وقفت نعيمة أمام المرآة
التي تزين جدار البراكة، قايضتها من بائع متجول بمعطف شتوي تصيدته بسوق الخردة.
يطوف العربي مرات بالحي عارضا كل مقتنياته
الغريبة. هو مواظب على زيارة
أحياء الأغنياء. يعبث بحاويات أزبالهم، وغالبا ما يعثر على أشياء وتحف، يعيد بيعها
لأهل منطقته، ناشدته نعيمة أن يؤمّن لها ساعة منبه لتعينها على الاستيقاظ
باكرا، ولن تضطر بعدها لانتظار صياح الديك، فقد يخلف موعده يوما أو قد لا تشرق
الشمس، وغالبا ما تفعل. تسكن في أطراف مدينة القنيطرة، و صوت المؤذن بالصباح بعيد،
لا يطرق أسماعها.
هي مرآة
كبيرة بإطار خشبي فاخر، وقعت نعيمة في حبها من أول نظرة، وأنستها الساعة. كانت
تزين غرفة نوم جميلةٍ لامرأة ابتسم لها الحظ وأهداها حياة رغدة... كانت نعيمة كلما
وقفت أمام المرآة، تطالعها صورة حسناء بطولها، تمشط شعرها الحريري وتتبرج لفارسها
الوسيم. كانت تراها بفستان نوم مخملي أسود شفاف. يظهر كل مفاتنها وأنوثتها الصارخة.
كانت تراها ترفل بِالحَرير وهي بكامل أناقتها بغرفتها الوردية، وهي تتمايل بغنج ودلال،
تسدل ستائر مخملية بيضاء مزينة بورود كبيرة، ثم تتجه لمرآتها لتطمئن على جمالها الفتان
وشفافها المكتنزة الحمراء التي كانت تعوي في انتظار طقطة حبيبها. كانت تسمعها تضحك
ضحكة غير بريئة تذهب بعقل أعتى الرجال، وهي تغمز لمرآتها، وللجمال الذي ينعكس على
صفحتها المائية .
تقمّصت
الحسناءُ نعيمة، وأصبحت كلما خلت الدار من ضجيج أبنائها الصغار وصوت زوجها علال
الأجش، وهو يصرخ باحثا عن حذائه أو وهو يحاسبها على تبذير عشرين درهما يناولها لها
كل صباح، مصروف البيت للتبضع. يراها زوجة غير مدبرة، وغالبا ما كان يهرب من
طلباتها التي لا تنتهي إلى معاقرة الخمر الرخيص مع أصدقائه وتدخين ما تيسر من
الحشيش.
لم تحبه قبل
الزواج. كان صديقا لأخيها، يشتغل معه بالمرسى حمالا، وعندما طلب يدها منه، وافق
أخوها دون استشارتها، "الراجل ما يتعابش" كما برّر قراره. كان
زوجها مدخنا شرها للحشيش ولا يستغنى عن كأسه الرخيصة، وكان فظّا غليظ القلب معها
حتى في سهراتهما الحميمية. يقضي وطره بسرعة وعنف، لا يكترث لرغباتها، وعندما
تأوّهت مرة، وكانت في أوج نشوتها، وصدر منها أنين صارخ، لامها ونهرها.
_ أنت بنت
الناس وزوجة وأم، ولستِ مومس .
تعلمت
كيف تكتم لذتها المسروقة، بل أصبحت لا تجد أي استمتاع بمضاجعته بعدما أجهض كل
أحاسيسها. كانت تمنحه جسما مثقلا بالهموم، بلا روح لبعض دقائق، تكتم نفسها وهو
يخنقها بكل أنواع الروائح المنبعثة من فمه، مزيج من حشيش ونبيذ رخيص. أصبحت بعد أن
زينت المرآة حياتها، تهرب إليها منه، فلا تشعر بثقله أبدا، تكون في غرفة الحسناء
الوردية تتعطر وتنتظر فارسها الجميل.
قررت هذا
الصباح أن تذهب لسوق الخردة، ستبحث عن فستان نوم أسود حريري وتشتري قلما أحمر قان.
كانت قد وفرت من مصروف اليوم طيلة ثلاثة أسابيع مائة درهم. استيقظت باكرا، ولم تجادل
زوجها كما هي عادتها كل صباح. كان يصرخ كالمعتاد. لم تنتبه إليه. نظر إليها شزرا
وخرج مطرقا باب البراكة بقوة.
قضت الصباح كله
تنتقل من تاجر لتاجر حتى عثرت على ضالتها، فستان أسود شفاف بدانتيل وريش أسود
ناعم، قال لها التاجر أنه لأميرة إيطالية بالتأكيد، فلا أحد يلبس الريش سوى
الأميرات والملائكة. اقتنت أيضا قلما أحمر بلون الدم لشفاهها وقلما أسود لعينيها، ثم
اشترت بعشر دراهم قارورة عطر منسمة بالياسمين.
بعد أن عادت
لبراكتها، فردت الفستان الحريري أمامها. قضت مدة وهي تلمس حريره الناعم وتداعب
ريشه بوجهها، انتبهت للوقت، قريبا يعود أطفالها من المدرسة، أسرعت بإخفاء كنزها،
وسارعت لتهيئ وجبة الغذاء السريعة، بضع بيضات وإبريق شاي. زوجها لا يعود إلا مساء
وغالبا بعد صلاة العشاء، يكون قد مال على الحانة وشرب ما طاب له من النبيذ.
كانت نعيمة في
صباح اليوم التالي ساهمة وهي تصب الشاي لعلال، وتناوله قطعة خبز مع بضع زيتون أسود
وزيت الزيتون. كان علال يتذمر كعادته كل صباح. لم يكن البرميل المخصص للماء مملوءا
وقد نسيت كعادتها أن تملأه من حنفية الدرب. كان ينوي الاستحمام هذا الصباح قبل
ذهابه للعمل، فقد حرّر حيواناته هذه الليلة، وتركها ترعى بأحشائها.
كانت نعيمة
شاردة البال، تسبح في عالم غير عالمه، حين أيقظها صوت علال صارخا:
- إياك أن
تكوني حاملا للمرة الخامسة. اذهبي للمولدة، وتأكدي، لا أريد المزيد من الأفواه
الجائعة. سأطلقك هذه المرة وتعودين مع قططك إلى بيت طاسيلتك البئيس.
نظرت إليه باستغراب،
تعجبت واشمأزت منه، لكنها لم تنطق ببنت شفة . أغمضت عينيها على حسناء المرآة وفارسها
الجميل.
بعد خروج
علال، أحكمت إغلاق باب البراكة الصدئ. اغتسلت من روائحه الكريهة، وبدأت
الاستعدادات لحفلتها. لن تقف أمام مرآتها السحرية إلا وهي في كامل زينتها. أطلقت
ظفيرتها. مشطت شعرها، وانتبهت أن لونه من لون شعر حسناء المرآة، أسود إكليلها
الدائم. انتبهت أنها لم تسدله منذ ليلة زفافها. أبعدت ذكرى ليلة الدخلة الأليمة
التي كانت فيها ذبيحة جزارها علال، وتابعت مشط شعرها الحريري. لبست فستانها الأسود.
زغردت مسام جلدها من ملمس الحرير. وضعت قطرات من عطرها. انتعشت. وضعت أحمر الشفاه.
كحّلت عينيها الكبيرتين بحجم بؤسها، ووقفت أمام المرآة. طالعتها صورتها لأول مرة،
يانعة الشباب، بهية المنظر حتى لونها الشاحب اختفى. كانت شفاهها مكتنزة، وقد زادها اللون الأحمر اشتهاء. نظرت في عينيها.
رأت بحرا من الرغبة الدفينة لمعانقة الحب، ابتسمت، فابتسمت صورتها. مدت يدها لتلمس
شعرها بالمرآة، فإذا بالحسناء تبتسم لها وتمسك بأناملها وتسحبها إلى ما وراء
المرآة. كانت نعيمة هناك بالغرفة الوردية ترفل بفستانها الحريري الأسود بغنج
والحسناء تداعب شعرها وتبتسم لها.
لحظة اختفت
الحسناء وتركتها تستمتع بنور الشمس التي تسربت خيوطها الذهبية من بين الستائر
المخملية. نفذت إلى قلبها وغسلت كل الندوب العالقة به. كان هناك مسجل صغير ينبعث
منه صوت فيروز. أبهجها وأهداها الحنين لزمن الغياب والحب. وجدت نفسها تحلق بعيدا
عن عالم الحزن والبؤس، وتسبح في فضاء من الجمال والصفاء والسكينة. نظرت إلى مرآتها
ورأت السعادة ترفل في ثوب حريري.
كانت ما تزال
في عالمها السحري عندما أحست بشيء يشدها من شعرها ويعيدها إلى عالمها الأرضي. إنه
علال، كابوسها اليومي. الْتوت رجله وهو بالمرسى يحمل أثقالا ضعف وزنه. رجع إلى البيت
بعد أن وضع تجبيرة عند أحد السادة المباركين. كان يصرخ بملء حنجرته، يرغد ويزبد، وهو
يرى نعيمة وقد لبستها عيشة قنديشة، ورغم عطب رجله الذي لا يضاهي عطب مشاعره، انقض
عليها قبل أن تهرب من باب البراكة. سحبها بقوة من ذراعها، جرها من شعرها وأسقطها
أرضا، وجّه لها ركلة في جانبها الأيسر، لتهدأ ثورتها وهي تحاول الانفلات من بين
يديه. ارتمى عليها بكل ثقله. كان لسانه يلعق شفاهها شهوة، وبين النفسين كان ينعتها
بالعاهرة. كلماته كانت ذات حواف حادة مسننة، رسمت مجرى داميا بقلبها ومقلتيها.
ملتصقة بأرض غرفة باردة تصارع
الوحش. تغلق فخذيها وتشد عليها أطراف فستانها الحريري. لم تستطع مقاومته. أدارت
وجهها للمرآة، طالعتها دموع الحسناء تنساب كشلاّل أوزود، حتى غطت غرفتها الوردية.
أغمضت عينيها الباكية، وغابت عن الوعي. عندما استفاقت، كان علال يدخن سيجارته
الملغمة بالحشيش مبتسما ابتسامته الصفراء، بعد أن أعلن انتصاره على جثتها، ودون أن
تنظر إليه، توجهت لباب البراكة، لم تسمعه وهو يصرخ باسمها ويتوعدها. خلعت باب
البراكة المتهالك. داست على شظايا المرآة التي ملأت المكان، وهي تغادر مسرح
الجريمة. أخذت أكبر قطعة من المرآة. سلمت من هيجان علال، وجرت للشارع. رأت في عيني
علال وهي تطبق الباب موت آخر أحلامها.
أصبح تواجده
وسجالاته وغزواته حبلا يكبّل روحها وعبئا ثقيلا يجتم على قلبها ويدمّر كلّ حلم
وردي يراودها ويمنحها سعادة ولو نسبية.
توقفت
في زاوية الشارع تستجمع قوتها، وتستعيد أشرعة حلمها، ثم مسحت جبينها بريش فستانها
الحريري حتى مسحت آثار العدوان. سكنت ذاكرتها، وبيد مرتجفة أطبقت على مرآتها
المتكسرة، لعقتها بلسانها لتزيل كل الغبار والشوائب العالقة بها وبروحها. وحتى لا
تحجب انعكاس الضوء الذي اخترق قلبها هذا الصباح، وتعيق رؤية جمالها ستبتسم، وستكون
الصورة بالتأكيد رائعة
ستهيم بحثا عن حسناء المرآة، وقد تقايض ضفيرتها بستائرها البيضاء المخملية
وتستنشق عبير ورودها المرسومة وهي تنتظر قبلة الشمس.