامعية المرموقة ومحفوظاتها.
لا تقف المشكلة عند حدود التزاحم الهمجي بين القوى
السياسية على الوزارات السيادية والخدماتية لنهب الدولة من جهة، ولتعزيز النفوذ من
جهة ثانية، بل تنزلق إلى أسفلالقعر الرهيب الذي آل إليه الانحطاط السياسي والمجتمعي
والثقافي والأخلاقي في لبنان. فهل يعقل أن لا "يتقاتل" الأطراف، وأن لا
"ينصبوا" المتاريس في ما بينهم، من أجل المطالبة بأن تكون حقيبة وزارة الثقافة
من نصيب أحدهم؟! هذه مسألة ذات دلالات جوهرية. وإذا كانت تدلّ على شيء مخيف
أرغب في التوقف عنده، فهي تدلّ على الفضيحة الكبرى
المتمثلة في سقوط الأقنعة التي كان يختبئ وراءها أصحاب الوجوه الصفيقة؛ هؤلاء الذين
لطالما كانوا يتبجحون بالمحافظة على وجه لبنان الحضاري والثقافي. كما تتمثل الفضيحة
في انهيار أخلاقيات التهيّب والرحابة والفروسية عند الجميع بلا استثناء، وسقوط القيم
العقلية والفكرية والروحية، لصالح استتباب معايير التفاهة والأمّية والبزنس الرخيص
والنصب والاحتيال والتخلف.
كلمة أخيرة برسم الجميع: إذا كان لبنان قد استطاع
يوماً أن يتباهى بذاته، فليس لأنه جميل، أو متنوّع المناخ، وليس لأن زعماءه وأحزابه
هم هؤلاء الزعماء وهذه الأحزاب. هو استطاع أن يتباهى لأنه كان يوماً لبنان الثقافة،
لبنان الجامعات المحترَمة، لبنان العلم، لبنان الأفكار والحرية المعرفية والنقدية.
من باب التحذير: لبنان الثقافي هذا، هو على وشك
الأفول، بفضل أمثالكم. فلا تجعلونا نترحم على هذا اللبنان!
عن النهار اللبنانية