1السقطة الاخيرة : أيقظتهُ الزوجة هذ الصباح وليس من عادته أن يظلّ
نائما، منذ أن حصلَ على التقاعد وهو هكذا متعبٌ، منهكٌ، يقضي يومَه في التسكع.
أدار ظهْره واستمرّ ماشياً، متسكعاً، لا تتوقفُ
قدماه عن المشْي ولا يزيدُه ذلك إلّا احتمالا...يدُه خلف ظهره، يدِبُّ الأسى جنبَيْه .
الكثيرُ ما كان يختارُ بوعيٍ أو بِدونه الجلوسَ
مدْخل الزقاق أو ما يشْبه الحديقة، يجلس القرفصاء بين حشْد المتقاعدين في رأس الدّرب
لترتيب الأيام وتفريغها بلَعِب الورق والداما..
يُفضلُ لعبَ الداما لأنها لعْبة ذهْنية تتيحُ له
التفكير والإيقاع بالأصدقاء في حبائل لا تنتهي، ليس لأنه ماهرٌ في وضعِ المقالب وربْط
الحبْلِ بل في ركوُب الودْيان السّبع ومحْو أيامه السائبة وأشكالها المتشابهةِ، التّفاني
في الدفاع ورفْع الهمّة والتحَدي والقليل ما تنتهي اللُّعبةُ بالتعادل(المنع) وذلك
ما يرفضُه.
طوال اليوم هكذا، ضارباً عرض الحائط بِنصائح الزوجةِ
والأصدقاء وفي الأخير يلتزمُ الصمت .
الأبناءُ كبرُوا، تزوجُوا...وغادرُوا محلّقين إلى
جهات وعوالمَ أخرى. يُعاني الوحدةَ وانتظار أن يزُوره أحدهم..
أليستِ الحياةُ لحظةَ تفكيرٍ.. أليستِ الحياةُ لُعْبة
داما..؟
وعادَ للتفكير مليّا مع طرْح السؤال من السؤال السابق،
أيُّ الطرُق سيحْتاجها الآن والعمرُ قد خذَله، ولم تبْق بين يديه إلا بيادقُ قليلةٌ
جدا، كيف يواجهُ هذا الفراغَ الهائل، لم يعدْ يجدً متسعاً للحديث في البيت ..إنْ سمِع
حديثاً أغلق فمَه وسكتَ...وإن سمع أمرا.. خرج لا يَلوي ..لا أحدَ يعيدُه إلى سكّة الطريق
أو يشْرَح له الامْر..
تراهُ، ماشيا يحرّك اليدَ يميناً ويساراً.. يقولُ
شامتاً :.. أنا الّذي كنتُ وكُنتُ...
يغْضِب لأيّ شيء، يُكسرُ، يَنْفجِر، يتغَاضى، لا
ينتظرُ...، يحاوِل أن لا ينهزمَ، من يراه على هذه الحالة يقولُ إنه جُنّ أو مسّه مسٌّ ...
مساءَ اليوم كالعادة وجد نفسَه منْكمشاً، يديرُ
معاركَ ضدّ أصدقائه وضدّ نفسِه، يحاربُ، يقاتلُ، يناوش، يخاصمُ.. في لحظةِ نشوةٍ أو
غضَب ...صرَخ ...واقفاً...صمت لحظة، يدُه على قلْبه، إثْرَها سقط جُثّة هامدةً، مضرّجا
بهزيمته...
2
الزهايمر :
بجلبابٍ أبيض شفّافٍ، وقف أمام مُوظفِ البريد ينتَظرُ
دوْرَه باذْعان ..
بعد لحظاتٍ خاطبَهُ الموظفُ :
سرْ حتى لْغدا الحاج، مالك مْعذبْ راسكْ ..
حتّى لغدا، ونْجي .؟
اوْمأ الاخرُ بالايجابِ وادْخل رأسَه المدورَ في
حزْمَة الاوراق التي أمامه، بقِي الحاجُّ لحظات اخرى واقفا ينتظرُ.. في حين ربَت حارسُ
الامن بيده على كتفه وجرّه بأدبٍ، قائلا :
وجِيبْ معاكْ الوراقي..؟
اجاب: الوراقي، دياولاش..؟
دياول الخلاصْ الحاج !..
مين ..؟
مين الدار، والا منْ عندْ ولدك ..
ولْدي ، شكوون؟، فين ..؟
من الدار .. الحاج
اي دار ؟
الدار ديالك ؟
..
هامش:
بعد سنواتٍ..، وجدْتني متقاعدا، صامتاً.. غيرَ ملتزمٍ
بالطابور الطويل امام مكتب البريد انتظرُ حوالةَ الشهر ..التي لم تعدْ تكفي... والتي
مراتٍ لا اتذكرُ، كم فيها ولا من أين تأتي ..ولماذا أنا هنا وهناااك...