-1- تظهر، بين وقت وآخر، من تاريخ العرب المعاصر «غيرالمجيد»،
دعواتٌ إلى التعليم باللهجات الدارجة.حدث ذلك في مشرق الوطن العربي ومغربه. ففي (المغرب
العربي) تُرَسْمَن «الأمازيغيَّة» في الدستور، ثمَّت برز، ربما بحافزٍ من ذلك، الدعوةُ
الأقوى إلى التعليم بالدارجة. يحدث هذا وذاك،
فيما اللغة الرسميَّة في واقع الأمر، أو شِبْه الرسميَّة، هي: اللغة الأجنبيَّة، ولاسيما
في دول المغرب العربي، لا العربية، ولا الأمازيغيَّة، ولا حتى الدارجة! فنحن أُمَّةٌ لا أُمَّ لنا لغويًّا، في الوقت الراهن. سواء أخذنا بأُفهوم الأُمِّ اللغويَّة، بمعنى اللغة
الأصليَّة، المتوارثة، أي العربيَّة، أو بأُفهومٍ مغلوط، يسعى لإزاحة الانزياح البلاغي
في مصطلح «اللغة الأُمِّ» نحو «لغة الأُمِّالبيولوجيَّة»، وهذا ما يفعله دعاة العامِّيَّات. لا أُمَّ للعرب اليوم إلَّا الإنجليزيَّة أو الفرنسيَّة،
مع أُمَّهات أخريات أقلّ شأنًا. كما لا أُمَّ
لهم لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الثقافة، إلَّا مرضِعات ومربِّيات من كلِّ
أقطار الأرض. وما دام العربيُّ قد ضيَّعَ أُمَّه،
فلن يتعلَّم. وتلك هي الحُجَّة التي استند
إليها الفرانكفونيُّون المغاربة للمناداة بالتعليم بلغة «الأُمِّ»، أي بالعامِّيَّة
المغربيَّة؛ لأن الطفل المسكين معاق عن التعلُّم بالعربيَّة!
لكن، ألا يتساءلون: علام تلك الإعاقة لا تنشأ إلَّا
حين تكون الأُمُّ هي اللغة العربيَّة؟
علام لا تنشأ الإعاقة حينما تكون الأُمُّ هي اللغة
الفرنسيَّة؟
أولاد هؤلاء بلابل بالفرنسيَّة، مع أنها ليست بلغتهم
الأُم، بأيِّ مفهومٍ لتلك الأُمومة. ولم تُعِق
تفكيرهم ولا تعلُّمهم، ما شاء الله!
ثمَّ مَن قال إن اللغة الأُمَّ، أي لغة الأُمِّالبيولوجيَّة،
هي السبيل الأمثل للتعلُّم؟
إنها نظريَّةٌ مبتكرة، إذن، كان ينبغي أن تُشرح
للأُمم التي أحيت لغاتها من مواتٍ وفرضتها وحضَّرتها، وحرَّمت لغات الأُمَّهات: العامِّيَّات. ينبغي أن تُشرَح لـ(إسرائيل)، التي أحيت جدَّتها
اللغويَّة من جدثها، بعد آلاف السنين، ولم تتنبَّه إلى أهميَّة الدارجة في التعليم. كما ينبغي أن تُشرَح تلك النظريّة الدارجة لـ(بريطانيا)،
كي تستدرك ما فاتها، وهي تمنع في مدارسها استعمال بعض لغات الأُمَّهات (العامِّيَّات)،
كالكوكنيَّةCockney، إشفاقًا على بريطانيا، حتى تلحق بالركب العِلْمي
العربي.عِلْمًا أن ما قد يسمِّيه بعضهم لهجات إنجليزيــَّة، كالإنجليــزيَّة الأسكتلنديَّة،
وإنجليــزيَّة ويــلز، والجيوردي، والكوكنــي، والإنجليزيَّة الإستواريَّة (في الجنوب
الشرقي)، وإنجليزيَّة وســط بريطانيا، وغرب بريطانيا، لا تعدو في معظمها لكنات إنجليزيَّة،
ذات فروقات صوتيَّة نُطقيَّة، وليست بلهجات (بمعنى لُغَيَّات) كاللهجات العربيَّة. ومع هذا غفل القوم عن المناداة بها في مناهج التعليم؛
كي يتعلَّم الشعبُ الإنجليزي ُّأكثر! وكذا
(الولايات المتَّحدة الأميركيَّة)،المتخلِّفة، لم تر أن ما يسمُّونه: «colloquial, slang
language» لغةٌصالحةٌ للاستعمال المحترم في الحياة
الراقية، والمناسبات التداوليَّة الوطنيَّة، كافيك عن المناداة بها في التعليم. ألا لعلَّها تعيد النظر، هي الأخرى، فتحذو حذو بعض
المنظِّرين العرب، كيتجعل لغاتها السوقيَّة لغات تعليمٍ في مدارسها وجامعاتها المعوقة! أمَّا (اليابان) و(الصين)، فحكاية تطول بطول الأبجديَّات
هناك وتعقيداتها!
-2-
لم تكتشف الأُمم الضالَّة من فضائل العامِّيَّاتما
اكتشفه العُربان، بفطنتهم المعهودة. ولا ما
أدركوه أيضًا من إمكانيَّة استغلال القنوات الفضائيَّة، والمسابقات الجماهيريَّة المليونيَّة
وغيرها، لإحياء العامِّيَّات، بقَبَلِيَّاتها الجاهليَّة، وقدُراتها الشِّعريَّة السِّحريَّة
على تحريش الضُّبَّان، العاربة والمستعربة والبائدة، وتحريض الجِراء المعاصرة، أحفاد
(ابن فسوة)، و(الحطيئة)، و(دعبل الخزاعي)، على المهارشات العربيَّة العريقة، طعنًا
في الأنساب، وهتكًا للأعراض، أو نشرًا للقِيَم الاجتماعيَّة الساقطة؛ ليُقتَل مَن يُقتَل،
ويُودَع مَن يُودَع السجون، من ضحايا العامِّيَّات والفضائيَّات، ومن تحت أذناب شِعرها
الجميل وتشجيع قارضيه، مادِّيًّا وإعلاميًّا.
وإذا كان الشِّعر يُعدُّ قِمَّة النصوص الأدبيَّة
في لغات العالَم، جماليَّةً وحكمة ًوعبقريَّةً، فإنه في عُرف العُربان كثيرًا ما يتجسَّد
في تحلِّي الرمز من رموزه بأن يكون قِمَّةً في السفاهة، وبذاءة اللسان، ودناءة النفس،
وقِلَّة الأدب. وما عليه بعد أن يهبه الشيطان
هذه الخصال النفسيَّة والأخلاقيَّة واللغويَّة الفذَّة إلَّا أن يَعْقِد معجونها الوبائيَّ
بالأوزان والقوافي، ليُنعَت شاعرًا علقمةً فحلًا، تلهث وراءه الجماهير والمعجبون والمعجبات.
-3-
إن اللغات الحيَّة، التي نتعلَّق بأهدابها اليوم،
كانت- كما يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي- دوارج ذات يوم، فاحتاج
الأمر إلى دهورٍ حتى استقامت على سُوقها، فأصبحت لغات أدبٍ وثقافةٍ وعِلْمٍ وتعليم. ولقد ظلَّت اللاتينيَّة، إلى القرن التاسع عشر،
تسير جنبًا إلى جنب مع اللغات الأوربيَّة الوليدة، الفرنسيَّة، والإنجليزيَّة، والإيطاليَّة..
إلخ، تعليمًا وكتابة. ولم يأت نهوض تلك اللغات،
بوصفها لغات تعليمٍ وفكرٍ وأدبٍ، عبر دعوةٍ، أو بقرارٍ سياسيٍّ، أو بالنصِّ عليها لغةً
رسميَّة في دستور. ولكن عبر مخاضٍ تاريخيٍّ
طويلٍ طويل ٍمن الإنتاج والبناء الأدبي والفكري والفلسفي، بل عبر حروبٍ أيضًا، وأحقادٍ،
جعلتْ اللغة الوطنيَّة تتحوَّل إلى مُعادلِ وجود، وإلى رمزِ هويَّة، وتُرْسٍ سياسيٍّ
ضِدَّ الآخَر. فانسحبت اللاتينيَّة، في غضون
ذلك، إلى لغة طقوسٍ دِينيَّة، شيئًا فشيئًا، لا لغة حضارةٍ وتعاملٍ حيويٍّ بين الناس. وما كذلك اللغة العربيَّة. لأن العربيَّة، وإنْ كانت لغةًدِينيَّة- ولا لغة
في الكون غير ذات جذورٍ دِينيَّة، بصورةٍ أو بأخرى- هي لغة حضارة، تضرب في أعماق التاريخ،
من قبل الإسلام ومن بعده. أمَّا «إنفلونزا
الإسلام»- التي يشكو منها بعض من يحاربون العربيَّة، لا لشيءٍ سوى الشَّبَح الأصولي
الدِّيني (قبل أي همٍّ آخر)- فالمصابون بها إنما يعالجون «أنف عنزتهم» علاجًا جاهلًا،
وقاصرًا بالضرورة، ومغالِطًا، كأغرب ما تكون المغالطات.وهم في ذلك كالمستجير من الرمضاء
بالنار؛ لأن ما فرُّوا منه سيجابههم في ثقافات العامِّيَّات وتراثاتها،وبأضعاف مضاعفة
من الأوبئة التاريخيَّة، بما في ذلك «أنف العنزة» الذي أقضَّ مضاجعهم!