نمر سعدي بين اللازورد، الموسيقى والتاريخ (قراءة تأملية في ديوان "موسيقى مرئية") نور عامر/ فلسطين " اللازورد " من الأحجار الكريمة لونه
أزرق سماوي، ايحائات
الألوان، الأزرق الإمتداد والبعد .
مفردة تتردد كثيرا في شعر نمر سعدي، ديوانه الرائع
"موسيقى مرئية" يدخل اللون في البحوث السايكولوجية، لم تأت مفردة اللازورد
عبثا في شعر نمر سعدي، ربما هي تعبير لا واع عن نفس تتطلع الى الطموح التحرر والسمو.
لدينا في هذا الديوان خميلة ثرية متعددة المزايا
والمضامين، والميزة الجليّة، الرؤية المشبعة ثقافة وعمقا، لا سيما السياق التاريخي
بمعناه الأدبي، أي ان الشاعر الفنان يكتب تاريخ عصره بأحاسيسه ومشاعره الإنسانية. والشعر
يُعتمد عليه في الكشف عن تاريخ الأمم. فلولا الشعر ما عرف تاريخ العرب في الجاهلية.
وعندما أراد الأديب الفرنسي "باسكيه" أن يضع كتابا عن الحياة الوطنية في
القرون الوسطى لم يجد سبيلا إلا قراءة شعر الملاحم.
ونحن كمثال لم نع شعورا وإحساسا حقبة سوداء من تاريخ
العراق لولا قصيدة السياب "سربروس في بابل" الموجهة ضد حكم عبد الكريم قاسم،
وقد خفيت عن الرقابة. سربروس هو الكلب الحارس لمملكة الموت في أساطير الإغريق .
وهكذا ينداح سلطان الشعر ليزاول تأثيره جغرافيا
وأدبيا، يمتد حضور السياب الى قصيدة موسيقى مرئية : " من قاع نهر بويب تصعد لهفة
السّياب / يأتي صوته المحمول فوق الريح/ يصرخ في عراء الروح / يعصف بي كورد غامض المعنى
/ يعانق داخلي المجروح
" .
يمكن أن نحلل قليلا استضافة السياب في النص باكثر
من مغزى: جدلية الموت والحياة تستيقظ وتتداخل ..
السياب مات، لكن كلمته الصادقة لا تموت، صوته ما
زال يجأر في ضمير العالم. وليس التأثر بالسياب هو الدافع الرئيس في هذا السياق، إنما
نقطة الإلتقاء تؤكد وتحقق العلاقة وجودا وحركة بين مرحلتين حرجتين من حيث ظلم الإنسان
للإنسان، مرحلة السياب ومرحلة واقعنا العربي المأساوي. هكذا أفهم المسألة في المستوى
البسيط، كذلك أفهم وبنفس المستوى الإشارة الى أمرئ القيس، كواحد من الشعراء الفحول
وعى مأساته عقليا، في ليله الطويل.. وفي نبيذه..
إمرأ القيس لا يبدو دخيلا على النص أو نافرا عنه،
بل هو مضفور في النص معنى ومبنى. وهذه من التقنيات الهامة في الشعر الحديث .
نص نقرؤه قراءة متئدة بغية استيعابه ترميزا ومغزى :
" في ليلة ما عندما يصحو الندى في حنطة الأيام
/ سوف يضيئني وجعي الذي أدمنته زمنا ... / وتركض في مفاصل وردتي نار المجوس... / يحيلني
ندمي الى أنقاض فردوس / يحيل دمي فقاعات النبيذ المرّ في قلب امرئ القيس / المعذب بالجمال
الحرّ أو بلحاق قيصر
" .
كاد نمر سعدي باعتماده قليلا على الإيحاءات الخارجية
أن يعيدني الى بول فاليري "إذا آمن الشاعر بالوحي قتل الإبداع " .
لكن ايحاءات سعدي التي تتولّد فيه هي الغالبة، وهي
تتلّون حسا مرهفا، حدسا وموسيقى. من هذه المقومات نستنبط الجمالية ذوقا ومتعة، من خلال
جمال الفكرة واللفظة والعبارة والاسلوب:
" كان على ناصية الحلم يناديني / وكنت متعبا
أبحث عن سماء / كان يؤاخي صمته المنقوع بالنار / ويرفو غصّة الهواء بالأشجار والنساء
/ كان ... / وكنت متعبا أبحث في الجحيم / عن فراشة من ماء " .
وإذا أخذنا الموسيقى في هذا الديوان كموضوع مستقل،
نجدها تارة خالية من الصخب والأوتار التي تدق حركة الأذن؛ موسيقى هادئة صدى وإيقاعا،
تدغدغ الشعور نقاوة وصفاء. وطورا موسيقى بالكاد تسمع ! .
ومرد ذلك في اعتقادي أن الشاعر يتأرجح في عالمه
الشعري بين حالتين، حالة الحدس والخيال والإحساس المرهف، وهذه تستدعي موسيقى معينة
كضرورة لتحقيق الجمالية الأكثر ثراء لمثل هذا المناخ .
والحالة الثانية نزوع الشاعر ــ أحيانا ــ الى الواقعية
والجد في طرح أفكاره وبث رؤياه، الى درجة انه يمنطق المسألة، أو يحاول فلسفتها؛ فتنخفض
عنده عاطفة الجمال، لذلك يخفت صوت الموسيقى أمام حاجز الواقع شبه المجرد، أو الواقع
الموحش بدرجة لا تسمح للنغم أن يتأود أو يتألق .
وعموما لا تثريب في الشعر إن خفَت فيه صوت الموسيقى،
باعتبار أن مفهوم موسيقى الشعر في العصر الحديث قد تغيّر وتبدل، وأصبحت الموسيقى الحسية
ذات الدلالة والإيحاء تنافس موسيقى الصوت والنبرة بألوانها ولهجاتها، فوق المنابر والمحافل،
وفي طيات الكتب. ولذلك أسباب وظروف موضوعية لا متسع لشرحها الآن.
كلمة أخيرة، هذا العمل الإبداعي "موسيقى مرئية"
حقيقة أنه يحتاج الى أكثر من وقفة وأكثر من مقال، لما يضم بين دفتيه من موضوعات كثيرة
خصبة ذات شحنة تعبيرية معبأة بالتجربة والعاطفة والخيال .