أكثر من قرن، حياة مرها أوفر من حلوها،
أكثر من ثلث القرن المر في انتظار الغائب الذي لم
تقم له صلاة..
مات عمي علي.. مقدرا عمره ب 115 عاما بتقويم ذاكرة
عنيدة.. وبقي منه ومن سيرة
الانتظار والفقدان واللوعة على الكبد المحروقة ” ظل ثقيل”..
لم يعد أحمد أوتكو، الفتى الذي انتظرته أمه.. أجمل
الأمهات.. وماتت دونه بعد أن ظفر المستقبل بمقاطع مصورة لصمتها وشرودها بكاميرا المخرج
حكيم بلعباس في فيلميه “أشلاء” و”ثقل الظل”.
لم يعد الفتى ” المغيب” في جنون سنوات الرصاص وعبثيتها
السوداء… ومات الوالد، عمي علي أوتكو دونه… بعد أن مل منه الانتظار، وخشيت الحياة معه
على ما بقي من معناها.. إذ لم يكن يبدو أن عمي علي قد اعتنق اليأس ونحن نلتف حوله في
مثل هذا الوقت من العام الماضي، بمناسبة عرض الشريط الوثائقي “ثقل الظل” لحكيم بلعباس..
فهمنا لماذا حرص حكيم على ترديد أن الشريط هو شريط
عمي علي وليس شريطه..
الجرح مفتوح بطراوة نازفة بعد أربعة عقود ونيف،
فالشريط أكبر من أن ينسب إلى فنان.. والعمل نفسه، بلا استعراض فني أو صناعة تحويلية
سردية، قدم شهادة خام على واحدة من قصص حدثت بيننا، وأحيانا في ضوء النهار.. ذات سبعينيات
مسيجة بالحديد…
من “ثقل الظل” تبقى صور ومشاعر وجليد يحبس الزمن
في إحساس بعجز مستديم عن الفعل، وعن السلوى..
يبقى العهد الذي أوفت به “خيرة”، الأم المكلومة
الضائعة في لوعة فقد مسحورة باللافهم، هي التي كانت تنتظر فتاها العائد في نهاية الأسبوع
من مقامه بالثانوية إلى الأعالي المنسية للأطلس السحيق.. قالت: “تحرم علي المرآة مادام
أحمد غائبا…”.
وتبقى صرخة عمي علي بحكمته المتهدجة: “يضيع الحمل
بين أنياب الذئب فتحفظ البراري دليل إدانة: أشلاء أو نتف صوف، فكيف لا أستدل على شيء
من ابني.. قبر أو رفات…”.
ويبقى أيضا ذلك الرحيل الدرامي للنحل الذي كان يملأ
جوارير بيت عمي علي بالعسل…
هامش:
توفي علي أوتكو، ليلة الجمعة 3 فبراير الجاري، بقريته
أيت يول، عن عمر يناهز 115 سنة، بعد نحو 42 سنة من بحثه عن ابنه أحمد أوتكو المختطف
الذي لا يزال مصيره مجهولا.
وكان أحمد أوتكو قد اختفى في يونيو 1974 إثر حركة
احتجاجية مطلبية بداخلية إحدى ثانويات ورزازات.
في الصورة يظهر عمي علي وابنه ومعهما المخرج حكيم
بلعباس والمعتقل السياسي السابق جواد مديدش والناقد السينمائي مصطفى العلواني.