توعد الكاتب والأديب النيجيري وول سوينكا المقيم في أمريكا منذ أكثر من عشرين عاما بتمزيق «الكارت» الأخضر، أو أوراق الإقامة الأمريكية ومغادرة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الأبد،
في حالة فوز الملياردير الامريكي دونالد ترامب بالرئاسة، احتجاجا على برنامج ترامب أثناء حملته الانتخابية.يعتبر سوينكا أول كاتب أفريقي حاز جائزة نوبل للآداب عام 1986، وجاء في سيرته الذاتية التي نشرتها مؤسسة جائزة نوبل أنه فاز بالجائزة تقديرا لأعماله الروائية والمسرحية والقصائد الشعرية التي نشرها، ولكن الكثير من النقاد يعتقدون أن فوزه بالجائزة جاء أيضا تقديرا لنشاطه السياسي في مكافحة الاستعمار ونشر الوعي في أفريقيا. وفي حفل تسلم الجائزة في ستوكهولم ألقى سوينكا خطابا أهدى فيه الجائزة إلى نيلسون مانديلا، الذي كان لايزال في السجن، وهاجم سياسة التمييز العنصري التي كانت تتبعها جنوب أفريقيا.
وقد انتقل سوينكا للعيش في الولايات المتحدة، حيث يقوم منذ عشرين عاما بالتدريس في مجموعة من أشهر جامعاتها مثل، ييل وكورنل وهارفرد. ولعل في تلك المفارقة وأعني بها لحظة تخلي المناضل والناشط السياسي عن دوره الذي اختطه لنفسه والذهاب للعيش في دول الغرب، التي استعمرت بلاده لسنين طويلة، ما يدفعنا لإلقاء نظرة أخرى على مجمل مشروع نقد ما بعد الكولونيالية، الذي يعتبر سوينكا واحدا من أبرز رموزه، خصوصا أن سوينكا ليس الوحيد في ذلك، إذ أن الكثير من الأدباء والنقاد الأفارقة وغير الأفارقة الذين بدأوا حياتهم الأدبية منادين بالحرية في بلدانهم وكاتبين تحليلات ودراسات عن أدب الكولونيالية وما بعد الكولونيالية قد انتهى بهم المطاف في الدول الغربية التي استعمرت بلدانهم، ويكتبون كتبهم بلغات غير لغتهم الأم التي طالما دافعوا عنها وأبدوا اعتزازهم بها.
بدأ الاهتمام بما بعد الكولونيالية في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وكانت بدايتها في الجامعات الغربية، كمحاولة لتوسيع مناهج الأدب الإنكليزي لتشمل كتابا من دول الكومنولث، أو المستعمرات البريطانية السابقة وممن يكتبون بالإنكليزية. ولعل من الجدير بالملاحظة أن المشروع هو أكاديمي بحت نشأ وتطور داخل الجامعات ولم يكن مرتبطا ارتباطا وثيقا بأي مجريات على الأرض أو الواقع. وقد تزامن ظهور نظرية ما بعد الكولونيالية مع ظهور مجال أكاديمي آخر هو ما يعرف بالدراسات الثقافية، الذي أصبح هو الآخر حقلا مؤثرا في المجال الأكاديمي، ولعل ظهورهما المتزامن كان السبب وراء إيمان بعض النقاد بأن هذين المنهجين إنما طورا خصيصا لإضعاف وسحب البساط من الماركسية التي كانت قد هيمنت على المناهج البحثية في جامعات الغرب. ورغم أن الماركسية ماتت كفكرة سياسية، إلا أنها ظلت حاضرة وبقوة كنظرية معرفة ومنهاج بحث. تهدف النظريات الفلسفية الحديثة مثل التفكيكية لجاك ديريدا وخطاب القوة والمعرفة لميشيل فوكو، التي تؤكد عليها الدراسات الثقافية إلى إلغاء دور الإنسان، في تغيير العالم الذي أكدت عليه الماركسية وتصوير الإنسان على أنه خاضع لسطوة القوة التي تمارسها اللغة والخطاب النصي.
ورغم أن الكثير من النقاد والمؤرخين يعتبرون أن بداية نظرية ما بعد الكولونيالية كانت مع فرانتز فانون في كتابه «بشرة سوداء أقنعة بيضاء» (1954) و»معذبو الأرض» (1961) إلا أن النظرية لم تتوسع إلا بعد ظهور الثلاثي إدوارد سعيد وهومي بابا وغايتري سبيفاك، خصوصا بعد ظهور كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد سنة 1978 الذي ترك أثرا كبيرا في تطور النظرية النقدية. ومرة أخرى نلاحظ أن المؤسسين الكبار كلهم يعملون في جامعات غربية مرموقة. ورغم أن إدوارد سعيد لم يكن أول الباحثين الذين كتبوا عن الاستشراق والصورة التي يرسمها الغرب للشرق، فقد سبقه إلى ذلك مصطفى السباعي في كتاب «الاستشراق والمستشرقون» (1956) وكذلك أنور عبد الملك في «الاستشراق في أزمة» (1963) إلا أن ما ميز سعيد هو موقعه كأستاذ للأدب المقارن في جامعة كولومبيا الأمريكية، وهو ما أعطى أفكاره أهمية كبيرة وتأثيرا كبيرا في المجال الأكاديمي.
أدرك المهتمون بهذا الحقل من الدول النامية أن الطريقة المثلى للتأثير في هذا الحقل الأكاديمي هو العمل في الجامعات ومراكز البحوث الغربية من أجل الدعوة لإعادة دراسة الأدب الكولونيالي وفهم الطريقة التي صور بها الغربيون الآخر، من وجهة نظر الآخر نفسه، ولعل في ذلك مفارقة كبيرة في أنك لكي تبتعد عن تأثير الغرب وتحرر نفسك من السطوة الفكرية للغرب، ولكي تدرس الطريقة التي ينظر إليك بها الغرب عليك أن تذهب إلى الغرب نفسه وتكتب بلغته، وإلا فإن صوتك لن يكون مسموعا أبدا. ومن أشهر التجارب في هذا المجال هي تجربة الكاتب الكيني إنجوحي واثنجو الذي كتب بالإنكليزية عددا من الروائع الأدبية مثل «حبة القمح» (1967) و»لا تبكي أيها الطفل» (1964) الذي قرر بعد استقلال بلده ألا يكتب بالإنكليزية أبدا وأن يكتب فقط بلغة الجايوكو وهي إحدى اللغات المحلية في كينيا، وقدم مقترحا لجامعة نيروبي يطالب فيها بإعادة تسمية قسم اللغة الإنكليزية في الجامعة وإعادة كتابة المناهج لإبراز الأدب الأفريقي ومنحه المكانة التي يستحقها. ويعود إنجوجي في كتابه «تحرير العقل» (1986) ليقول إن الرصاص كان وسيلة الآخر للإخضاع الجسدي واللغة كانت وسيلة الإخضاع العقلي، ولذلك ولتحرير العقول من سطوة الآخر المستعمر ينبغي التحرر من سطوة اللغة الأجنبية وتأثيرها. إلا أن إنجوجي مع الأسف عاد وتراجع عن القرار بعد أن غاب صوته تماما ولم يعد أحد يقرأ له، وقد سلك طريق سوينكا نفسه، إذ أنه أصبح أستاذا في جامعة كاليفورنيا- ارفين حيث يدرّس الأدب المقارن، وحتى ابنه ماكوما أصبح أستاذا في جامعة كورنيل الأمريكية وينشر جميع كتبه ودراساته بالإنكليزية. وفي آخر لقاء له في الصفحة الثقافية لصحيفة «الفايننشال تايمز» يبدو أن إنجوجي غير من آرائه فهو يقول إنه كان دائما يؤمن بأن هناك فرقا بين ما يجب عمله وما ينبغي عمله، فإذا كان الكاتب قد نشأ على الكتابة بالإنكليزية فهل ينبغي أن نمنعه من الكتابة إلى أن تتحسن لغته الأم؟ ويبدو هذا الرأي بعيدا عن ذلك الكاتب الذي قال يوما، إننا بالكتابة بالإنكليزية نكون قد أصبحنا جزءا من الإمبراطورية الميتافيزيقية ونسهم من حيث لا نقصد بنشر سطوة اللغة الإنكليزية.
إلا أن الصورة لا تبدو بذلك التشاؤم، إذ أن وول سوينكا نفذ وعده وترك أمريكا عائدا إلى بلاده قبل تنصيب الرئيس الجديد في العشرين من يناير/كانون الثاني الماضي، وقد قال لمراسل صحيفة «الإندبندنت» الذي التقاه على هامش مؤتمر ثقافي في جنوب أفريقيا مؤخرا، إنه عاد للاستقرار في موطنه، حيث كان ينبغي له أن يكون، ورغم أنه لن ينصح الشباب الأفريقي بعدم الذهاب إلى أمريكا فبالنسبة له اعتبر سوينكا أن فوز ترامب بالرئاسة كان اللحظة المناسبة للمغادرة.
عن القدس العربي