كانت ساعات المساء الأولى تجتهد في أن ترخي على أشياء المدينة، وكل من نراهم من حولنا، سدولَ ليلٍ بهيم السواد، كانت قبل قليل أشعة ذات أذيال وأهداب بألوان
متراقصة شتى، جعلت انعكاساتها وجه النهر و أمواج البحر، يتحليان بأخضر باهت جميل، يخرج من ذات الزرقة التي كانت غالبة على لون الماء خلال ساعات النهار.كنا معاً ، أنا ونصفي الآخر ـ حبيبتي التي أصبحتُ أشعر نحوها أخيراً باشتداد ما يعزز رباط حبناً، وليس مجرد عطف، نَـُمرُّ ونحن نصعد من كورنيش النهر إلى شرفة البحر، بفتاة وهي تقف إلى شابين يفاوضانها، بينا تنتظرها على غير بعد منها، أخرى هي صاحبتُها. فذكرني هذا بـ"عبكريم " ذلك البدين ذي الخدين البارزين الأحمرين باستمرار ، أحد ظرفاء الساخرين في مدينتي البعيدة ، و الذي كان يطلق وصف طاكسي صغير على كل مومس راهقت الحلم، فإذا بلغت أشُدَّها في الأربعين، سمّاها طاكسياً كبيراً، ذكرت ذلك لحبيبتي، فضحكت لكنها سرعان ما أخفت ضحكتها كأن لم تفعل، متعجبةً، فأنا أعرف عنها أنها تأسَى لكل أمرأة آلـت إلى سقوط، بعد اعوجاج سيرتها، مهما كان سبب سوء مآلها. وإنما ضحكت لما ذكرت لها عن غرابة أن يلتقى ساخر شعبيٌّ لا يقرأ بأية لغة، مع كاتبة فرنسية طليعية، كانت قد أطلقت نفس الصفة، في إحدى رواياتها، على كل ممتهنة عهارة في بلدها، و ليس للتشفي.
وإثرَ وقفة قصيرة ، بعد أن كنا ابتعدنا وتجاوزنا مشهد أقدم مهنة في العالمين، حاولنا أن نأخذ صوراً، أمام ما تبقى من شمس أصيل فاتنة الاحمرار ، وكأنها خجلت مما ترى من أحوال، بين جموع متجمهرين توقفوا عند حواجز شرفة المحيط الممتدة من مطلع كورنيش النهر، إلى ما يجاور المقبرة البحرية ، ولم تكد تبلغ بنا خطواتُنا الشاطيءَ حتى توارت، رغم أنني كنت أستحث حبيبتي حتى ننجح في البلوغ بخطونا الرياضي بجسمينا إلى درجة تدفئة تنجينا من سياط برد قد يفاجئنا بلسعاتها مَناخُ هذا المساء، جاءت صورتي بإنارة ناقصة، وكأنها لشبح يحاول أن يضحك، فتطفيء الظلمة احتمال إشراق نور أي ابتسامة على وجه شيخ واهن أخفى شيبه بقبعة بيريه فاخرة ، كانت هدية من إحدى قريباتي، بعد أن زارت تركيا ذات مرة.
تحركنا من موقفنا على الشاطي الصخري، تطاردنا لسعات بعوض ، كان يحلق في عنف فوق رؤوسنا، مثل طائرات بغير طيار، في مهمة قصف خاطفة ، فأسرعنا نهرول لِلِّحاق بوسط المدينة لقضاء أغراض في سوق مسائية قريبة ، لدى أصحاب سلَعٍ من خضار وأسماك يتفننون في احتلال وسط الطريق عنوة، قريباً من محلات لبيع لحوم حمراء وبيضاء، ودكاكين بهارات أيضأ، مع مقشدات لبيع حلويات مختلفة، وخبز من جميع الأصناف. أخذنا ما نحتاجه من خبز خاص بي لأسباب صحية ، وخبز لمن معنا في البيت، وقبل أن نصل إلى ميدان رحب يتفرع عنه أكثر من شارع، أحدها كان الأكثر ازدحاماً ، ما أن وقفت حبيبتي لشراء شيء ، حتى انسحبت إلى جهة منشغلاً في انتظارها، على الرصيف ، أقلب عيني في ما تعج به الطريق من مشاهد ، كان هناك بشر كثيرون يهرولون أحياناً، أويتوقفون ، ثم يتابعون السير مستعجلين لا يلوون على شيء، وآخرون يبطئون ، يتوقفون أكثر مما يمشون، كان أمامي ـ وأنا أنتظرفي غير ملل ـ شابّ لم أعرف ماذا كانت سلعته التي يبيع، وعلى مقربة مني دكان بهارات غابت داخله حبيبتي إلى حين، وبائعو خضار مصطفّون أصواتهم لاتهدأ أو تنقطعَ حركاتُهم، وهم يزِنُون أو يقبضون أثمان ما يبيعون، وانتبهتُ فجأةً إلى العمارة المقابلة لي، على الجهة الأخرى من الشارع، وقد رفعت على إحدى شرفاتها لافتةٌ بكلام محذِّر خطير، يعلن عن :بناية آيلة للسقوط ، وفي السطر الثاني منها ،كُتب: خطر الانهيار في أية لحظة، فابتسمت مُعجَبأ بسلامة تعبيراللوحة ونقاء لغتها، لكنني سرعان ما صحوتُ من نشوتي الأدبية الخاطفة إلى ما أثار رُعْبي، وأنا أقول في صوت خفْتُ أن يكونَ مسموعاً:
ـ ألم يسترعِ التحذير ـ على فصاحته ـ انتباهَ أحد؟
ـ ألم يسترعِ التحذير ـ على فصاحته ـ انتباهَ أحد؟
كانت كل دور البناية فارغة حقاً بأثر سابق،إلا أن هناك في الطابق الأسفل ،في الجهة المفتوحة على السوق، (حلاق الجماهير) كان لا يزال يعمل، لم يكن أحد يجلس على كرسي الحلاقة، غير أن الدكان كان مضاءً : فمصباحه ضعيف الإنارة كان كافياً للإخبار أن الحلاق موجود، وقد كانت هناك دراجة هوائية مستندة إلى جدار قريب من مدخل المكان،ربما كانت درجة الحلاق نفسه، أو تعود إلى أحد الباعة الجائلين. التفت إلى الشاب الذي يقف أمامي، فلم أر غير ملامح وجه هاديء مستكين ، وقد اشتدت بي رغبة أن أسأل أياً كان عن معنى ما يجري، وتأكد لي أن من لا يقرأ كمن لا يسمع تماماً، وهل يسمع من كان في مثل هذه الزحمة صراخَ كلمات رغم وضوحها المستنفر؟ كان الشاب يلتفت إلى أكثر من جهة، وكأنه ينتظر أحداً، ولو انه قرأ الإعلان لما انتظر غير احتمال انهيار يحَوِّلُ المكان إلى انقاض،والأجساد إلى أشلاء ورميم، كمخلفات حرب أو زلزال، أو أشد خسارة من كل ذلك،وانتبهتُ بدوري بعد شرود قصير لأجد شابّاً آخر بملامح حائر ينظر حوله وهو يضحك في خوف من يتوقع هولاً يكتسح العالم،متوتراًكأنه يمنع دمعه أن ينهمر، بعد أن استرعت اللافتة انتباهه، قلت له ، وأنا أشير إلى جمهرة المزدحمين :
ـ أهمُ موتى؟ أم عدموا من يبعثهم على طلب النجاة؟
!!!ـ بل مواش سائمة استقال رعاتُها
ـ أهمُ موتى؟ أم عدموا من يبعثهم على طلب النجاة؟
!!!ـ بل مواش سائمة استقال رعاتُها
وأمسك بخناقي رعب وأنا أرى حبيبتي تتجه نحو بائع قريب مـن باب حلاق سوق الغافلين هذا، وأحسستُ برغبة أن أصرخ، لكنني لم أجد صوتي ، فصورة الأنقاض التي تملأ المكان جعلت الكلام يجف بحنجرتي، والغبار يعميني لوقت لم أعرف كم استمرّ، ربما أحسست ببعض من ارتفاع ضغط دمي، إلا أنني تنفست الصعداء وأنا أسمع صوتها، ويدها تهز كتفي كانها تنبهني من حلُم :
ـ لا تنتقل... انتظرني قليلاً ...
فرأيتها وهي تعود إلى جهة أخرى بعيدة عن البناية الآيلة إلى الانهيار ،وظلِلتُ حيث كنتُ أقف وفي يدي حاجيات كنا اشتريناها قبل أن تنتهي وقفتنا إلى هذا المكان، محاولاً استرجاع هدوئي الذي لم يعد لي.
ـ لا تنتقل... انتظرني قليلاً ...
فرأيتها وهي تعود إلى جهة أخرى بعيدة عن البناية الآيلة إلى الانهيار ،وظلِلتُ حيث كنتُ أقف وفي يدي حاجيات كنا اشتريناها قبل أن تنتهي وقفتنا إلى هذا المكان، محاولاً استرجاع هدوئي الذي لم يعد لي.
ظل الناس يفرُّون أو يمُرُّون تحت هذا الأعلان الذي يتبرأ منهم، لكنه لا يرفع صوته بما يسمعهم أي تحذير ، وإن كان وضوح لغته على غير المألوف في إعلانات مما عهد العابرون.
ـ أيكون السبب أن لغته ليست عامية ، أم أن لا أحد في دنيا الغافلين هنا، يفهم ما يعنيه هذا اللفظ أو ذاك من كلماته.
تساءلتُ.
ـ قد يكون.
ولكن عبارة : خطر الانهيارفي أية لحظة ، هي أشدُّ وضوحاً من أي هتاف أو حتى من أيه صفارة إنذار راعبة، تصدر عن أية سيارة إسعاف بين الآتين والذاهبين.
لم أستطع الاعتقاد بوجود تواطؤ عام بين جميع هؤلاء المارة على الاستسلام للموت المؤكد في اية لحظة ، فأمامي هنا وهناك أناس من كل الأعمار والفئات ، والطبقات، لا يمكن أن يزعم أحد برغبتهم أن يستسلموا لموتٍ قاسٍ مؤلم مثل هذا تحت الأنقاض، أو أن يتعرضوا ، في مصادفة عمياء إلى خطر مُحْدِقٍ، آتٍ كوعدٍ أكيد ، حتى و لو ان الناس في هذا الوقت يشتكون من أكثر من ضائقة ، لكن ليس إلى حد أن يستعجلوا الأقدار موتاً ماحقاً.
حاولتُ الصراخَ، مِمَّا مُلِّئْتُ به من رُعْبٍ حين رأيتُ حبيبتي تتحرَّك ما بينهم ، و لافتة الموت تضحك بحروفها الزرق على بياض لوحتها الناصع في حياد بياض أكفان الميِّتينَ.
وقفتُ قرب حبيبتي، أنظر متعجباً إلى عينيها الهادئتين، وقد ملأتْ معروضات السوق عليها مجامع نفسها، وأنا أستعجلها أن نبتعد عن المكان، سألتني :
ـ ألا تريد أن تنتظر قليلاً؟
!ـ كلا، فأنا أكاد أن انفجر
ضحِكتْ ، فقد كانت تعرف ما أعاني منه ، وللتخفيف من هلع الموقف، رسمتُ على ثغري ما يشبه ضحكة صفراء، سرعان مَحَوْتُها.
فأسرعتْ إلى الالتحاق بي وأنا أغذ الخطو في اتجاه أقرب الطرق إلى بيتنا، وهي تنظر إليّ بإشفاق وحُب صادقيْنِ.
وعلى امتداد الطريق التي كنتُ أرى على جانبيها بنايات أخرى منذرة ، وهي ترى إلى العالم بعيون فارغة سوداء مطفأة ، بما هي آيلةٌ إليه عن قريب من سقوط وشيك، لاحظتَ أني لم أقلع عن عادتي التي كانت لي يوم كنتُ في مدينة غولٍ، في ، رفع عينيّ ، إن ذهبت إلى عملك صباحاً أو مساءً، بأطول شوارعها ، في محاولة مني لإحصاء طبقات عماراتها التي كان المحظوظون يتنافسون في الارتفاع بها كبرياءً وإظهارَ قوة. ، وجموع الناس من تحتها يذوبون.
ـ أيكون السبب أن لغته ليست عامية ، أم أن لا أحد في دنيا الغافلين هنا، يفهم ما يعنيه هذا اللفظ أو ذاك من كلماته.
تساءلتُ.
ـ قد يكون.
ولكن عبارة : خطر الانهيارفي أية لحظة ، هي أشدُّ وضوحاً من أي هتاف أو حتى من أيه صفارة إنذار راعبة، تصدر عن أية سيارة إسعاف بين الآتين والذاهبين.
لم أستطع الاعتقاد بوجود تواطؤ عام بين جميع هؤلاء المارة على الاستسلام للموت المؤكد في اية لحظة ، فأمامي هنا وهناك أناس من كل الأعمار والفئات ، والطبقات، لا يمكن أن يزعم أحد برغبتهم أن يستسلموا لموتٍ قاسٍ مؤلم مثل هذا تحت الأنقاض، أو أن يتعرضوا ، في مصادفة عمياء إلى خطر مُحْدِقٍ، آتٍ كوعدٍ أكيد ، حتى و لو ان الناس في هذا الوقت يشتكون من أكثر من ضائقة ، لكن ليس إلى حد أن يستعجلوا الأقدار موتاً ماحقاً.
حاولتُ الصراخَ، مِمَّا مُلِّئْتُ به من رُعْبٍ حين رأيتُ حبيبتي تتحرَّك ما بينهم ، و لافتة الموت تضحك بحروفها الزرق على بياض لوحتها الناصع في حياد بياض أكفان الميِّتينَ.
وقفتُ قرب حبيبتي، أنظر متعجباً إلى عينيها الهادئتين، وقد ملأتْ معروضات السوق عليها مجامع نفسها، وأنا أستعجلها أن نبتعد عن المكان، سألتني :
ـ ألا تريد أن تنتظر قليلاً؟
!ـ كلا، فأنا أكاد أن انفجر
ضحِكتْ ، فقد كانت تعرف ما أعاني منه ، وللتخفيف من هلع الموقف، رسمتُ على ثغري ما يشبه ضحكة صفراء، سرعان مَحَوْتُها.
فأسرعتْ إلى الالتحاق بي وأنا أغذ الخطو في اتجاه أقرب الطرق إلى بيتنا، وهي تنظر إليّ بإشفاق وحُب صادقيْنِ.
وعلى امتداد الطريق التي كنتُ أرى على جانبيها بنايات أخرى منذرة ، وهي ترى إلى العالم بعيون فارغة سوداء مطفأة ، بما هي آيلةٌ إليه عن قريب من سقوط وشيك، لاحظتَ أني لم أقلع عن عادتي التي كانت لي يوم كنتُ في مدينة غولٍ، في ، رفع عينيّ ، إن ذهبت إلى عملك صباحاً أو مساءً، بأطول شوارعها ، في محاولة مني لإحصاء طبقات عماراتها التي كان المحظوظون يتنافسون في الارتفاع بها كبرياءً وإظهارَ قوة. ، وجموع الناس من تحتها يذوبون.
وأنا أسير كان داخلي ينغل شيئان في عنف شديد: داءٌ يتفاقم في مسالكي البولية ، ويجعل نوبات تدفُّقِ مثانتي متقاربةً جداً، واستشعارٌ بانهيارٌ ابنيةٍ متداعيةٍ من حولي يتهددني، وأنا ومن حولي، أجمعين.
دخلنا منزلنا ،وحين لم ترني حبيبتي ألتحق حيث يمكنني أن أنفجر ، علقتْ:
ـ أَ شُفيتَ إذن؟
كانت تقصد ماعانيت منه منذ أيام من اشتداد ضيق في مسالكي البولية ، طالما أحرجني في الأماكن العامة .
ـ نعم،
ثم تابعتُ:
ـ ... وانا الآن أتنفس الصعداء .
لم تكد تسمع إجابتي إلى آخرها، حتى طارت نحوي في قبلة محمومة، تريد تهنئتي صادقةً بسلامة الشفاء.،
لكنني لم أكن قد هدأتُ، إذ كنت أتصوَّرُ حينها، ما ستؤول إليه حالُ من تركناهم خلفَنا مهدَّدِين، تحت بناياتٍ آيلة للانهيار، ولو بعد حين.
ـ أَ شُفيتَ إذن؟
كانت تقصد ماعانيت منه منذ أيام من اشتداد ضيق في مسالكي البولية ، طالما أحرجني في الأماكن العامة .
ـ نعم،
ثم تابعتُ:
ـ ... وانا الآن أتنفس الصعداء .
لم تكد تسمع إجابتي إلى آخرها، حتى طارت نحوي في قبلة محمومة، تريد تهنئتي صادقةً بسلامة الشفاء.،
لكنني لم أكن قد هدأتُ، إذ كنت أتصوَّرُ حينها، ما ستؤول إليه حالُ من تركناهم خلفَنا مهدَّدِين، تحت بناياتٍ آيلة للانهيار، ولو بعد حين.