في البدء كان الشعر. كان وسوف يبقى. بدون شك، ما دام هنالك أفق بلا هدهد. وطوفان بلا حمامة. الشعر إكسير الحياة. شاقول ينبض. شفاه ترى. وعيون تسمع. «ليتني أعمى!». إذن، كنت. كالزرافات ـ شعرت بالزلازل قبل وقوعها. كنت دسست منزلي
[منزل الكائن] في جيبي. وكنت وقفت على رؤوس أصابعي. ومددت عنقي إلى ما وراء سياج المعنى. «ماذا سأخسر ؟» [ماذا سيخسر الكائن؟]. ما زالت «الأرض زرقاء كبرتقالة» ( إيلوار). وما زالت الحقيقة ـ كاللؤلؤة اليتيمة ـ مدفونة في جوف قنينة مرمية في البحر، منذ ما قبل التاريخ. أيها الأعمى! يارفيق الأيام الصعبة ! ويا عابر الخرائط. واللغات، والرؤى ، بأحداق مشتعلة، وحافيا تماما! كم عثرة أخرى في طريقها إلى قدميك؟ كم عطسة ؟ كم قفزة في الهواء؟ وكم ثمالة ؟ فقط كي تدرك ـ بالظن وبالبصيرة ـ أن الواقع ليس هو ما يقتضيه الأصل. ولكن ما تقتضيه المخيلة. ناهيك عن أن ما يتهيأ لنا جميعا أنه عين الوجود ليس سوى كذبة بيضاء. ذريعة. فرضية..قل ما شئت. ودعك من صيدلية أفلاطون، ومن قبوه. دعك أيضا من شطط القاموس. فالمجتمعات البدائية عرفت الشعر حتى قبل أن تعرف النار، والملح، والذهب، والعجلة، والسفن الشراعية. عرفته ـ شفويا ـ بالغـريزة، والحدس، والقلق، واللايقين. ثم بعد أن نالت حصتها من شظف القول، ومن تداعيات النكبات الكبرى ـ ولاسيما حين أسفر توزيع العمل عن انقسام الناس بين أسياد وعبيد ـ ما لبثت تلك المجتمعات بالذات، حيثما كانت، وبالخصوص في مهد الحضارة الإنسانية: حوض البحر الأبيض المتوسط، أن جعلت من الأبجدية الدرع والمحراث. قلت إلى حد الآن: الأبجدية. ولم أقل بعد: الأبدية. على سبيل الاحتراز ليس غير. وإلا توارى كل شيء إلى الأبد: الشاطئ، والفنار، والسفينة، كل شيء. في رمشة عين. من يدري؟
مهما يكن، من هنا بداية التاريخ، باعتباره حدًّا فاصلا بين الماء والحبر. بين الظل والأفق. وبين المتن والحاشية. من هنا –أيضا- بداية الكتابة، باعتبارها رد فعل على الظلم، والميز، والعبودية. سواء إزاء الطبيعة أو إزاء الإنسان. يدي على قلبي! كم هو قاس وهش أن تكون وأن تكتب ! لاحقا، سوف تولد فكرة الأسلوب. أساسا، مع انبثاق الفرد. ثم ـ شيئا فشيئا ـ مع سقوط البلاغة في فخ الجسد. كل هذا ليس بدون مخاض، ولا بدون مجازفة.
«مثلما عشب إذن، ولكن على منحدر»، هكذا هي الأبجدية: الكاف سنبلة. والنون شوكران. أيها الأعمى! يا رفيق الأيام الصعبة ! ويا سائس العلامات الغائرة، والظلال الهاربة ! أما زلت تخلط بين العلم والأسطورة ؟ بين الديثرامب، والشذرة، والهايكو ؟ مد عنقك، من جديد، وأنت ترى « قليلا أكثر». سوف ترى أن كل حرف طوطم. وأن كل كلمة مذبح، أو شاطئ، أو فنار. أرأيت؟ سر وراء أي بجعة سوداء [ ليس كل البجع أبيض] وأنت ترى، في كل مرة، أكثر فأكثر. ترى ما لم تكن تتوقع. فوضى خلاقة؟ لربما. ولكن على طريقة حداة الهش، والمتلاشي، والمنفلت، والعابر. لا مناص، ما دام الواقع قرشاً ضخماً. وما دامت الاستعارة هي الشص. ليس لأن الاختيار ـ تحت شمس أشبه ما تكون بكرة تنس [ شمس البلاغة ؟] ـ ينبغي أن يكون بين ألم بينلوب (Pénélope) ونحيب كالبسو (Calypso)، ولكن لأن الرغبة والألم ـ مجتمعين في شعور واحد ـ من شأنهما، حين لا سحابة في الأفق، لا نهر، لا فراشة، ولا حافر، أن يجعلا من أي ومضة شعرية [ ولو خاطفة، وملفقة على عجل] شوكة لذيذة ومؤلمة في وقت واحد، هو الوقت الذي يقطعه الضوء، فوق رؤوسنا، بين السكين والوردة. ولا سيما « هاهنا حيث آخر البحر، وحيث الأرض تنتظر» (ريكاردو = مضاعف بيشوا )، والآن حيث «يلذ السفر بدون خريطة مسبقة، ودون نية في الوصول « ( لاوتسو).
وداعا أرض الحدائق العجيبة ! داهمنا النفير. وها نحن نضع النظارات، والأحذية، والمعاطف الثقيلة جانبا. ونشرع في تصفح الطرق من الفهرس. لابد من تمبكتو. لابد، فـ «المستقبل هو فجر الماضي»، بينما « الأبدية هي الراهن، مكررا إلى ما لا نهاية». قرأت هذا فوق جدار أزرق. وللتو حككت جبهتي. وكتبت هذا التعليق: لربما، ولكن أين يكمن المعنى: في الطبيعة ؟ أم في التاريخ ؟
كيفما كان، وفي العمق، يقول الشعر ما لا تستطيع اللغة أن تقوله. كذلك، مهما تغيرت الجغرافيات، والهويات. ومهما تعددت الأساليب، والمدونات، والأجناس [الأدبية، والفنية، والإناسية ] يظل الشعر هو النواة الصلبة، هو النسغ، وهو الجوهر. ليس فقط حيث يدور تحت «شجرة الكون» (ابن عربي) جدل مدمر، وفي الوقت نفسه مثمر، بين الحقيقة والمجاز، بين الشكل والإيقاع، بين العاطفة والتركيب (Syntaxe)، وبين الشخص والنص. أو فقط حين يكون الاشتغال على اللغة توأما شقيقا للأرق. ولكن كذلك حين يكون الصمت هو اللغة الأم. لا جرم، فالصمت بالنسبة للشعر هو بمثابة الصفر بالنسبة للرياضيات، والعدم بالنسبة للفلسفة، والفونيم بالنسبة للغة: حافز، ومولد، ومفاعل نووي. بنصف كلمة: كبريت أحمر.
هكذا منذ البدء، فـ « شعر» في المنطوق العربي: شعور وفطنة. كدت أقول: فتنة. وفي المنطوق الإغريقي:»Poeien»: صناعة وتأليف. بهذا المعنى، سوف تكون الشعرية (Poétique) هي الأورغانون بالنسبة للمتلقي، والبوصلة بالنسبة للمؤلف [ = الشاعر]، والحاضنة بالنسبة للنوع. أما عند التدقيق، فـ» الإقامة فوق هذه الأرض « سوف تكون هي السبب. ذلك أن صفات ومقولات: الطول، والعرض، والارتفاع لم تكن، في أي يوم، كافية للسيطرة على أعراض ومضاعفات «ميتافيزيقا الحضور» (هايدغر). حتى الزمن ـ كبعد رابع، كمقولة، كسيرورة ـ لم يأت بالحل، بل إنه ـ بخطيته وثقله ـ كان، دوما، عبئا على كاهل الكائن. من هنا كان الشعرُ. كان المبدأَ الأولَ، والعنصرَ الخامسَ. كان وسوف يبقى: مثل اليوغا، تمرينا طوال العمر. مثل حلم اليقظة، سلاحا في وجه الزمن. ومثل الترياق، ضد كل الكوارث والأوجاع. وما أكثرها في وقتنا الراهن، وفي كل بقاع العالم: الواقعي، والرمزي، والافتراضي ! فيها ما هو من صنع الطبيعة، وفيها ما هو من صنع التاريخ: مجاعات، أوبئة، حروب طاحنة، قوارب موت، استيطان، تحريض على الكراهية، إرهاب، تطرف ديني، مصادرة للحريات، وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وفي طليعتها: الحق في الحياة، والحق في التعبير. هل أقرع الطبول وما من خبر بعد لا عن إيثاكا، لا عن سر من رأى، ولا عن تمبكتو ؟
ما من خبر إذن. ولكن ثمة «مياه نقية تتجمع في يد الشاعر» ( غوتة). وفوق المياه شموع، وأشرعة، وأقداح. ثمة ساعي بريد بين السماء والأرض: قوس قزح، ابن عم الشعر. وثمة أعشاب يتداوى بها: ذاكرة حية. ومستقبل يتقدم نحو الإنسان من جانبه المضيء. هكذا هو ميثاق الشعر. وهكذا هي مفرداته المتداولة، ولا سيما في قاموس الإنسان المتوسطي: الأريحية، نكران الذات، التسامح، التقاسم، والحوار بين الأفراد والجماعات، بين الشعوب والحضارات، بين الشمال والجنوب. كل هذا يستطيعه الشعر. كل هذا وأكثر.
صحيح أن الشعر ـ بالمعنى القريب ـ لن يجعلنا، نحن أحفاد أوديب، نقف على أقدام متورمة أو مشلولة. ثم نعدو. ونقفز بالزانة. أو نفوز بالمراتب الأولى في سباق المسافات الطويلة. بيد أنه ـ بالمقابل ـ يجعلنا نتنفس، بعمق. وهو بهذا يجعلنا ـ دائما ـ أقوى وأسرع وأعلى. أي في صميم الحياة. الشعر قوة اقتراحية في متناول كل الناس، بمن فيهم رجال ونساء العلم، والاقتصاد، والسياسة. أي إكسير هذا! إننا في هذه الحياة، لا نتغلب على قساوة البرد والجوع بالخبز والشاي فحسب، ولكن كذلك بالعسل المر: عسل الاستعارة. لهذا كان الشعر. ولهذا سوف يبقى.
++++
نص الكلمة التي ألقيت في حفل تسليم جائزة الأركانة العالمية للشعر (2016)، يوم 02-02-2017 بالمكتبة الوطنية بالرباط.
2/10/2017