تحتفي هذه المجموعة القصصية لحسن بحراوي بعالم حكائي يقع في منتصف المسافة بين الواقع والخيال..واقع يفضح السارد ثغراته ويعري على سوءاته..وخيال يجمح أحيانا حتى يبلغ حدود العجائبي ثم يتراجع ليلامس السخرية ويشيع ضربا من الفودفيل المسلي..ومن النوع الأخير مثلا سلسلة الأحداث الملغزة التي يعيشها البطل عالم الأحياء ومربي الطيور في قصة (فندق المسافرين) حيث يقع فريسة هواجس ليلية تتناهى إليه فيها أصوات طلقات لا وجود لها سوى في كيانه المتداعي من جراء وجود صعب وروح تائهة..أو تلك الرسالة الغريبة التي تصل إلى السارد في قصة (أستوديو الجماهير) بشأن استلام صور جنائزية لم يلتقطها قط بل لم يسبق له أن زار المدينة حيث يوجد مقر المرسل الذي يدعي مسكها..وكذلك ومثال تلك الرغبة المشبوبة في قصة (شاي في باريس) التي تسكن الزوجة في شرب كأس من الشاي على قمة برج إيفيل والموانع العجائبية التي وقفت دونها وتحقيق هذه النزوة الإنسانية البريئة..أو رحلة العذاب المكتنزة بالألغاز على متن طائرة عجيبة في قصة (رحلة أهل الشمال إلى بلاد السنغال)..وغيرها من الموضوعات النوعية حريفة المذاق التي تخترق السائد والمألوف وتعانق عوالم تستعصي على الفهم والتأويل اللّهم بالتحليق معها في مجرات الوهم والاحتمال.
وفي قصص أخرى تزداد حصة الواقعية بما لا يقاس على مقدار الخيال ونصير على قاب قوسين أو أدنى من حكايات أهلية تغوص عميقا في دقائق الحياة اليومية الاعتيادية لمواطنين عاديين أو استثنائيين تجرفهم تيارات وتنال منهم آفات لم يكونوا يتوقعونها بأي وجه من الوجوه..يحدث ذلك مثلا في قصة (السجين) التي تصور المآلات الملتبسة التي ينتهي إليها قدماء المعتقلين السياسيين عندما يغادرون الأسوار مخلفين وراءهم مبادئهم القديمة ومتنكرين لرفاق المحنة ممن خانتهم الحظوظ وبقوا "أسرى" العالم السفلي..أو كما في قصة (نكرولوجيا مغربية) حيث يثار موضوع العلاقة الإشكالية بين زمرة الأحياء المأخوذين بنشوة الدنيا ولذائذها وجماعة الأموات الذين "يعيشون" أوضاعا صعبة في مقابر متروكة لنفسها تعاني من الإهمال واليتم المضاعف..
إن مجموعة (أستوديو الجماهير) تعرض علينا كونا حكائيا ذا نكهة غريبة بعض الشيء حيث انعدام اليقين هو السمة البارزة لشخوصها..والعيش على حافة الحلم والكوابيس هو ما يميز عوالمها السردية ببداياتها الملغزة ونهاياتها غير المتوقعة..أما ثيماتها فتختار الغريب من الأحداث والمثير من الوقائع لتنسج حولها فضاء قصصيا متميزا يضع القارئ في مهبّ التساؤلات..وكل ذلك يمثل تجربة حكائية جديدة وطريفة تفتح أمامنا أفقا عابرا للمسافة بين الحقيقة والخيال..بين الكتابة الواقعية والتعبير الفنطاستيكي..بين الحداثة المفرطة والعتاقة التي لا يمكن تلافيها..وتلك بعض الرهانات التي تعدنا بها هذه المجموعة لمؤلفها الكاتب المغربي حسن بحراوي..